Skip to content

السفينة

alsafina.net

Primary Menu
  • الرئيسية
  • الأخبار
  • افتتاحية
  • حوارات
  • أدب وفن
  • مقالات رأي
  • منوعات
  • دراسات وبحوث
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • الأرشيف
  • Home
  • عداليون وحضاريون معيارا العدالة والحضارة في النقد الاجتماعي العربي، والسوري ..ياسين الحاج صالح…المصدر:الجمهورية .نت
  • مقالات رأي

عداليون وحضاريون معيارا العدالة والحضارة في النقد الاجتماعي العربي، والسوري ..ياسين الحاج صالح…المصدر:الجمهورية .نت

khalil المحرر يوليو 2, 2025

يتمايز في نقد الأحوال السياسية والاجتماعية في المجال العربي، والسوري بطبيعة الحال، معياران شاملان للحكم، قلما يحيل إلى واحدٍ منهما من يصدر عن الآخر في فكره وفعله: الحضارة والعدالة. من يُحكِّمون معيار العدالة في نظرتهم إلى تلك الأحوال قلما ينشغلون برقي أساليب وممارسات المنخرطين في الصراع من أجلها، وبالعكس من يُغلِّبون اعتبارات الرقي والتحضر في النظر إلى الأشياء يعرضون قلة حساسية حيال قضايا العدالة والظلم والتمييز، بخاصة إن كان ضحاياها من «غير المتحضرين» المفترضين. وليس توزّع المشتغلين بالشؤون العامة على واحدة من هاتين النظرتين أو الأخرى اعتباطياً، يتبع تفضيلات فردية فحسب. فهو مرتبط بالتاريخ السياسي والاجتماعي للمنطقة، وبنوعية الاستقطابات والقوة الفاعلة في كل طور تاريخي. صعدت تصورات العدالة في مواجهة الاستعمار، ثم في مواجهة الطغيان الدولتي، وهي حاضرة في الكلام على العلاقات الدولية التي يُسمي شاغلو المواقع العليا فيها أنفسهم بالعالم المتحضر (كانوا «العالم الحر» في مقابل الشيوعية). وتبدو تصورات الحضارة أقوى في مواجهة الإسلامية، وعند عموم من يفكرون في مجتمعات المنطقة كمجتمعات متخلفة تكوينياً.

1
التقابل الحضاري العدالي أقل حضوراً في الغرب الحديث بفعل واقع محدد، «التقدم»، ما تحقق من تقدم فعلي خلال القرنين الماضيين أو أكثر. التقدم هو مساحة لقاء بين العدالة والحضارة، بين مشاركة تتحسن للطبقات الدنيا في الموارد والحقوق الاجتماعية والسياسية، وبين تطور في الثقافة والمعرفة والتكنولوجيا والتنظيم الاجتماعي والعادات والطباع. وللحضارة بعد جمالي إبداعي، يتمثل في ازدهار الفنون وتكاثر الأعمال العظيمة. في علاقاته الداخلية وفي كل من بلدانه، كان الغرب الحديث جمعاً ناجحاً بين الحضارة والعدالة، وإن كان يبدو اليوم في اختلال. في علاقاته مع بلدان ومجتمعات أخرى كان الغرب ولا يزال غير عادل ولا متحضر. وقد نرى في الاختلال العدالي الحضاري المتصاعد في الغرب أثراً مرتداً عليه من العوالم التي تعرضت للعدوان والتمييز والاستغلال. سبق لأمثال حنة آرنت وإيميه سيزير أن رأوا في النازية ضربة ارتدادية للإمبرياليات الأوروبية على دواخل أوروبا ذاتها.

