هل المجتمع الدولي جاد في مساعدة سوريا على الخروج من أزمتها؟ حتى هذه اللحظة لا يمكن أن نقول نعم.. السوريون مازالوا يسمعون “جعجعة” ولكنهم لا يرون في النتيجة “طحنًا”.
حزم الحقائب لا يكفي
بعد 14 عاما من اللجوء تبقى صورة الوطن التي احتفظنا بها في الذاكرة تغري بالعودة: بيت ينتظر وجيران يسألون وشجرة توت واقفة في الفناء. لكن ما أن نتهيأ ونخرج سلسلة المفاتيح القديمة من مخبئها، ونتخذ قرار العودة، حتى نفاجأ أن الطريق إلى الوطن ليس معبّدا بالورود، بل مفروش بأصناف التعقيدات والمخاوف الأمنية.
منذ سقوط نظام بشار الأسد أواخر 2024، تحوّلت آمال عودة السوريين اللاجئين إلى الوطن إلى مادة يتم الحديث عنها بتفاؤل في التصريحات الدولية، إلّا أن الواقع أقل شاعرية من هذا. التحوّل السياسي لم يغيّر تلقائيًا شروط الحياة، ولم يُصلح فجوة الثقة بين هؤلاء الذين قرروا الرحيل ذات يوم تاركين خلفهم كل شيء، وبين وطنٍ لا يزال يتلمّس عافيته.
في الشهر الأول بعد الانهيار، عاد ما يقارب 125 ألف لاجئ سوري، معظمهم من تركيا ولبنان والأردن. رقم يبدو واعدًا، لكنه بالمقابل يخفي ملايين آخرين ما زالوا يترددون في اتخاذ القرار متسائلين: هل البلد آمن؟ هل الدولة جادة في وعودها؟ أم أن الحكم الجديد أكثر شمولية ممّا مضى؟ كلها أسئلة لا يستطيع أحد تقديم جواب شاف لها حتى هذه اللحظة.
في ظل حكومة تقودها هيئة تحرير الشام – وإن أعلنت منذ اليوم الأول عن حلّ نفسها – تتزايد المخاوف. رغم الوعود الطيبة، ورغم تعيين امرأتين في مناصب رسمية، ما تزال مخاوف الأقليات، والنساء قائمة، خاصة مع خلفيات لا تُمحى بسهولة من الذاكرة أو من انتقادات يوجهها المراقبون ومن أحداث تعكر الهدوء والسكينة.
العودة ليست فعلًا إداريًا، بل تجربة إنسانية تتقاطع فيها السياسة بالذاكرة، والحرب بالرغيف، والمنفى بالوطن. لا أحد يملك الحق في أن يطلب من السوري أن يعود قبل أن يشعر بأن تلك الأرض ترحب به لا تراقبه
الأمن ليس كل القصة، وليس كل ما يخشاه اللاجئون الذين يخططون للعودة. المدن المدمرة لا تُرمم بالوعود، وعودة اللاجئ ليست فقط إلى بقعة أرض. لا بد من توفر شروط الحياة. الكهرباء والمياه والرعاية الصحية ليست كماليات يمكن الاستغناء عنها، بل هي أساسيات يبنى عليها قرار العودة. هل يعود من يعرف أن النظام الطبي منهار؟ وأن البنية التحتية شبه معدومة؟ وأنه حتى عام 2024، كان أكثر من نصف سكان سوريا ينتظرون مساعدات إنسانية؟
ثم هناك أيضا مشكلة المشاكل، التي لا يمنحها السياسيون حيزا كبيرا من التفكير.. المنزل. الكثير من اللاجئين لا يملكون بيتًا يعودون إليه؛ لا لأن الدمار ابتلعه، بل لأن خرائط الملكية تغيّرت، والاستيطان الطائفي، في بعض المناطق، غيّر معالم الأرض وأضاع حق الملاك الأصليين.
