بعد سقوط نظام بشار الأسد، دخلت سوريا مرحلة جديدة حاسمة تتطلب إعادة بناء الدولة بمؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، على أسس تعكس تطلعات الشعب السوري بعد سنوات من النزاع والمعاناة. وفي ظل غياب برلمان شرعي ومؤسسات دستورية فاعلة، تبرز الحاجة الملحة إلى تشكيل مجلس تشريعي مؤقت لاجراء إصلاح تشريعي في مجمل البنية القانونية والتشريعية سواء في الغاء بعض القوانين أوتعديل بعضها الأخر أو إصدار قوانين جديدة تتناسب والمرحلة الجديدة.
واليوم، في ظل الخراب الذي تعانيه سوريا وانهيار المؤسسات، فيها يدور الجدل حول الآلية المناسبة لتشكيل المجلس التشريعي المنتظر، هل نذهب إلى الانتخابات، رغم هشاشة الوضع؟ أم نعتمد التعيين المؤقت كخيار واقعي يمهد للعبور المرحلة الانتقالية بشكل أمن؟
الانتخابات ليست مجرّد اقتراع، بل هي عقد اجتماعي يفترض وجود دولة ضامنة للأمن، وقضاء كفء ومستقل يبت في الطعون، إعلام حرّ يكشف ويحاسب، ومجتمع سياسي ومجتمع مدني حرّ التعبير.
وسوريا تعاني اليوم من خراب وانهيار في مختلف الصعد، شعب منهك، عدم وجود مجتمع سياسي وأحزاب سياسية أو مجتمع مدني قادر على التعبير عن نفسه بحرية، واحتكار القرار السياسي من قبل السلطة أو قوى الأمر الواقع في مناطق متعددة من سوريا. وانعدام الإعلام الحر وصعوبة الوصول إلى المعلومات الحقيقية والموضوعية. والمنظومة القضائية تعاني من ترهل وفساد كبيرين وبيئة قانونية غير عادلة، وتفكك الهوية الوطنية لصالح انتماءات طائفية وعشائرية وقومية أفرزتها سنوات طويلة من الاستبداد والنزاع، وعدم قدرة على ضبط الأمن، وسلاح منفلت بين الناس وبأيدي جماعات منفلتة غير خاضعة للدولة، فضلاً عن وجود ملايين المهجرين واللاجئين والنازحين في مخميات الجوء داخل سوريا وخارجها، ما يجعل تأمين العملية الانتخابية شبه مستحيل في هذه الظروف، ويصبح التصويت شكلياً، والإرادة الشعبية مغيبة تماماً.
وعلى هذا الأساس، أعلنت السلطات السورية عن تشكيل “اللجنة العليا للانتخابات”، أوكلت إليها مهمة تنظيم ما سُمّي مهمة انتخاب 100 عضو عبر تشكيل لجان مناطقية تشكّلها اللجنة، وهذه اللجان تنتخب ممثيلها، بينما يقوم رئيس الجمهورية بتعين 50 عضواً. وهذه العملية ليست انتخاب بل هي أقرب إلى التعيين. وبدأت اللجنة القيام بجولات في المحافظات وعقدت اجتماعات مع ممثلين محليين لاختيار المرشحين، للإيحاء بأن اختيار الأعضاء سيكون بالاستناد إلى رأي الشعب، لكن هذه الإجراءات لا تعكس آلية انتخابية فعلية قائمة على التعددية والاختيار الحر. فالنتائج التي ستخرج بها ستبقى في جوهرها محكومة بارداة السلطة، بينما رأي الناس لا يتعدى كونه عنصراً تجميلياً يُستخدم لإضفاء شرعية شكلية على تشكيل ما يسمى بمجلس الشعب.
بدلاً من ذلك، وتوفيراً للوقت والجهد والمال اقترح البعض -ومنهم كاتب هذه السطور- تصور عقلاني لتشكيل المجلس التشريعي عن طريق التعيين المباشر من قبل رئيس الجمهورية، يقوم بتكليف لجنة خبراء لاختيار أعضاء مختصين في القانون والتشريع والسياسية والاقتصاد والتنمية وحقوق الانسان والإعلام وعلم الاجتماع والعلاقات الدولية، بما يضمن تمثيل مختلف أطياف الشعب السوري على قاعدة الكفاءة والخبرة لا الولاء.
وتنحصر مهمة هذا المجلس التشريعي بإجراء مراجعة شامة للقوانين والتشريعات، وإلغاء أوتعديل القوانين المقيدة للحريات، وسن تشريعات عادلة وعصرية تتوافق مع المرحلة الحالية. ويمكن الاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي مرت بظروف مشابها لتلك التي مرت بها سوريا، فهناك العديد من الدول التي سبقتنا في تجاوز ويلات الحروب والنزاعات الداخلية وشرعت ببناء انتقالات عقلانية بدأت بالتعيين وانتهت بالانتخابات.
فجنوب أفريقيا بعد انتهاء الفصل العنصري اعتمدت برلماناً مؤقتاً، من خلال توافق وطني على صياغة دستور جديد للبلاد، ألغت فيه القوانين العنصرية. وها هي أصبحت دولة متقدمة، وأيضاً ما جرى في رواندا بعد الإباداة الجماعية عام 1994، حيث تم تعيين برلمان انتقالي، أشرف على تنفيذ وتطبيق العدالة الانتقالية وسن قوانين جديدة، لإعادة بناء المؤسسات على أسس جديدة. وشهدت البلاد بعدها استقراراً نسبياً ووحدة مجتمعية ونجاحاً اقتصادياً كبيراً. وفي سيراليون التي شهدت حرباً أهلية 2002 تم تشكيل حكومة انتقالية وعقد اتفاق سلام بدعم أممي، وتم النزع السلاح، وأعيد دمج المقاتلين، كما أُنشئت محكمة خاصة بمرتكبي الجرائم، وساد بعدها السلام في البلاد. هذه التجارب وغيرها تشير إلى أن الاستعجال في اللجوء إلى الانتخابات قبل تأسيس الدولة وإعادة البناء، ليس ديمقراطية بل فوضى مغلّفة.
نحن اليوم في سوريا، سواء كنا منتظمين في أحزاب وتجمعات أو منظمات مدني، أمام مسؤولية أخلاقية وتاريخية، إما أن ننخرط في وهم الانتخابات الشكلية، فنخسر ما تبقى من مصداقيتنا، أو نساهم في إنتاج مسار انتقالي صادق ومؤسسي.
وسوريا لا تحتاج اليوم إلى انتخابات، بل إلى دولة يمكن فيها للمواطن أن يقول “لا” من دون خوف، نحتاج إلى مؤسسات وقوانين عادلة وفضاء سياسي ومدني مفتوح. وحين تتوفر هذه الشروط، سيكون الانتخاب أداة تغيير، لا تكراراً لاستبداد الأسد وإجرامه.
وأعتقد مع كثيرين، أن الحل الأنسب اليوم في الوضع السوري هو التعيين المؤقت القائم على الكفاء والخبرة، الواضح في أهدافه والمقيَّد بزمنه، والمدفوع بإرادة حقيقية لبناء دولة لا مكان فيها للإستبداد.
الديمقراطية ليست بداية الطريق، بل نهايته.