ملخص
كان ستالين في عز قوته وسطوته ومكانة الاتحاد السوفياتي يحذّر من “دوار النجاح”، لكن مشكلة أميركا وإيران وإسرائيل وقوى عدة في المنطقة تبدو نوعاً من جنون “دوار الفشل”.
طهران تكتشف بثمن باهظ أن اللعب مع أميركا شيء والتلاعب بها شيء آخر، فهي لعبت مع “الشيطان الأكبر” وربحت في العداء كما في الاتفاق النووي أيام الرئيس باراك أوباما، والعداء قوّى موقفها وموقعها كقوة إقليمية في مواجهة الاستكبار والعمل على ما سماه المرشد الأعلى علي خامنئي “شرق أوسط إسلامي بقيادة إيران” بدلاً من الشرق الأوسط الأميركي، وهي مارست التلاعب مع أميركا وخسرت في التفاوض على اتفاق نووي بديل عن الاتفاق الذي خرج منه الرئيس دونالد ترمب خلال الولاية الأولى، يرفع عنها العقوبات، سواء مع إدارة الرئيس جو بايدن او مع إدارة ترمب في الولاية الثانية.
بايدن خفف بعض القيود على الجمهورية الإسلامية من دون نجاح في وقف التلاعب معه حتى اليوم الأخير في ولايته، وترمب طلب تنازلات كاملة في البرنامج النووي وزاد العقوبات عليها فاستمرت في التلاعب به خلال جولات التفاوض على اتفاق بوساطة عُمان، وكان الرد على طريقة ترمب هو ضوء أخضر أميركي لعمليات عسكرية إسرائيلية فاجأت إيران وهزتها ودفعتها إلى الرد الصاروخي عليها من دون أي تنازل في الصفقة النووية التي أرادها سيد البيت الأبيض، ثم جاء الرد الأقوى: ضربة أميركية مباشرة للمنشآت النووية التي قضت طهران عقوداً في تركيزها على مشروع مزدوج نووي، سلمي بإشراف “المنظمة الدولية للطاقة الذرية”، وعسكري سري مع التلاعب بالوكالة الدولية وأميركا.
لكن اللعبة لم تنته كما قال مستشار المرشد الأعلى، ولم تنته طبعاً بالنسبة إلى ترمب كذلك أمر التلاعب الذي صار إيرانياً وأميركياً، والسيناريوهات مفتوحة، ردود إيرانية مباشرة على أميركا ومصالحها من النوع الذي تستطيع واشنطن تحمله، مثل قصف قاعدة العديد الأميركية في قطر بعد إخلائها بناء على معلومات، بحيث شكر ترمب إيران ثم فرض وقف نار بين طهران وتل أبيب، ولا يزال باب التفاوض مفتوحاً بوساطات عربية ودولية واتصالات مباشرة.
معادلة الحرب والتفاوض: القنبلة أو النظام
ولم تحدث أي ردود إستراتيجية واسعة من النوع الذي قيل إنه لابد منه دفاعاً عن مكانة الجمهورية الإسلامية وأرضها، خوفاً من اندفاع ترمب في حرب واسعة يخشى منها الكبار قبل الصغار، بعد النموذج الذي قدمته القوات الأميركية في ضرب المنشآت النووية، والكل يعرف أنه لا مجال لحرب برية مع إيران، مجرد عمليات جوية وبحرية.
وليس قليلاً ما تغير منذ عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 والتي هزت إسرائيل، فاندفعت بحرب في غزة ولبنان ثم في إيران، فالمسار كله انقلب من الزحف العربي والإسلامي المفترض لتحرير فلسطين عبر “وحدة الساحات” في “محور المقاومة” بقيادة إيران، إلى التراجع تحت ضغط الهزائم وإضعاف “حماس” و”حزب الله”، وصولاً إلى انحسار النفوذ الإيراني وخروجه المدوي من سوريا التي سقط نظامها.