هل المجتمع الدولي جاد في مساعدة سوريا على الخروج من أزمتها؟ حتى هذه اللحظة، لا يمكن أن نقول نعم. السوريون مازالوا يسمعون “جعجعة”، ولكنهم لا يرون في النتيجة “طحنًا”.
في خطوة تعكس واحدة من المفارقات العجائبية، أعلن البنك الدولي عن منحة لسوريا بقيمة 146 مليون دولار لـ”استعادة الكهرباء ودعم التعافي الاقتصادي.”
تصادف الإعلان عن المنحة مع خبر لم أستطع تجاهله، لما يحمل من مفارقة، هو ما وصف بـ”زفاف القرن” بين جيف بيزوس، مؤسس أمازون، والإعلامية الأميركية لورين سانشيز، في مدينة فينيسيا (البندقية) الإيطالية، ويقال إن كلفة الحفل بلغت 20 مليون دولار، وهناك من يتحدث عن 50 مليون دولار، وأكثر، باعتبار الهدايا.
دعونا نبارك للعروسين ونتابع..
من الناحية الشكلية، تبدو مبادرة البنك الدولي إيجابية؛ العالم لم ينسَ سوريا، والبنك ما زال يضع البلاد المنكوبة ضمن “خطة الدعم التنموي.” ولكن.. حين نضع هذا الرقم المتواضع في كفة ونضع في الكفة الأخرى أرقام الدمار- نحو 400 إلى 900 مليار دولار كلفة إعادة إعمار وفق تقديرات البنك الدولي نفسه – تتحوّل المنحة إلى ما يشبه محاولة إسعاف مريض بجلطة قلبية بإعطائه حبة “أسبرين”.
أكثر من 80 في المئة من الشبكة الكهربائية السورية تضررت أو خرجت عن الخدمة. مدن كاملة تعيش في ظلام مزمن، والمواطن السوري يقيس نهاره بمدة شحن البطارية. ومع ذلك، يقال له إن مبلغًا يعادل تكلفة تطوير محطة قطارات أوروبية سيعيد له النور والأمل.
146
مليون دولار ليست سوى مبلغ تافه يتقاضاه لاعب كرة قدم. الإعمار في سوريا يبدأ من إعادة الاعتبار للسوريين أنفسهم، لا بمعاملتهم معاملة المتسولين.
المفارقة ليست في المبلغ وحده، بل في الصياغة التي تحوّل القليل إلى وفرة؛ فالحديث عن “إعادة إمدادات موثوقة وبأسعار ميسورة” و”خطوة أولى نحو التنمية،” يعيدنا إلى نمط لغوي مألوف: التجميل البلاغي للفقر، والمبالغة في تسويق النوايا على حساب الوقائع.
لا أحد يرفض أيّ دعم دولي، مهما كان رمزيًا، لكن ما يُزعج هو أن تُقدّم هذه “الحسنات” على أنها مشاريع إنقاذ شامل. سوريا التي أنهكت، لا تحتاج فقط إلى إصلاح خطوط الكهرباء، بل إلى إصلاح في طريقة تفكير العالم بشأنها، إلى كرم في تمويل الاستقرار، كما كانت “سخية” في تمويل الفوضى.
146 مليون دولار ليست سوى مبلغ تافه يتقاضاه لاعب كرة قدم. الإعمار في سوريا يبدأ من إعادة الاعتبار للسوريين أنفسهم، لا بمعاملتهم معاملة المتسولين.