لكن حتى في الغرب الحديث، لا يعرض من يمكن تسميتهم الحضاريون حساً خاصاً بالعدالة، على ما يؤخذ بحق على كتاب نوربرت إلياس الكلاسيكي: العملية التحضيرية. الحضارة تظهر في عمل المفكر الألماني شيئاً يأتي من فوق، من الطبقات العليا والبلاطات الملكية، قبل أن ينزل إلى التحت الاجتماعي. قضايا العدالة غير حاضرة في كتابه، وما قد يُستخلص منه بخصوص الاستعمار الأوروبي لا يبعد كثيراً عن فكرة «الرسالة التحضيرية» التي سوّغ الاستعمار الفرنسي نفسه بها. وكان الشيوعيون الأوروبيون، الإيطاليون والفرنسيون والإسبان وغيرهم، يدافعون عن مبدأ «دكتاتورية البروليتاريا» حتى سبعينيات القرن العشرين، قبل أن يدفع التقدم المحقق في المجتمعات الأوروبية الغربية (ترسخ الديمقراطية وظهور دولة الرفاه وازدهار الثقافة والفنون والعلوم)، أي مركب العدالة- الحضارة، إلى «الانحراف» عن هذا التصور الماركسي الكلاسيكي. بالمقابل، عرضت البلشفية الروسية منازع عدالية كونية دون مبالاة بالشكليات الحضارية (ومنها «القانون البرجوازي»)، الأمر الذي أثار حفيظة الماركسي والاشتراكي الديمقراطي الروسي جورجي بليخانوف الذي خشي من هؤلاء البلاشفة الخشنين على مستقبل روسيا، وقد ظهر أن خشيته في محلها. لينين نفسه توجس من «الجورجي الفظ»، جوزف ستالين، لكنه رحل دون أن يستطيع فعل شيء بهذا الخصوص.

على أن الشيوعية في جذرها الماركسي، ورغم دكتاتورية البروليتاريا، كانت دعوة تجمع بين نازعي العدالة والحضارة في آن، بين تقدم قوى الإنتاج (التكنولوجيا وقوى العمل) وبين تقدم علاقات الإنتاج باتجاهات أكثر عدالة ومساواة، وهذا خلاف ما هو الحال في ظل الرأسمالية، حيث تكبح علاقات الإنتاج تطور قوى الإنتاج، وقد يؤدي التناقض بينهما إلى الثورة. الجمع الشيوعي بين العدالة والحضارة جعل الشيوعية جذابة جداً عالمياً بين نهاية الحرب العالمية الثانية وأواخر السبعينات أو بعدها بقليل. فهي الدعوة الفكرية السياسية التي تعمل من أجل تحرّر الطبقة العاملة والجماهير الكادحة بعامة، وكذلك الشعوب المُستغَلة المضطهدة في الشرق وغيره؛ وهي في الوقت نفسه دعوة تصنيع وتطور علمي وتكنولوجي، تتطلع إلى عالم أكثر تحضراً وازدهاراً من المجتمعات الرأسمالية، وليس أكثر حرية وعدالة فقط. طابقت اشتراكية البلدان الشيوعية نفسها بمفهوم أكثر اتساقاً للتقدم، مفهوم مبرأ من الاستغلال ومن أزمات التراكم الرأسمالي، موحدة بذلك ندائي العدالة والحضارة. لكنها في واقع الأمر لم تكن أكثر عدالة ولا أكثر تحضراً من جوارها الأوروبي الغربي.

كانت الفكرة الاشتراكية مهيمنة في مجالنا حتى الثمانينيات وقت بدأ تداعيها، قبل أن ينهار «المعسكر الاشتراكي» في أواخر العقد نفسه. إثر ذلك، تفكك المركب التقدمي العدالي الحضاري الموحد، وأخذ المثقفون والمناضلون في منطقتنا يتوزعون إلى عداليين وحضاريين. يحضر مطلب العدالة بقوة عند الأولين، بما يُنحِّي الاهتمام بأساليب الفعل الراقية، بالحد من العنف أو تجنبه، بحسن التنظيم، بالجماليات في الحضور والمظهر والفضاءات العامة، بحسن التعامل مع الأحياء والأشياء، بالكفاءة وحسن سير الأعمال؛ بالمقابل يغيب عند الحضاريين الاهتمام بالدفاع عن الأفقر أو الأشد عرضة للتمييز، أو من ينالهم الاضطهاد السياسي، هذا حين لا يُحمِّلون الغارمين المسؤولية عن كونهم غارمين.

