كادت تركيا تشهد، أول من أمس، حدثاً فريداً من نوعه في تاريخها السياسي، حيث كان من المنتظر صدور حكم قضائي ببطلان المؤتمر الـ38 لحزب «الشعب الجمهوري»، الذي أطاح زعيمه السابق، كمال كيليشدار أوغلو، في ما قُرئ على أنه محاولة من السلطة لإبقاء الحزب في المجهول، لأطول مدة ممكنة قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في أيار 2028.
وكان قد خاض كيليشدار أوغلو، في أيار 2023، سباقاً انتخابياً مع الرئيس رجب طيب إردوغان، انتهى إلى خسارة الأول، رغم أنه حظي بأوسع إجماع في تاريخ المعارضة. ومع أن أحداً لم يطالب بتغيير في قيادة «الشعب الجمهوري» آنذاك، فإن كثيرين توقّعوا أن يبادر كيليتشدار أوغلو إلى التنازل والاستقالة، ليتيح المجال أمام جيل جديد ليكمل مسيرة العلمانية في تركيا، ويواجه حزب «العدالة والتنمية» الممسك بالسلطة منذ عام 2002.
وعليه، ذهب الحزب إلى انتخاب قيادة جديدة في مؤتمر استثنائي هو الـ38 له، عُقد بعد ستة أشهر من تلك الانتخابات، وكانت مفاجأته أن كيليتشدار أوغلو المتربع على عرش «الشعب الجمهوري» منذ عام 2010، رأى أنه يجب أن يواصل بنفسه المعركة، ويترشّح مرة أخرى لرئاسة الحزب. لكن القيادي في الحزب، أوزغور أوزيل، كان له رأي آخر، قاده، بدعم من رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، ورئيس بلدية أنقرة، منصور ياواش، إلى أن يفوز على كيليتشدار أوغلو بفارق كبير.
إثر ذلك، تمكّن الحزب بزعامة أوزيل من اجتياز أول امتحان انتخابي بنجاح كبير، عندما فاز في الانتخابات البلدية التي انعقدت في آذار 2024، وحقق إنجازاً تاريخياً بأن احتلّ المركز الأول للمرة الأولى منذ السبعينيات، في حين تراجع «العدالة والتنمية» للمرة الأولى في تاريخه إلى المرتبة الثانية. ومع الصعود الجماهيري لـ«الشعب الجمهوري»، كان إردوغان يعدّ العدّة لحسابات ما بعد الانتخابات البلدية، والتي برز فيها، وللمرة الثانية بعد عام 2019، اسم أكرم إمام أوغلو الذي نجح في البقاء رئيساً لبلدية إسطنبول مرة ثانية، وبفارق كبير عن مرشح إردوغان، مراد قوروم.
لكن الضربة القاصمة للمعارضة كانت عندما وُجّهت اتهامات إلى إمام أوغلو من جانب القضاء بتزوير شهادة جامعية وممارسة فساد داخل بلدية إسطنبول، والتعاون مع «الإرهاب» الكردي، وهو ما أفضى إلى اعتقاله في 19 آذار الماضي، ثم إبطال المحكمة شهادته الجامعية، ليُحرم من إمكانية الترشح لرئاسة الجمهورية عام 2028، وليتخلّص إردوغان من المرشح الأكثر احتمالاً للفوز بالرئاسة.
المحكمة تماطل في بت مصير قيادة الحزب قبل الانتخابات الرئاسية
ولم تقف الأمور عند ذلك الحدّ، بل ظهر فجأة، في 24 آذار، طلب مقدّم إلى القضاء بإبطال نتائج المؤتمر الـ38 لـ«الشعب الجمهوري»، بحجّة ظهور وقائع حول حصول رشاوى لمندوبين، تمثلت بدفع أموال وتخصيص شقق من بلدية إسطنبول، وحتى تلقّي بعض المندوبين تهديدات وفق ما ذهب إليه كيليتشدار أوغلو؛ علماً أن من تَقدّم بالدعوى رئيس بلدية هاتاي، لطفي صواش، الذي لم يرشّحه الحزب لانتخابات رئاسة البلدية في الانتخابات الأخيرة.
وبهذا، التقت حسابات الخاسرين الذين جاء رد فعل أوزيل على خطوتهم سريعاً جداً، خصوصاً أن عدّ القضاء تلك التهم صحيحة قد يعني إبطال المؤتمر، واحتمال تعيين وصي من قبل الحكومة على الحزب أو عودة كيليتشدار أوغلو إلى زعامته. وعليه، دعا «الشعب الجمهوري» إلى مؤتمر استثنائي سريع في 6 نيسان الماضي، ليجدّد لقيادته الجديدة، وسط استنفار واسع في أوساط قياداته كافة لمواجهة نوايا السلطة توجيه ضربة قاتلة إليه.
وانعقدت، في 17 نيسان، أولى جلسات المحكمة التي طلبت تقديم أوراق إضافية، على أن تعقد جلستها الثانية في الـ30 من حزيران. وبالفعل، كان الجميع في انتظار هذه الأخيرة، التي تراوحت التوقعات في شأن القرار المنتظر صدوره عنها بين البراءة أو «البطلان المطلق» للمؤتمر الـ38، ما يعني إما إعادة كيليشدار أوغلو إلى زعامة الحزب، وإما تعيين وصي عليه، وإما تحديد موعد لمؤتمر جديد خلال عام لانتخاب قيادة جديدة.
لكن الأهم، في خلال هذه المعمعة، أن كيليتشدار أوغلو أطلق تصريحات «تشجّع» المحكمة على إصدار قرار بالبطلان، بقوله إنه في حال صدر مثل هذا القرار، فإنه لن يتردّد في قبوله، وفي العودة إلى زعامة «الشعب الجمهوري»، بوصف ذلك أفضل من تعيين القضاء وصياً عليه. لكن تلك التصريحات قوبلت باستنكار واسع داخل الحزب وفي أوساط قياداته السابقة، التي رأت أنه يشجّع على تقسيم البيت الداخلي وضربه، وأنه يتحرّك من منطلق أناني وانتقامي في وقت كان فيه «الشعب الجمهوري» يسجّل تقدماً شعبياً مطرداً منذ الانتخابات البلدية الماضية.
ويشي المناخ السائد بأن الدعوة إلى إبطال المؤتمر تأتي في سياق خطّة مبيتة من جانب حزب «العدالة والتنمية» لتوجيه ضربة قاضية إلى العمود الأساسي للعلمانية وللمعارضة، بعد ضربة أولى ثقيلة تمثلت باعتقال إمام أوغلو ومنعه من الترشّح للرئاسة.
لكن القرار ببطلان المؤتمر لم يُتخذ في الجلسة، بعدما قرّرت المحكمة تأجيل النظر في القضية إلى الثامن من أيلول المقبل؛ وإذ لم تشر إلى أسباب التأجيل، فإن صحيفة «جمهورييات» العلمانية أرجعت الأمر إلى الرغبة في كسب الوقت للمزيد من تلفيق الأدلة التي تبرّر «البطلان المطلق»، وهذا ما لا يريح كثيراً «الشعب الجمهوري». إذ إن السجالات داخل الحزب قد تستمر وتربكه وتزيده انقساماً وضعفاً، فيما من مصلحة السلطة أن تبقيه تحت ضغط المجهول، وربما أيضاً تأجيل جلسة الثامن من أيلول إلى موعد آخر يَحول لأطول مدة ممكنة دون أن يعيد بناء نفسه من جديد.