ملخص
تصورات النصر الحاسم في الشرق الأوسط خدّاعة؛ فالتاريخ هنا لا يسير في خط مستقيم بل يعود في دورات من الفوضى والانتقام. كلما اقتربت إسرائيل من النصر الكامل على إيران، اقتربت أكثر من موجة جديدة من الغضب المكبوت وأشكال أشد فتكاً من الحروب غير المتكافئة.
بالنسبة إلى كثرٍ خارج الشرق الأوسط، تبدو الحرب الأميركية والإسرائيلية مع إيران وكأنها رواية تقليدية ذات تسلسل خطي واضح: جيوش الحليفَين القوية وأجهزة استخباراتهما مصطفة في مواجهة خصمهما، مستعدة للفوز، على أعتاب تحقيق نصر حاسم لا لبس فيه. ويُنظر إلى المعركة ونتيجتها المتوقعة من خلال عدسة نماذج وسوابق تاريخية مألوفة، على غرار ما حدث في ألمانيا بقيادة هتلر التي سُحقت واستسلمت، فقررت الرضوخ لمطالب المنتصر، ثم اليابان التي حذت حذوها. وعندما يتحدث مؤيدو هذه الحرب عن استسلام أحد الطرفين وعن وقوف الآخر في الجانب الصحيح من التاريخ، فإنهم يستندون إلى مفاهيم واضحة عن التقدم والنهاية الحتمية. فالتاريخ، في نظرهم، يتقدم في خط مستقيم، متجهاً بسرعة نحو بر الأمان، ومن لم يختَر الجانب الصحيح سيبقى تائهاً بلا وجهة.
ولكن بالنسبة إلى أولئك الذين يعرفون الشرق الأوسط، فهذه الأفكار لا معنى لها. إنها مجرد هراء.
للمنطقة سوابقها الخاصة. ففي وقت مبكر من سبعينيات القرن الـ20، أدى سحق الأردن للمقاتلين الفلسطينيين إلى ظهور “منظمة أيلول الأسود” ومذبحة ميونيخ الأولمبية بحق الرياضيين الإسرائيليين. واجتاحت إسرائيل جنوب لبنان عام 1982 وفرضت نفي “منظمة التحرير الفلسطينية” إلى تونس. وكانت النتيجة: صعود “حزب الله” النشط، ومع مرور الوقت، انتقال الفلسطينيين المنفيين إلى أماكن أقرب إلى إسرائيل، في غزة والضفة الغربية. وفي ثمانينيات القرن الماضي، أسهم دعم واشنطن للمتطرفين الأفغان في طرد القوات السوفياتية، لكنه أدى أيضاً إلى صعود حركة “طالبان” وجيل من الجماعات المتشددة، بما في ذلك تنظيم “القاعدة”، التي رأت أن الأميركيين هم الأشرار والأعداء الرئيسين. وبعد انتصار واشنطن في حرب الخليج 1990-1991، جعل أسامة بن لادن وأتباعه الولايات المتحدة هدفهم الرئيس. وبعدما نفذوا هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول)، غزت إدارة جورج دبليو بوش أفغانستان، وهزمت “طالبان”، وأطاحت لاحقاً بنظام صدام حسين في العراق. ولكن بعد 20 عاماً، عادت “طالبان” للسلطة. وفي العراق، نهض تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من بين الأنقاض، وقامت الميليشيات الموالية لإيران بدور مهيمن في البلاد.