أما في بلدان الغرب التي تميزت لعقود بعد الحرب العالمية الثانية بالجمع الموفق بين العدالة والحضارة فقط طال انهيار الشيوعية وأزمة مفهوم التقدم البعد العدالي أكثر من البعد الحضاري. صارت المجتمعات الغربية أقل عدالة، ليس حيال المهاجرين واللاجئين فقط، وإنما حيال الشرائح الدنيا من الأكثريات الأصلية. وهنا الجذر الاجتماعي لظهور اليمين الشعبوي، المؤمن بفوقية البيض وتفوقهم. بالمقابل، أخذت بالصعود التصورات الحضارية لهذه المجتمعات، وإن بدلالة للحضارة تقربها من مدركات مثل «الثقافة» و«الهوية» و«الأصول»، وليس بالدلالة التي نبرزها هنا، أي ما يتصل بالأساليب المتمدنة وغير العنيفة اجتماعياً وسياسياً، وبالتطور العلمي والتكنولوجي اقتصادياً، وبالإبداعية الثقافية والفنية. الحضاريون الجدد، إن جاز التعبير، ليسوا مهتمين بقضايا العدالة في بلدانهم، ومن باب أولى على الصعيد العالمي. مؤلف صدام الحضارات، صموئيل هنتنغتون، هو نفسه مؤلف كتاب عن الهوية الأميركية، يُقصي منها الهسبان والسود، ومن باب أولى المسلمين، ويُرجِعها إلى بيضاء ومسيحية. تبدو الحضارة هنا أقرب إلى طابع للمجتمعات، أو طبيعة متأصلة في تكوينها ومواريثها، وليست عملية تاريخية مثلما فكر فيها إلياس. هنا أيضاً يمكن التفكير في تصور الهوية الأميركية الضيق هذا كضربة ارتدادية في الداخل الأميركي لصدام الحضارات على الصعيد العالمي.

لكن لماذا تأثر بُعد العدالة أكثر من بعد الحضارة بسقوط الشيوعية؟ لأن العدالة هي سياسة الضعفاء الذين أضعفهم أكثر انهيار الدعوة العدالية الأقوى في القرن العشرين، الاشتراكية والشيوعية؛ أما الحضارة فهي سياسة الأقوياء الذي ازدادوا قوة بانهيار المعسكر المنافس، ولم يعودوا يشعرون بالحاجة إلى تقديم شيء للأضعف في مجتمعاتهم.

2
ليس هناك حزب أو تيار بعينه اسمه الحضاريون أو طباق له اسمه العداليون. هذان تمييزان تحليليان، ربما يساعدان في تنظيم تفكيرنا في أوجه من الحياة العامة، تتصل بمعايير الحكم على هذه الأوجه. لكن أفكار التحرر الوطني، والاشتراكية والديمقراطية، تندرج ضمن النظرة العدالية لكونها تعترض على الاستعمار أو الرأسمالية أو الطغيان، فيما تبدو الليبرالية والعلمانية والحداثة أكثر اندراجاً ضمن النظرة الحضارية. وليست هذه هي حال الأفكار الاشتراكية والديمقراطية، أو الليبرالية والعلمانية، في منشئها الأوروبي (فهي أوجه للتقدم، ببعديه الحضاري والعدالي)، بل هي نتاج أوضاعنا التاريخية التي أتتها الحداثة من خارجها وبالقوة الاستعمارية. مقاومة الاستعمار تحيل ما يتصل بالحضارة الحديثة من تنظيم وعناية بالأسلوب واجتناب للعنف إلى الهامش، بينما أولوية التحضر تزكي بالأحرى تتلمذاً على يد المتحضرين، وتتبّعاً لهم وسيراً على نهجهم، وربما إهمالاً للمواريث الثقافية والدينية التي قد ينظر لها كمعوقات ينبغي التخلص منها بالأحرى.

يخفت هذا التقابل حيناً ويلتهب حيناً آخر، لكنه لا يزول، الأمر الذي يدل على إشكالية حقيقية غير معالجة، بل وغير مفكر فيها كفاية. في العقدين الفاصلين بين تداعي الشيوعية والثورات العربية، شغل تيار ثقافوي، يفسر أوضاعنا السياسية والاجتماعية والتاريخية بالثقافة (مردودة غالباً إلى الدين، مردوداً حصراً إلى الإسلام، مردوداً هو ذاته في الغالب إلى الإسلام السني)، موقعاً معادياً بشدة للإسلاميين، ولا يهتم إن تعرضوا للمذابح، ومتحفظاً بقوة على المعارضين الديمقراطيين الموصوفين بالديمقراطويين و/أو الشعبويين، وفي موقع قريب من النظم الحاكمة. نرى هنا حلقة للحضارية والعدالية، لا تستخدم أي من هذين التعبيرين. بالمقابل، يمكن أن يؤخذ على هؤلاء «الديمقراطويين»، وكاتب هذه السطور واحد منهم، أن الشاغل الحضاري لم يكن حاضراً في تفكيرهم، ولعله افتُرِض أن التخلص من الطغيان ينطوي بحد ذاته على حل للمشكلة الحضارية.

