لم تكن الصورة النمطية لحزب البعث السوري في العالم العربي خصوصا والشرق الأوسط عموما مرتبطة بمشاهد دموية وعسكرية كالتي رسخها آل الأسد بدءا من عام 1970 على الأقل، بل جل ما تمحور حوله الحزب بماهيته هو القومية والعبور إلى الجماعات والعروبة والعلمانية ولاحقا بعد انضمام الحزب العربي الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني إليه، الذي مثل ثلة كبيرة من الفلاحين والطبقة الكادحة…ولعل هذا التوصيف يندرج ضمن خانة تكوين هذا الحزب ونشأته التي لا يعرفها العامة من الناس بسبب النفور والترهيب الذي بثها الوجه الأخير للبعث بنسخته الأسدية في عقول العرب، فضلا عن غياب النص السياسي، والتاريخي الممكن الذي يفكك استراتيجية هذا الحزب وورقته السياسية، باستثناء تجربة المفكر والمعلق السياسي اللبناني حازم صاغية في كتابه «البعث السوري تاريخ موجز» الصادر بطبعته الأولى عن دار الساقي عام 2012، حيث اعتمد صاغية المنهج التاريخي السردي، الذي اعتمده في ما بعد «الانهيار المديد» ( دار الساقي- 2013 ) لصياغة الخلفية التاريخية والاجتماعية ومساره من الرغبة في الانتشار إلى الرغبة في التملك.
العقلية البعثية السورية والأفكار الجاهزة
توسل صاغية وبأسلوب سردي تواصلي لم يخلُ من المجاز «لقد بدتْ عروبة مصر للبعثيين أقرب إلى النثر، في حين أن عروبتهم شعرٌ خالص»، أن يرصد تحول البعث السوري من مشروع أيديولوجي يهدف إلى حكم الشعب، وإزالة الحدود بين الأقطار العربية إلى منظومة أمنية عائلية تتمثل بالسلطة والدولة العميقة أمنيا ومخابراتيا.
يحول صاغية هذا التحول إلى حكايات يعلق عليها بذاتية تعكس رؤيته، وتترك للقارئ أن يستفتي عاطفته وانتماءه من جهة، ومقارباته السياسية من جهة ثانية. بدءا من ميشيل عفلق الذي عمل، وزكي الأرسوزي على نشر الأفكار بين الطلاب والمثقفين، ومن خلال إطلالة صاغية على كتاب عفلق الذي يعتبره إنشائيا خطابيا قائما على شعارات تحاكي القومية السورية الاجتماعية، والذي وقع عليه عنوان «في سبيل البعث».
يجيد صاغية من خلال تأريخه المكثف لحقبة جعلت من سوريا ميدان انقلاب، أن يسرد اللحظات التي ولد ونما فيها البعث، وأن يكون مفككا مسوغا لخروج البعث من منطق الحزبية والتنافس السياسي نحو القبضة الأمنية، والثابت أن صاغية فكك البعث السوري من خلال تعرية أخطائه متحاشيا رسم خريطته المعقولة، أي استطاع بذكاء مثقف أن يخرج من دهاليز التصحيحية ليبقى مؤرخا يتصور السقوط الحتمي لحزب التهى بتقديس العائلة والعصبية، على أن يكون محورا لانصهار في الحياة السياسية المحلية.
الأحداث والحقبات والرؤية إلى البعث السوري
في مطلع الكتاب ركز صاغية على تبسيط المراحل الأولى لحزب شهد انقلابات متكررة، سواء على الصعيد الداخلي للحزب، أو ارتباط الحزب بالسلطة، فالانقلابات المتتالية وكثرة الشخصيات المتصارعة من عفلق والأرسوزي والأتاسي وصولا إلى حافظ الأسد، وخروج سوريا عام 1961 من الوحدة مع مصر، ومن ثم النكسة التي منيت بها مصر بقيادة جمال عبد الناصر.. كله يندرج ضمن تقنية التفسير والتدليل الذي لجأ إليه صاغية ليكون مؤرخا يجيد جعل النص السياسي التاريخي سلسا خاليا من التعقيدات والهوامش، والتوضيحات التي قد تغرق القارئ في متاهات، مستبدلا كل ذلك بالتشويق الذي جعل هذا التأريخ لحقبة خطيرة ومعقدة لا تخلو من المنعطفات، أشبه بوثائقي يعكس المشهد السياسي للبعث بمراحله كافة.
ومن جهة ثانية وظف صاغية مصطلحات حادة ومباشرة مثل «البائس»، «الإنشائي»، «الأمني»، وغيرها ليرسم رؤيته إلى البعث السوري، مختزلا موقفه بنبرة سوسيولوجية سياسية تحت عنوان « التحول من العمل السياسي إلى البطش الأمني».
يشكل كتاب حازم صاغية مزيجا من المواءمة بين مجالين متقابلين متعاكسين: النقد بصيغته التفكيكية والتحليلية الدلالية، والتأريخ بصيغته السردية الاجتماعية، وهي صياغة جادة ولافتة في الحقل السياسي، لتوثيق مراحل سادت فيها التحديات والسيطرة ومحاولات انتزاع الحكم وتشييع العقيدة والأيديولوجيا مقابل التسلط.
كاتب لبناني