قبل “طوفان الأقصى” كانت أميركا تحاذر، قبل إسرائيل، من التورط في مواجهة مع إيران خوفاً من الاصطدام بالفصائل المسلحة التي أنشأتها لتقوم بدور الخط الأمامي دفاعاً عن النظام وضرب القواعد والمصالح الأميركية، وبعد الطوفان و”حرب الإسناد” التي أعلنها “حزب الله” في اليوم التالي، ردت إسرائيل بأقصى نوع من التوحش في القصف على كل شيء، مع أكبر قدر من اختراقها لصفوف أعدائها وانكشاف هؤلاء أمامها وضعفهم في مواجهة التفوق التكنولوجي والاستخباري، لكن “وحدة الساحات” لم تعمل بحسب التصور المفترض، وإيران لم تتدخل مباشرة لإنقاذ “حماس” وغزة و”حزب الله” الذي جعلته قوة إقليمية يملك من الصواريخ أكثر مما تملكه دول كثيرة.
والنتيجة أن “حماس” في حاجة ماسة إلى هدنة بوساطة مصر وقطر ورعاية أميركا في مقابل استعادة الرهائن، لضمان المأكل والدواء والملجأ لأكثر من مليوني جائع ومحاصر في القطاع، و”حزب الله” اضطر إلى قبول “وقف الأعمال العدائية” والانسحاب من جنوب الليطاني وتطبيق القرار رقم (1701) من دون الربط بوقف النار في غزة الذي كان يشترطه، وهو ما عده الخبير الإستراتيجي البريطاني لورنس فريدمان “تسليماً بالهزيمة”.
قبل الهجوم الاستباقي الواسع على إيران لم تقصف طهران الدولة العبرية مباشرة إلا مرتين، واحدة بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لـ “حماس” إسماعيل هنية في قلب العاصمة وفي ضيافة الحرس الثوري، وأخرى بعد قصف القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال قادة كبار في الحرس الثوري، أما بعد الاعتداء الموصوف فإن الرد الصاروخي على إسرائيل كان قوياً، وأما الدخول الأميركي المباشر بقصف المنشآت النووية فإنه بدا مثل الوصول إلى ذروة التراجيديا في العمل المسرحي، ثم حديث السلام والتفاوض، فلا إسرائيل بدت متخوفة من أذرع إيران أو من الرأس، ولا ترمب بقي متردداً في توجيه الضربة على رغم التحذيرات من داخل البيت الأبيض وجماعة “ماغا” والديمقراطيين في الكونغرس وعواصم عربية ودولية من أخطار حرب إقليمية – دولية شاملة، وهجوم “الأصيل والوكلاء” على القواعد والمصالح الأميركية، وما حدث كان عادياً، والانطباع السائد هو أنه لا دور لأحد حين تنزل أميركا إلى المعركة بأسلحتها الفتاكة ومزاج رئيسها، لكن نتنياهو ليس من النوع الذي يكتفي بما حققه من أهداف وسط خسائر إسرائيل، والهدف الباقي أمامه هو بقايا أذرع إيران، والجمهورية الإسلامية ليست الدولة التي تسلّم بالواقع وهي تتحدث عن “نصر إلهي”، ويقول المرشد الأعلى علي خامنئي إن إيران انتصرت على “إسرائيل وأميركا معاً”، وترمب الذي يواجه في الكونغرس والإعلام التشكيك بفاعلية هجومه على المنشآت النووية يلعب الورقة على الوجهين كالعادة، فهو يتحدث عن تسوية في غزة ومع إيران، ويلمح في الوقت نفسه إلى استعداده لضرب أي تحرك من إيران لمعاودة البرنامج النووي.
كان ستالين في عز قوته وسطوته ومكانة الاتحاد السوفياتي يحذّر من “دوار النجاح”، لكن مشكلة أميركا وإيران وإسرائيل وقوى عدة في المنطقة تبدو نوعاً من جنون “دوار الفشل”.