احتجز في المعتقلات الفرنسية بسبب التابس هويته في مقاطعة الألزاس ونال جائزة نوبل للسلام بعد خدماته في أفريقيا
ملخص
كان الطبيب الأوروبي ألبرت شفايتزر ضائعا بين هويتين، الألمانية والفرنسية، بحكم انتمائه إلى إقليم الألزاس المتنازع عليه بين البلدين قبل الحرب العالمية الثانية، لكن مشروعه الإنساني الذي انطلق به من أفريقيا جعله أقرب إلى أن يكون مواطنا عالميا
هل كان الطبيب الأوروبي ألبرت شفايتزر الذي يحتفل العالم هذا العام بمرور 150 سنة على ولادته، فرنسياً أم ألمانياً؟ ببساطة، لكم أن تختاروا فخال جان بول سارتر هذا، الذي كان يتنقل بسهولة بين “القوميتين” واللغتين الأكثر حضوراً وتداولاً في أوروبا القارية، كان من أبناء الألزاس في واحدة من حقباتها الألمانية رغم انتسابه لعائلة يمكنها أن تعد نفسها فرنسية كعادة أهل هذا الإقليم المتنازع عليه في ذلك الحين بين فرنسا وألمانيا.
من هنا لن يكون غريباً ذات حين أن تعتقله السلطات الاستعمارية الفرنسية في أفريقيا لكونه مواطناً ألمانياً، ثم أن تحتفل به فرنسا لاحقاً بوصفه وليد ألزاسها حين نال جائزة نوبل للسلام عام 1953. إذ باتت الألزاس تابعة لها وبات الرجل وهو يدنو من تسعينياته من مواطنيها. كما بات يحوز على شهرة توازي شهرة قريبه جان بول سارتر فيلسوف فرنسا الوجودي الكبير. لكن شفايتزر كان على أية حال أكثر أهمية وحضوراً في قرن الإنسانية الكبير، من أن تشغله مثل تلك التصنيفات. بل لعله آثر دائماً أن يحسب أفريقيا هو الذي عاش في أفريقيا وخدمها من منطلق طبي وإنساني خلال معظم سنوات حياته. وكانت تلك الحياة ذات الرونق الإنساني العميق، قد بدأت في عام 1906 حين كان شفايتزر في الـ31 وقرأ مقالاً في صحيفة فرنسية يتحدث فيه كاتبه عن حاجة مستعمرة الغابون في أفريقيا إلى أطباء يضعون أنفسهم في خدمة السكان المحليين.
بين الطب والموسيقى
كان للمقال فعل السحر في نفس ذلك الشاب الذي سيقال عنه لاحقاً، إنه منذ صباه الباكر كان يحلم بذلك اليوم الذي يمكنه فيه أن يخدم الإنسانية المعذبة. ومن هنا لم يلبث أن اتخذ قراره وقد وجد نفسه، على رغم انتقادات رفاقه، ينصرف خلال السنوات السبع التالية من حياته لكي يتعمق في دراسة الطب لا سيما الاستوائي منه، غير منشغل في تعمقه ذاك عن متابعة اهتمامه بالناحيتين الأخريين اللتين كان مشغولا بهما من قبل: الدين والموسيقى. وهكذا في ختام سنوات الدراسة الطبية السبع والتي كان قد تزوج خلالها من حبيبته هيلين بريسلاو، توجه مع زوجته إلى قرية تدعى لامبريني في أواسط أفريقيا وكانت كمعظم المناطق المجاورة لها، تحت الحكم الاستعماري الفرنسي. ولن يكون من المبالغة هنا أن نشير إلى أن تلك الحياة الأفريقية ستبدو كالأسطورة عند نهايتها حيث تضافر فوز شفايتزر بالجائزة النوبلية الإنسانية الكبرى مع تحوله إلى مدافع أكبر عن الإنسانية في أزمنة كان الحس الإنساني قد بدأ يضمحل خلالها، مع تعبيره عن الشغفين اللذين تملكاه: الدين كفعل إنساني، من خلال كتاب سيضعه عن القديس بولس أحد حواريي السيد المسيح، وعن الموسيقى من خلال كتاب مرجعي عن استخدام جان سيباستيان باخ لآلة الآرغن وتقعيده لها. وهي الآلة الموسيقية التي كانت مصدر شغف لشفايتزر منذ طفولته الكنسية على أية حال.
ألبرت شفايتزر في قريته الغابونية (موسوعة الرحالة الأوروبيين)
البيانو بإصبع واحدة
ولد ألبرت شفايتزر في قرية كايزرسبيرغ بالألزاس عند بداية عام 1875 لعائلة تضم عدداً كبيراً من الموسيقيين والقساوسة وكان ثاني إخوة خمس. وهو لم يكد يبلغ الخامسة من عمره حتى كان قد بدأ يجيد العزف على البيانو بإصبع واحدة. وسيكون في التاسعة حين يبدأ ممارسة العزف على الأرغن في قداسات يوم الأحد في بلدة غرونزباخ التي استقرت أسرته فيها بعد مولده.
في الدراسة راح يظهر جلياً ميله إلى العلوم الطبيعية دارساً على يد البروفيسور الفرنسي شارل ماري فيدور. وما إن بلغ الـ18 حتى انصرف إلى دراسة اللاهوت والموسيقى يدفعه إلى ذلك انبهاره الواضح بشخصيتي السيد المسيح وباخ. وفي تلك الأثناء نراه يتوجه إلى باريس لينجز دراسته المزدوجة في الفلسفة واللاهوت في جامعة السوربون ليحصل وهو في الـ24 على أكثر من شهادة عليا في المجالين، فيعود إثر ذلك واعظاً في كنيسة القديس نيكولاس بمدينة ستراسبورغ حيث حاضر أيضاً في جامعتها المتخصصة في فقه الدين واللاهوت. وبتأثير من تلك المحاضرات كما من العزف الكنسي، سيضع لاحقاً كتابيه الكبيرين اللذين أشرنا إليهما أعلاه.