في المهجر، لم تكن حياة المهاجر نزهة، بل كانت صراعا يوميا مستمرا للبقاء. في أوروبا، حصل البعض على اللجوء الكامل، وآخرون على حماية إنسانية. ومع ذلك، بدأت بعض الدول، مثل النمسا، بالتلويح بإيقاف طلبات اللجوء أو تسريع الترحيل، باعتبار أن “سبب الحماية زال.” ولكن من يقرر إن كان “الخطر” قد زال فعلًا؟ مكاتب باردة خالية من العواطف، أم ذاكرة رجل نجَا من الحرب بأعجوبة؟
في تركيا، حيث يوجد قرابة 2.9 مليون لاجئ سوري، باتت الحياة أكثر صعوبة؛ بين خطاب الكراهية، وزلزال 2023، وتراجع الاقتصاد، أصبحت الحماية المؤقتة اسمًا بلا مضمون. أما في لبنان، البلد الذي يستضيف النسبة الأعلى من اللاجئين مقارنة بعدد سكانه، فالضغط دفع المسؤولين إلى اعتماد سياسة الترحيل القسري، وتصاعد الخطاب العنصري، في غياب اتفاقيات تحمي الحقوق أو تُنظّم اللجوء.
منذ سقوط نظام الأسد في أواخر 2024، بدأت نبرة السياسات الأوروبية تتغير تدريجيًا، لا نحو الترحيب بعودة السوريين، بل نحو رفع الغطاء القانوني عنهم.
بحلول منتصف 2025، أوقفت 12 دولة أوروبية على الأقل استقبال طلبات لجوء جديدة من سوريين، وبدأت دول أخرى في مراجعة ملفات الحماية المؤقتة، الإنسانية، بذريعة “تغير الظروف الموضوعية.”
ليست كل قصص العودة قصص خيبات. البعض عاد وأعاد ترميم بيته المتهاوي، أو زرع قطعة الأرض كما كان يفعل في الصغر. لكن البعض الآخر عاد ليصطدم بواقع لم يكن في الحساب
يستند هذا التوجه إلى بند قانوني في اتفاقيات جنيف يسمح بإلغاء أو رفض تجديد الحماية إذا “زالت أسباب الخوف من الاضطهاد.” لكن التحدي هنا أن تغيّر النظام لا يعني بالضرورة تحسّن البيئة الحقوقية أو ضمانات الحماية المستدامة.
وبينما تدافع بعض الحكومات عن هذا التوجه بادعائها “عودة الحياة الطبيعية” إلى سوريا، يراه حقوقيون وعاملون في مراكز حقوق الإنسان تهديدًا صريحًا بحق العودة الطوعية، ويخشون أن تتحول العودة من خيار شخصي إلى ضغط سياسي، خاصة عندما يُشترط على اللاجئ إثبات “خطر شخصي مستمر” لإبقاء وضعه القانوني.
وبينما يُخيَّر اللاجئون على الورق، يُدفَعون إلى العودة، ولو دون ضمانات؟
تقترح بعض الدول “زيارات استطلاعية” تسمح لأفراد من العائلات بالعودة مؤقتًا لتقييم الوضع ثم العودة إلى البلد المضيف. سياسة طُبقت مع الأوكرانيين، وجُرّبت مع لاجئي البوسنة والسودان، وبدأت تركيا باعتمادها مؤخرًا. حل جزئي؟ ربما. لكنه لا يحلّ المعضلة الأخلاقية: العودة لا ينبغي أن تكون بضغط الإعالة، بل بصون الكرامة.
ليست كل قصص العودة قصص خيبات. البعض عاد وأعاد ترميم بيته المتهاوي، أو زرع قطعة الأرض كما كان يفعل في الصغر. لكن البعض الآخر عاد ليصطدم بواقع لم يكن في الحساب: لغة غريبة في الشارع، حواجز يديرها ملثمون، وماضٍ لا يجد له أثرا.
العودة ليست فعلًا إداريًا، بل تجربة إنسانية تتقاطع فيها السياسة بالذاكرة، والحرب بالرغيف، والمنفى بالوطن. لا أحد يملك الحق في أن يطلب من السوري أن يعود قبل أن يشعر بأن تلك الأرض ترحب به لا تراقبه.
النتيجة؟ الآلاف من السوريين يعيشون اليوم في قلق مزدوج: بلد لم يستكمل تحوّله، ومجتمع مضيف يُعيد تقييم حضورهم.