ظلت إسرائيل طوال أكثر من عشرة أعوام، تعتدي على الأراضي السورية، بين فترة وأخرى، مستهدفة قوافل التسلح الآتية من إيران مروراً بالعراق إلى سوريا ثم لبنان، وقد تركزت تلك الهجمات، أيضاً، على قواعد الصواريخ، والمطارات، ومستودعات الذخيرة، ومنشآت الأسلحة الكيماوية، التي كانت تستخدم من قبل “الحرس الثوري الإيراني”، والميليشيات الطائفية المسلحة التي تشتغل تحت قيادته.
مساحة عمق أمني
لكن تلك الاعتداءات باتت بعد انهيار نظام الأسد، أكثر شمولاً، وأشد من حيث قوتها التدميرية، وبدا من الواضح أن إسرائيل تستهدف تقويض البنية التحتية للجيش السوري، جملة وتفصيلاً، في كل الأراضي السورية، في الشمال والجنوب والوسط، وتدمير كل قطاعات الأسلحة، البرية والجوية والبحرية، وأيضاً، خلق مساحة عمق أمني في سوريا، خالية من أي تسلح، بمقدار عشرات الكيلومترات، أي من حدودها إلى العاصمة دمشق، وهو ما عبرت عنه جهاراً، برفضها وجود أي قواعد عسكرية سورية في محافظات الجنوب، أي القنيطرة ودرعا والسويداء.
على الصعيد السياسي، بدا أن إسرائيل تحاول استغلال الوضع السوري الراهن، بكل مافيه من ضعف واضطرابات، سياسية وأمنية واجتماعية واقتصادية، لابتزاز القيادة السورية الجديدة، وفرض رؤاها عليها من جوانب ثلاث، الأول، التسليم بإخراج هضبة الجولان المحتلة من النقاش. الثاني، السعي لاستدراج سوريا للتطبيع، أسوة ببعض الدول العربية. والثالث، محاولتها تعميم طابعها، كدولة طائفية يهودية، في سوريا، بادعاء حمايتها “الأقليات، بإقامة دولة توافق طائفي وإثني.
سياسة الغموض البناء
وكما شهدنا، فإن الاعتداءات الإسرائيلية توقفت، أو تراجعت، لكن لحساب تزايد الأحاديث عن التطبيع، وعن مباحثات إسرائيلية ـ سورية، الأمر الذي أثار بلبلة في الرأي العام، سيما مع عدم قيام القيادة السورية الجديدة بتوضيح الأمر، بتبنيها نوع من سياسية “الغموض” البناء، ومع تأكيدها أن كل تلك المباحثات، التي تجري عبر أطراف ثالثة، لا تتعلق بالتطبيع، ولا بالسلام، لأن هذا ليس وقته، في الظروف الراهنة، وأن الأمر الآن يتوقف على مباحثات تتعلق بوقف الاعتداءات الإسرائيلية، وإعادة إسرائيل إلى خطوط اتفاق وقف اطلاق النار 1974.
وفي الشأن العام، فإن التصريحات القليلة للرئيس السوري أحمد الشرع، ووزير خارجيته، أسعد الشيباني، تشي بنوع من المرونة، والحذر، والالتفاف على المسألة المطروحة، بتقديم إجابات من نوع أن الأمر يتعلق بالوضع الإقليمي، أو بالشروط الإقليمية للتطبيع مع إسرائيل، ما يفيد بالبحث عن مخرج مناسب، سيما إن المملكة العربية السعودية ترفض التطبيع قبل استجابة إسرائيل لشرط إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع. وفي الموضوع الفلسطيني من الواضح أن القيادة السورية الجديدة تقبل بما تقبل به القيادة الفلسطينية الشرعية، وهي قيادة المنظمة والسلطة و”فتح”؛ أي إن القيادة السورية الجديدة تسلم أمرها في هذه الأمور، وبما يتعلق بالصراع العربي ـ الإسرائيلي للنظام الرسمي العربي.