لكن شفايتزر سيبدو أكثر تقنية من ذلك حين ينشر كتاباً موسيقياً آخر يختص بصناعة الأرغن والعزف عليه في كل من فرنسا وألمانيا. وكان ذلك في وقت توجه فيه مع زوجته إلى الغابون كما أشرنا. ولعل ما يجدر بنا أن نشير إليه هنا هو أن كل الظروف التي ستواجهه في القارة البائسة كان من شأنها أن تثبط همة أي شاب طموح من طينته. فلم تكن البيوت الحجرية قد شيدت ولا المياه قد جرت ولا الزراعة انتظمت. بل إن حجرة العبادة التي سيمضي شفايتزر حياته فيها كانت أشبه بقن للدجاج ملحق بمسكنه. ناهيك بأنه عجز في البداية عن العثور على أي من السكان المحليين يمكنه أن يلتحق بالعمل معه مساعداً.
مع السكان المحليين
ومع ذلك انتشر خبر وصول الزوجين شفايتزر في قرية لامباريني الغابونية وما يجاورها وراح الأهالي يتزاحمون على مدخل بيته و”عيادته” ليعالجهم من تلك الأمراض المميتة التي تهاجمهم وتنتشر بينهم من الملاريا إلى مرض النوم ومن الديزنطاريا إلى الجرب… ومن ثم وجد الطبيب الشاب نفسه في مواجهة زحام لا يرحم. بل وجد نفسه مضطراً لإجراء عمليات جراحية لم يكن له بمثلها عهد من قبل.
وكأن ذلك كله لم يكن كافياً له إذ وجد نفسه مدعواً بصورة متواصلة إلى مناطق وبلدات وقرى أخرى للوعظ بين السكان المحليين وتطبيبهم، ولم يتردد عن تلبية الدعوات ودأبه الدائم “خدمة الله والبشر سواء بسواء”. وهو نفسه كان يقول عن ذلك، “كان عملاً رائعاً وجليلاً أن أبشر وأعظ في أناس لا يعرفون شيئاً عن السيد المسيح أو عن بولس الرسول…”.
ولكن من ناحية أخرى لم يكن قد مضى على شفايتزر منذ وصوله زمن طويل حين اندلعت الحرب العالمية الأولى. ولما كان مسقط رأسه الألزاس لا يزال حينها تحت السلطة الألمانية، سارعت السلطات الفرنسية المحلية في الغابون إلى إلقاء القبض عليه وعلى زوجته بوصفهما من رعايا الدولة الألمانية العدوة. وفي خضم تلك التطورات والمشهد الدولي والمعقد، لم يجد شفايتزر أمامه إلا أن يدون خواطره ومواقفه الإنسانية في نص سيكون مركز الكتاب الذي سيصدر لاحقاً بعنوان “فلسفة الحضارة”. ولعل اللافت في هذا الكتاب أن مؤلفه قد بدأ يخط صفحاته الأولى منذ اليوم التالي لإدخاله المعتقل!
ألبيرت شفايتزر يرد على تجاهل الغرب للأفكار التي حركت غاندي
كتاب “آرون ناقد سارتر” يستعيد عصر أسياد الساحة الفكرية
في مأوى الأمراض العقلية
سوف يمضي شفايتزر وزوجته عامين في المعتقل الغابوني قبل أن ترسلهما السلطات الفرنسية إلى معتقل غاريسون داخل فرنسا ومن هناك، لاحقاً، إلى سجن سان ريمي الذي كان من قبل مأوى للأمراض العقلية. وهناك عاش شفايتزر تجربة بالغة البؤس والغنى في الوقت نفسه بين تاريخ المبنى وحاضره. غير أن الهدنة ونهاية الحرب وضعتا حداً لذلك كله، ليطالعنا الطبيب الموسيقي المحرر وقد قرر أن يعود إلى أفريقيا من جديد. وهو في سبيل ذلك قام بجولة قادته إلى سويسرا وبريطانيا وبعض دول الشمال الأوروبي لجمع أموال تمكنه من السفر والإقامة في أفريقيا وتطوير سبل عمله الطبي الإنساني هناك، وتحديداً في قرية لامبريني الغابونية نفسها. والجدير ذكره أنه راح في بعض جولاته الأوروبية يقيم حفلات موسيقية يعزف فيها هو نفسه على آلة الأرغن. وهو أمر سيواصله طوال سنواته التالية حيث كان يقيم ذلك النوع من الحفلات كلما احتاج مستشفاه الذي بناه في لامبريني إلى مساعدات.
أما رحلته التي لن تبارح ذاكرته أبداً فهي تلك التي قام بها عام 1949 إلى الولايات المتحدة لمناسبة احتفالات الذكرى المئوية للشاعر الألماني الكبير غوته. ولسوف يبهره الترحيب الذي لاقاه تجواله في “العالم الجديد” بحسب تعبيره. ولا شك أن تلك الرحلة الأميركية كانت الخطوة الأكبر أهمية في مسار عمله الإنساني. بل الخطوة التي جعلت مجلة “تايم” تختاره لغلاف عددها السنوي لعام 1950 معلنة إياه “رجل القرن الـ20”. ونعرف أن مسيرة شفايتزر قد توجت بعد ذلك بثلاثة أعوام حين منحته لجنة نوبل جائزتها للسلام لعام 1953. وهو عاش دزينة من السنوات بعد ذلك ليرحل في عام 1965 في نفس قريته في الغابون.