فيما يبدو إغراءً لدمشق، كان المبعوث الأميركي إلى سوريا، توماس باراك، قد أشار إلى عدم نية بلاده التدخل في سوريا، لا فيما يتعلق بالنظام أو الدستور الجديدَيْن، ولا بتصدير الديموقراطية. وكان باراك في تصريحات سابقة قد انتقد التدخلات الغربية في المنطقة، بدءاً من اتفاقية سايكس-بيكو. والأهم هو نشاطه المثير للدهشة في الأيام الأخيرة، وتصريحاته المتتالية، التي يُفهم منها دعم السلطة في دمشق، أو إغواؤها لتقديم تنازلات في المفاوضات مع إسرائيل.
كنا قد تطرقنا إلى الشق الإسرائيلي من الموضوع، لكن بصرف النظر عنه وعن مآلاته، يبقى في حديث السيد باراك ما يعني التدخل في الشأن السوري، بينما يزعم عدم التدخل ويدعو إليه. عندما تعيّن واشنطن مبعوثاً خاصاً إلى سوريا، فهذا مؤشّر على انخراطها في الشأن السوري، أما استخدامها ما تملكه من تأثير (أو الزعم بعدم استخدامه) فذلك يُرى بالأفعال لا التصريحات التي تخدم سياسةً ما. أيضاً لواشنطن وجود عسكري، والعقوبات التي تفرضها على سوريا لم تُرفع بعد نهائياً، ما يجعل الانتباه واجباً لثمن “الانسحاب” الأميركي المزعوم من التأثير على سوريا.
لم يخترع باراك مفهوم “عدم تصدير الديموقراطية”، ومن المناسبات الكبرى التي لا علاقة له بها انسحاب بلاده من أفغانستان، والقول ضمن مبررات واشنطن أنه ليس من شأنها تصدير الديموقراطية. وكما هو معلوم تعود فكرة “تصدير الديموقراطية” إلى أيام الحرب الباردة، حيث كان المعسكر الغربي يسعى إلى إسقاط نظيره الشرقي من بوابة النيل من الديكتاتوريات التي حكمت المعسكر السوفياتي. ومع انهيار جدار برلين بدا أن الديموقراطية قد انتصرت أخيراً، وانتصر معها مشروع تصديرها إلى بلدان كانت ترزح تحت وطأة الديكتاتورية.
إثر ذلك الانتصار، بدأت تبرز أصوات في الغرب ترى “التبشير” الديموقراطي قد أنهى مهمته بإسقاط المعسكر المنافس، وأنه استهدف أساساً دول أوروبا التي كانت ضمن المعسكر الشيوعي، وأصحابه غير معنيين بأنظمة الاستبداد خارج هذا النطاق. الأصوات نفسها لم تكن بعيدة عن تقسيم العالم حضارياً، لتبدو الديموقراطية جزءاً من منظومة حضارية خاصة بالغرب، ولم يكن أصحابها بعيدين أيضاً عن مفاهيم صراع الحضارات، بوصفه الصراع الذي سيحلّ مكان الصراع السابق بين أنظمة شمولية وأخرى ديموقراطية.
إن أول وجه لوضاعة القول بعدم تصدير الديموقراطية يأتي من تقسيم العالم على هذا المنوال، فالتمييز لا يأتي هنا بسبب النظام السياسي المتغيّر بطبعه، ولا بموجب أيديولوجيا التقدم والتأخر (على علاتها). هو تمييز عنصري بين شعوب ديموقراطية بطبعها، حتى إذا حكمتها أنظمة شمولية لفترة ما، وأخرى غير ديموقراطية بطبعها، ومن الأفضل للغرب، بل من واجبه، تركها لثقافتها المنافية للديموقراطية.
يتفرّع عن هذا النظرُ إلى الشعوب ككتلة واحدة غير متمايزة، هكذا (على سبيل المثال) يُستبعد وجود ديموقراطيين في سوريا، أو في بلدان مماثلة لها، بما أنها شعوب غير ديموقراطية أصلاً. ومن الشائع أن يتلقّف ذلك بحبور أولئك المعادين للمشروع الديموقراطي في بلدانهم، ليصوّروا المنادين بالديموقراطية قلّةً متأثرة بالثقافة الغربية، وغير ذات تأثير في مجتمعها، كتوطئة لتهميشهم وإهمال مطالبهم.
لدينا عدد كبير جداً من أنظمة الاستبداد وأنصارها الذين كان لهم سبق القول بعدم ملائمة الديموقراطية لمجتمعاتهم، فوجدوا سنداً في أفكار اليمين الغربي التي توّجها البعض بأن أنظمة الاستبداد ذاتها هي السد المنيع أمام تدفق اللاجئين إلى الغرب، بشرط دعمها على نحو يمكّنها من السيطرة بما يكفي على مجتمعاتها. أيضاً، ثمة نقلة فكرية هنا، من القول بأن تحقيق التنمية والديموقراطية سيوقف تدفق اللاجئين، إلى القول بأن القبضة الحديدية هي الوحيدة التي تستطيع منعهم من التدفق إلى الغرب، وتهديده بثقافتهم المنافية للحرية والديموقراطية.