هذا التقابل العدالي الحضاري راهن اليوم في سورية بعد صعود مجموعات إسلامية سنّية إلى الحكم، يحدث أن يستنفر مفهوم الحضارة في مواجهتها. يمكن أن يؤخذ على هذا الاستنفار أشياء كثيرة منها نقص حساسيته الاجتماعية، ومنها طابعه الانفعالي التعبوي وازدواج معاييره، ومنها إغفال سؤال العدالة (قد تستحضر مسألة العدالة الانتقالية سجالياً)، لكن المعيار الحضاري لا يخسر صلاحيته بسوء استخدامه، وبخاصة في هذا الزمن الانتقالي المؤسس لما بعده. ليس التخلص العادل من الحكم الأسدي سبباً كافياً للتهاون في قضايا القانون وضبط العنف والتحاور الاجتماعي والسياسي الحقيقي، وأساليب التعامل اللائقة من قبل من في السلطة، والمظهر الحسن وغير الرث للأشخاص والأشياء، والظهور الآمن للنساء والأطفال في المساحات العامة، أي كل ما قد يندرج تحت الحضارة. الحضارة أشكال، إخراج للناس والأشياء من الوضع الخام، من حالة اللاتشكّل والهيولى والغريزة والبدائية إلى أحوال أفضل تنظيماً، ذات أشكال تتيح التعرف عليها والأمان حيالها والتمتع بها. العدالة دون شكل هي العسف وحكم الهوى، هي محكمة أمن الدولة العليا في دمشق التي لم تكن تراعي أي شكليات في أحكامها، وأكثر منها المحاكم الأسدية الميدانية التي قتلت ما لا يحصى من السوريين في تدمر أيام الأب وصيدنايا أيام الابن. كل إغفال للشكل، بما في ذلك في الأدب والفن، هو مسلك غير حضاري أو حتى نازع للحضارة، مفهومةً في هذا السياق المحدد كتطوير فنون وآداب أرقى وأغنى وفق معاييرها الجمالية الخاصة، وليس وفق معايير خارجية مفروضة، سواء كانت هذه المعايير خدمة قضايا عادلة أو الالتزام بمصالح الجماهير الكادحة أو التعبير عن هوية الأمة وطبيعتها الحقة. أنتجت المباشرة في الأدب والفن، أي التحرر من هَمّ الشكل، أدباً وفناً رديئين، بدائيين. ومثل ذلك ينطبق على النضال السياسي، بما في ذلك المقاومة المسلحة. فتسويغ الوسائل (العنيفة والعشوائية) بالغايات (التحررية والعادلة)، والاستغناء بالأخيرة عن التعاملات اللائقة مع المدنيين، بل ومع قوى الأعداء، تثير الشكوك في عدالة القضية التي يُدافَع عنها، وتنذر بأن يتعمم السلوك المتوحش على الجميع بعد انتصار المقاومين.

والنقاش حاضر بصور مختلفة وتعابير مختلفة في فلسطين، في علاقة مع الأشكال المقبولة والأنجع من المقاومة. يستغني مقاومون فلسطينيون، ومساندون عرب وغير عرب لكفاحهم، بعدالة المقاومة عن العناية بأساليبها ومناهجها وخطابها وسلوك المقاومين حيال من يختلفون معهم في التوجه وعموم الشعب. هذا ظهر بعد عملية طوفان الأقصى قبل عام ونصف، وبخاصة ما اقترنت به من استهداف مدنيين والأخذ العشوائي لرهائن، وكان ظهر قبل ذلك بخصوص العمليات الانتحارية أو «الاستشهادية». هل عدالة القضية تسوّغ أساليب مقاومات عشوائية غير عادلة، يتواتر أن تعاقب مدنيين غافلين لا ذنب لهم؟ لا تسوغ. هذه الأساليب لا تنعكس دماراً واسعاً على الشعب الفلسطيني فقط، ولا تضع مناصريه في مواقع حرجة كانوا في غنى عنها فقط، وإنما ينذر انتصارها المحتمل بأن يكون فئوياً، يسحق فيه عموم شعب القضية قبل غيره. تقول حنة آرنت بحق: «كل فعل جيد يتم من أجل قضية شريرة يجعل العالم مكاناً أفضل، بينما يعمل كل فعل سيء في سياق قضية جيدة على تحويل العالم إلى مكان أسوأ». الأولوية في كل حال للأفعال، وليس للقضايا (أو العقائد) التي يصدر عنها الفاعلون. والعالم هو الإطار الملزم للأفعال والقضايا، مثلما للعدالة والحضارة، وليس أي خصوصيات قومية أو دينية أو «حضارية».

