تُعدّ القضية الكردية من أعقد الملفات السياسية في الشرق الأوسط؛ لأنها تتقاطع مع معادلات داخلية وخارجية شديدة الحساسية، تشمل قضايا السيادة الوطنية، والهوية، ومكافحة الإرهاب، والمصالح الجيوسياسية للقوى الإقليمية والدولية. ورغم أن الكُرد يُشكّلون القومية الرابعة في المنطقة من حيث العدد، فإنهم ما زالوا محرومين من دولة قومية مستقلة، وتعيش مناطقهم حالة من التهميش أو الصراع أو التوظيف السياسي الدائم.
ورغم كل عمليات التهميش والإقصاء، فإن الكُرد في إقليم كردستان العراق استطاعوا إجراء استفتاء شعبي على الاستقلال في 25 سبتمبر (أيلول) 2017، شارك فيه أكثر من 72 في المائة من الناخبين، وصوّت نحو 93 في المائة منهم للاستقلال عن العراق. كان هذا الاستحقاق تتويجاً لعقود من النضال، وسنوات من الحكم الذاتي الناجح نسبياً منذ 1991، وتأكيداً على حق تقرير المصير الذي تضمنه المواثيق الدولية، لا سيما «المادة الأولى» من «ميثاق الأمم المتحدة»، و«العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية».
لكن المفارقة أن معظم القوى الدولية، بما فيها الولايات المتحدة و«الاتحاد الأوروبي»، رفضت الاعتراف بنتائج الاستفتاء، بحجة «الحفاظ على وحدة العراق»، بينما كانت هذه القوى نفسها قد دعمت سابقاً استقلال جنوب السودان وتفكيك يوغوسلافيا، وجاء الرفض نوعاً من الانصياع للضغوط الإقليمية، خصوصاً من تركيا وإيران، اللتين تَعدّان أي تحرك كردي نحو الاستقلال تهديداً مباشراً لأمنهما القومي.
تنظر تركيا إلى أي كيان كردي مستقل في العراق أو سوريا على أنه نواة محتملة لدولة كردية قد تُشعل النزعة الانفصالية في الداخل التركي، حيث يعيش أكثر من 20 مليون كردي، وقد نفذت أنقرة عشرات العمليات العسكرية داخل الأراضي العراقية والسورية، تحت شعار محاربة «حزب العمال الكردستاني» المصنف إرهابياً، لكنها في الواقع تهدف إلى تقويض أي تجربة حكم كردي مستقل أو شبه مستقل، خصوصاً في شمال سوريا.
أما إيران، التي تضم جزءاً مهماً من كردستان، فهي تخشى من انتقال العدوى من إقليم كردستان العراق إليها، وتحرص على إبقاء الوضع في كردستان العراق ضمن إطار ضعيف مرتبط اقتصادياً وأمنياً بها، وتلعب أحياناً على التناقضات السياسية داخل البيت الكردي.
منذ صعود «داعش»، أصبح الكُرد في الخطوط الأمامية للحرب ضد الإرهاب، وحققوا انتصارات كبيرة في كوباني والموصل وأطراف عاصمة الإقليم أربيل… وغيرها، ومع ذلك، فقد استُخدمت تهمة «الإرهاب» بشكل انتقائي ضدهم، خصوصاً من قبل تركيا، التي لا تفرّق بين مقاتلي «وحدات حماية الشعب الكردية» في سوريا و«العمال الكردستاني»، رغم أن الأولى شكّلت شريكاً فعّالاً للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في دحر «داعش».
إن هذا التناقض يثير تساؤلات عن مدى صدقية خطاب الحرب على الإرهاب، ويكشف عن ازدواجية المعايير في التعامل مع الكُرد، الذين يُكافَأون بالتجاهل أو القصف، بدلاً من الدعم والاعتراف، فقد تعاملت الولايات المتحدة معهم على أنهم حلفاء ظَرفِيّون، يُستخدمون حين تدعو الحاجة، ويُتخلّى عنهم عند انتهاء المهمة… حدث ذلك بعد الاستفتاء في 2017، وحدث مجدداً في سوريا عندما انسحب الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، فجأة من الشمال السوري، تاركاً إياهم وحدهم في مواجهة الجيش التركي.
روسيا من جهتها تحاول اللعب على التوازنات، فتارةً تدعم مطالب كردية محدودة ضمن إطار الدولة السورية، وتارةً تستخدم الورقة الكردية للضغط على أنقرة أو دمشق، من دون أن تكون جادة في دعم حل جذري أو منح الكُرد حق تقرير المصير.
في ظل انسداد أفق الدولة القومية الكردية على المدى القريب، فقد يكون الحل الواقعي والمرحلي هو اعتماد نموذج فيدرالي أو كونفدرالي يمنح الكُرد في العراق وسوريا وتركيا وإيران حقوقاً ثقافية وسياسية واقتصادية واسعة، من دون المساس بوحدة الدول القائمة.
وعليه، يمكن أن تشكّل هذه الصيغة ضمانة للاستقرار الداخلي، وأن تخفف من النزعات الاستقلالية، وتحترم في الوقت نفسه الخصوصية القومية للكُرد… وأي تأجيل للاعتراف بالحق لا يُلغي وجوده، والاستقرار في الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحقق بتجاهل قضية شعب بأكمله، بل بإيجاد تسوية عادلة تقوم على مبادئ العدالة وحقوق الإنسان، وليس على موازين القوى فقط.