وحينما اندلعت الثورات في جميع أنحاء الشرق الأوسط عامي 2010 و2011، رحّب الغربيون بـ”الربيع العربي”، واحتفوا بالنشطاء الليبراليين، وهلّلوا لانتشار الديمقراطية. لكن سرعان ما خيّم الظلام؛ وأصبحت هذه التظاهرات السلمية والقيم السامية التي غذّتها مجرد ذكريات بعيدة. وفي نهاية المطاف، أفسح نظام الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، المجال أمام حاكم مستبد أكثر بطشاً. وأدت الإطاحة بالحكومة اليمنية إلى هيمنة الحوثيين؛ وأسفر سقوط معمر القذافي في ليبيا عن حال من الفوضى وعدم الاستقرار والعنف. وعلى رغم رحيل بشار الأسد، فإن مصير سوريا لا يزال غامضاً. إذاً، فالتاريخ لا يتحرك إلى الأمام، بل ينزلق جانباً ويتجه نحو أماكن غير متوقعة على الإطلاق [التاريخ لا يتبع خطاً مستقيماً، بل ينحرف ويتجه نحو مفاجآت لا يمكن التنبؤ بها].
قد تنتصر إسرائيل في حربها ضد إيران، تماماً كما قد تنتصر في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي لبنان وفي سوريا. وربما تخرج منتصرة كقوة إقليمية مهيمنة بلا منازع. وستبدو إيران نمراً من ورق؛ وسيتعرض حلفاؤها من التنظيمات غير الحكومية للهزيمة والتراجع، وسيدمر برنامجها النووي، وسيتحول جيشها إلى ظل لما كان عليه سابقاً. وقد لا تتحقق أحلام إسرائيل بتغيير النظام، لكن من المحتمل أن تكون الفوضى هي المنتصر الوحيد. وبالنسبة إلى كل من رأى في إيران عملاقاً، وأرعبته قدرتها على الردع وشلت حركته تهديداتها، فهذه أيام الحساب.
وربما يدوم هذا الوضع لفترة. ومن الممكن أن يطول الفارق الزمني بين النتيجة الفورية الظاهرية وما سيترتب عليها لاحقاً: فشعار “إنجاز المهمة” قد يستمر لأيام أو أسابيع أو أشهر أو حتى أعوام. ولكن ماذا بعد ذلك؟ من السهل أن نغترّ بما يحدث الآن ونظنه الأكثر دلالة وأهمية. لكن ذلك لا يصمد إلا إلى حين مجيء الحدث التالي. والقصة لا تنتهي. فالقوة تستدعي قوة مضادة. والنجاح يولد ردود فعل تؤدي إلى نقيضه. وكلما اقتربت إسرائيل من النصر الكامل، اقتربت أكثر من حال من عدم اليقين التام ومن أخطار ناجمة عن إذلال مكبوت وغضب دفين ومشاعر سخط متراكمة. وهذا النوع من النصر ليس مكاناً آمناً.
من المحتمل ألا تكون الأخطار المقبلة من النوع المألوف
بالنسبة إلى الإسرائيليين، كان إغراء التحرك لا يقاوم. لقد انتظروا عقوداً لاغتنام فرصة الإطاحة بأعدائهم، سواء كانوا قريبين أو بعيدين، حقيقيين أو متخيلين. وبعد أن زالت جميع القيود، باتوا يرون أن لا شيء يحدهم سوى مدى قدرتهم على التنفيذ، وهم قادرون على فعل الكثير. لكن من المفترض أن تكون الولايات المتحدة والدول الأوروبية تعلمت من التاريخ. فاليهود لم ينسوا ارتباطهم بالأرض المقدسة على رغم مرور ألفي عام من النفي. أما الفلسطينيون واللبنانيون والإيرانيون الذين ما زالوا يتذكرون معركة كربلاء في القرن السابع التي استُشهد خلالها الحسين، حفيد النبي محمد (ص)، فلن ينسوا المآسي التي حلّت بغزة وقصف مدنهم والمجازر والعار واغتيال قادتهم وازدواجية الغرب ونفاقه وانحطاطه الأخلاقي. وأمام ذاكرة بهذا العمق والقوة وآفاق تاريخية بهذا الامتداد، فإن كثيراً مما يُعد جوهرياً اليوم سيكون عديم القيمة غداً.