سيكون من السهل، عطفاً على الفكرة ذاتها، الترويج لكون مجمل القوانين المرتبطة بحقوق الإنسان هي ابنة الثقافة الغربية، ولا ينبغي تالياً فرضها على شعوب “ترفضها”. زعْمُ الخصوصية بمختلف أنواعها سيكون حاضراً، من جهة المستبدين وقوى الأمر الواقع في البلدان المعنية، ومن جهة قوى اليمين الصاعد في الغرب، لأن دحض مفهوم الخصوصية يتطلب موقفاً أخلاقياً من العديد من الانتهاكات التي تحدث هنا أو هناك. ثمة وضاعة أخلاقية في هذا أيضاً، مفادها التنصّل من المسؤولية إزاء انتهاكات حقوق الإنسان، ولو لم يُجْهَر بالمقولات التي تتواطأ مع المرتكبين.
وكانت المنظمات الأممية التي تُعنى بحقوق الإنسان سبّاقة دائماً على الهيئات ذات الطابع السياسي مثل مجلس الأمن، وفي العديد من الحالات كان هناك تعارض بين المستويين. ورغم أن مجلس الأمن هو صاحب القرار، واللاقرار عندما تكون النية كذلك، إلا أن المنظمات الحقوقية لعبت دوراً رمزياً متصاعداً، وكان يمكن له أن يكتسب تأثيراً سياسياً أشد قبل انتعاش الأفكار التي تدعو إلى عدم تصدير الديموقراطية واحترام الخصوصيات. ومع علمنا بأن الدول تسيّرها المصالح، فإن الأفكار تأتي أيضاً لخدمة الأخيرة، ولخدمة قوى لا تريد مشروعاً إنسانياً كونياً.
الحديث عن وضاعة هذه الأفكار ليس من باب الشتيمة، فهي حقاً تستلهم أردأ ما أنتجته البشرية على هذا الصعيد، والتجلّي الأنصع لتقسيم الشعوب على هذا النحو هي النازية التي قسّمتها على أساس العِرق، والحق أن تقسيم الشعوب ثقافياً لا يختلف في المؤدى عن تقسيمها عرقياً كجوهر لا يتبدّل. الأخطر هو أن وراء هذه الأفكار التي تتصنّع الإقرار بالخصوصيات إعلاءٌ من قيمة بعض الشعوب، وتنزيلٌ من قيمة الشعوب التي يُنظر إليها على أنها خارج المنظومة الحقوقية والسياسية المعاصرة، وهي بسبب خصوصيتها هذه تستحق ما يحدث لها.
سيكون من السهل دائماً القول إن انتهاك حقوق الإنسان في بلدان لا تتبناها لا يُحسب بوصفه انتهاكاً، وكذلك حال أنظمة الاستبداد التي سيُنظر إليها على أنها مطابقة لثقافة بلدانها، ولا يصعب الإتيان بأمثلة من مؤيديها للبرهنة على كونها ثقافة عامة. واقعياً، كانت هذه الأفكار، منذ قرن حتى الآن، مدخلاً لتبرير استباحة تحدث، أو في طور التحضير، أو أنها ممكنة الحدوث.
نضطر، إزاء هذا المستوى المتردّي فكرياً، للتذكير بوجود ثقافة كونية، متعددة حقاً وغنية، ولا يجب اختزالها بنموذج وحيد. إلا أن الحديث مثلاً عن الثقافة السياسية، وما يتفرّع عنها لا يستقيم من دون الانتباه إلى تبادل الخبرات الحضارية، على الأقل منذ مستهل العهد الإمبراطوري. ولا يستقيم الحديث عن التنوع في الثقافات العالمية إلا مع الإقرار بأن ثقافات البلدان نفسها ليست متجانسة، إذ لا يصعب مثلاً استرجاع الثقافة الإسلامية والسجالات التي حدثت عبر التاريخ بين مفكّرين مسلمين حول مختلف القضايا، ومنها قضايا السلطة، وجزء منها وجد طريقه في تلك الحقبة إلى الغرب.
نعود للتأكيد على أن موظفاً مثل المبعوث الأميركي إلى سوريا غير معني بإنتاج هذه المنظومة الفكرية، فهو ينفّذ سياسة إدارته التي توجّه رسالة ما عبر القول بعدم تصدير الديموقراطية. ومن يعرف السياسة الأميركية، منذ اندلعت الثورة، يعرف أن واشنطن لم تكن صاحبة هاجس لإحلال الديموقراطية في سوريا، والحيز لا يتسع لاستعراض السياسة الأميركية طوال تلك المدة، ولا يسعنا بالتأكيد التقليل مما تستطيع واشنطن فعله أو تقديمه، لكن ليس من ضمنه تصدير الديموقراطية، ولا هذا هو المنتَظر منها. لذا، ليس بريئاً، ولا حيادياً على الإطلاق، أن يتبرّع مبعوثها بتوضيح لم يطالب به أحد من السوريين.