نفض اليد من القضية
بديهي إن السوريين، في ظل غياب إجماعاتهم الوطنية، بما في ذلك الإجماع حول مكانة سوريا العربية والإقليمية والدولية، وفي ظل غياب قوى سياسية فاعلة، يعيشون في ظل أهواء شتى، ومتضاربة، فمنهم من ذهب بعيداً إلى حد اعتبار أن سوريا اليوم مطالبة بأن تكون أكثر تشدداً، من النظام السابق، في قضية الصراع مع إسرائيل، متناسين أن ذلك النظام كان يلجأ للشعارات لتغطية سياساته القمعية والاستبدادية، وتبرير مصادرته الحقوق والحريات والموارد، ومتناسين أن سوريا اليوم هي في اضعف حالاتها، وأن ثمة أولويات يفترض التركيز عليها، سيما ما يتعلق باستعادة الأمان والسلم الأهلي واستعادة البلد لعافيته، وبناء دولة المؤسسات والقانون.
في المقابل ثمة من ذهب بعيداً إلى حد التشجيع على نفض اليد من قضية فلسطين، وإن البلد ليست بحاجة للعيش في ظل إرث الماضي، الذي لم يجلب على سوريا وشعبها سوى الويلات، والفقر والهزائم، علماً أن من يدعي ذلك يتناسى، بدوره، أن إسرائيل دولة تحتل أراض سورية، وإنها كانت رفضت المبادرة العربية للسلام (بيروت 2002)، وإنها تقوم بحرب إبادة وحشية واجرامية ضد الشعب الفلسطيني، ثم إنها دولة استعمارية واستيطانية ودينية وعنصرية، أي أنها تتناقض بطبيعتها تلك مع التطبيع، الذي يفترض تحولها إلى دولة عادية، بحدود جغرافية وسياسية وبشرية، وبدستور، وهو ما لا يتوفر في إسرائيل التي تعيش تناقضات حادة بين اليهود فيها بين علمانيين ومتدينين وشرقيين وغربيين، كما انها لم تطبع مع مواطنيها من فلسطينيي 48، الذين هم مواطنون فيها منذ أكثر من سبعة عقود.
ابتزاز إسرائيلي
طبعا بين الطرفين المتطرفين، ثمة طرف أو أطراف أخرى، وسطية تنظر إلى الأمور، بعين موضوعية، ومتدرجة، وهي تتفهم وجهة نظر القيادة السورية، في شأن ربط أي حركة سورية، بالاتجاه الإقليمي العام، سيما بالمملكة العربية السعودية، على أن لا يتأثر ذلك بحق الشعب السوري بسيادته على كل أراضيه، وحقه باستعادة الجولان السورية، بالطرق المشروعة، وبما يؤيد حق الشعب الفلسطيني، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع.
القصد من ذلك أن كل الضجيج الجاري من حول التطبيع، إنما هو نوع من ابتزاز إسرائيلي، لفرض أجنداتها على القيادة السورية في هذه المرحلة، في حين تشارك، أو تنفخ، فيه لأطراف المعادية للقيادة الجديدة، لمحاولة إضعاف شرعيتها، أو هز صدقيتها.
أما بخصوص نقاشات السوريين، وخلافاتهم، فهذه أمور طبيعية، ناجمة عن فراغ سياسي عمره أزيد من نصف قرن، كما إنها ناتجة عن هامشة القوى السياسية، وقلة خبرتها، فضلاً عن سيادة الروح العاطفية والإرادوية والشعبوية في العمل السياسي.
وفي الحقيقة فإن كل النقاش الجاري عن التطبيع لا مدلولات حقيقة له في الواقع، حتى الآن، باستثناء مباحثات في شأن وقف الاعتداءات الإسرائيلية، وإعادة إسرائيل إلى خطوط 1974، مع التزام سوريا بعدم السماح لأي جماعة ميلشياوية، مهما كانت هويتها، باستخدام الأراضي السورية كقاعدة لتهديد إسرائيل، مع تأكيد انهاء نفوذ إيران في سوريا.