ومن المحتمل ألا تكون الأخطار المقبلة من النوع المألوف. فقد تتمثل في إعادة تشكيل “محور المقاومة” الإيراني، بطريقة لا تقل تأثيراً أو شمولاً عن التغييرات وإعادة الهيكلة التي فرضتها إسرائيل بالقوة. فعلى مر السنين، وسط شعورها بفائض من القوة، بنت إيران ترسانتها التقليدية، معتقدة بأنها قادرة على ردع إسرائيل ومنافستها في ساحة كثيراً ما تفوقت فيها الدولة اليهودية. فأقام “حزب الله”، وعلى خطاه “حماس”، شبه دولة في لبنان وغزة، مع مسؤوليات مدنية معقدة وقوات عسكرية شبه نظامية. وفي الواقع، رأى الثلاثة في تلك الإنجازات دليلاً على القوة، لكنهم غفلوا عن مدى ما جعلهم ذلك عرضة للانكشاف، ولم يدركوا أن القوة الظاهرة قد تخفي ضعفاً جوهرياً.
هناك سبب وراء اعتمادهم في البداية على أساليب حروب العصابات المتنقلة والمراوغة. كانت قوتهم تكمن في عدم التماثل. ولكن عندما انحرفوا عن المسار لمحاولة مجاراة عدوهم، ضلوا الطريق وفقدوا السيطرة. فباتوا مكشوفين. وخلال الأيام والأعوام المقبلة، ربما يشعرون بأنهم مضطرون إلى العودة للأساليب القديمة. وربما لا يمر وقت طويل قبل أن يقرر مزيد من الفلسطينيين واللبنانيين والإيرانيين وغيرهم ممن يؤمنون بالقضية، اليائسين الذين فقدوا أصدقاءهم أو أقاربهم ويتوقون إلى الانتقام في ظل عدم وجود أي أمل في الأفق، أن يلجأوا إلى أشكال غير تقليدية من الحرب، بعضها مخطط له بإتقان، وبعضها ارتجالي، في نسخة أكثر فتكاً وتطوراً من عمليات خطف الطائرات والحافلات واحتجاز الرهائن والعمليات الانتحارية التي رأيناها في الماضي. شيء جديد ومختلف وأكثر تدميراً، وفي الوقت نفسه عودة للماضي. وقد تصبح إنجازات إسرائيل في مجال الاستخبارات التقنية والهجمات السيبرانية وتفجير أجهزة النداء الآلي والاغتيالات الدقيقة ومذابح المدنيين الجماعية وغير ذلك، نماذج تُحتذى من قبل الجميع بلا استثناء. وبدأت المؤشرات على ذلك بالظهور فعلاً.
إن التاريخ لا يصل إلى وجهته إلا بعد أن يضلّ طرقاً كثيرة. والأعوام المقبلة لن تكون ثمرة خطط محكمة أو سياسات مدروسة بدقة، بل ستشكلها الغريزة والانفعال، وستقودها رغبات عميقة في الانتقام وتصحيح المظالم التاريخية. هذا عالم لم يبنِه الأميركيون، ولم يصمم لهم – وسيجدون أنفسهم تائهين فيه.
مترجم عن “فورين أفيرز” 23 يونيو (حزيران)، 2025
حسين آغا أمضى أكثر من 25 عاماً كزميل رفيع الشأن في كلية سانت أنتوني بجامعة أكسفورد، وكان مشاركاً في المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية لأكثر من ثلاثة عقود.
روبرت مالي محاضر في كلية جاكسون للشؤون العالمية بجامعة ييل. شغل منصب المبعوث الأميركي الخاص إلى إيران في إدارة بايدن، وكمنسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط في إدارة أوباما.
هما مؤلفا الكتاب الذي سيصدر قريباً بعنوان “الغد هو الأمس: الحياة والموت والسعي إلى السلام في إسرائيل – فلسطين”.