ثم إنه في فلسطين وغيرها، يبدو أن المنظور العدالي المطلق، أي الذي يستبعد البعد الحضاري، يقود إلى تصدر إسلاميين لعمليات المقاومة، وهذا لأنه ليس ثمة إيديولوجية للمطلق في مجتمعاتنا أكثر من الدين. والإسلاميون عدميون حضارياً، إن بالاستناد إلى تصور ضمني أو صريح لحضارتنا الخاصة (يفكر في الإسلام كطبيعة لمجتمعاتنا، لا كوجه تاريخي متغير لها)، أو بالاستغناء بالدين، وفي صوره الأشد انقطاعاً عن الثقافة والفكر والفن، عن أي تصور للحضارة.

وكان نقاش مماثل قد ظهر في سياق الثورة الجزائرية. وقد تمثل المنظور العدالي بفرانز فانون الذي أثنى على الفاعلية التطهيرية لعنف المستعمَرين في تعافيهم من السم الاستعماري، بحسب آدم شاتز في سيرته The Rebel Clinic للطبيب والمناضل المارتنيكي الذي انحاز بكليته للثورة الجزائرية، هذا بينما نفر جان دانيال (ولد باسم جان دانيال بن سعيد لأسرة يهودية جزائرية) من عنف عشوائي مارسته جبهة التحرير الوطني الجزائرية أحياناً ضد مدنيين، ومن الإيديولوجية التسلطية للجبهة، وبخاصة ميل بعض قادتها إلى التعامل مع الحضور الفرنسي في الجزائر خلال قرن وربع وقتها كفاصل عارض يمكن مسحه ونسيانه.

3
هناك مساحة خاصة لتقاطع العدالة والحضارة هي القانون، جملة القواعد والضوابط التي يصطلح عليها مجتمع بعينه، واليوم المجتمع العالمي، ويفترض أن تعم الجميع. القانون مساحة اشتراك لأن سيادته وانضباط الجميع به تعريف ممكن للعدالة، وإذ يُخرِج هذا الانضباط ذاته المنضبطين من مجال الغريزة والهوى إلى مجال العقل والتحكم بالنفس، فإنه يمكن أن يكون تعريفاً للسلوك المتحضر. فإذا تداعى القانون في أي مجتمع، تدهورت العدالة فيه والحضارة معاً، وصار مجتمعاً برياً، مجتمع الغاب.

ومن هذا المدخل القانوني، ينبغي الاعتراف بأن مجتمعاتنا المعاصرة قليلة العدالة والحضارة معاً، وأن مثابرتنا على تحكيم أحد المعيارين وإغفال الآخر لا يساعد في السير إلى الأمام، «التقدم». العدالة بلا حضارة ترثُّث وبدائية، والحضارة بلا عدالة نخبوية قد تترقى إلى عنصرية. ومن شأن الإصرار على أن ننطلق في تفكيرنا وسياستنا من هذا التوتر، أن يجعلنا نحن أنفسنا متوترين، غير متوازنين تماماً. لكن الاضطلاع بهذا اللاتوازن هو وحده ما قد يتمخض بعد حين عن توازن خصب ومستدام. يشبه الأمر بصورة ما العلاقة بين الحرية والمساواة، لا تسيران معاً، ولا مستقبل لواحدة منهما بانفصال عن الأخرى.

ويوجب الحس السليم القول إننا لا يجب أن نضع العدالة في وجه الحضارة ولا العكس، أننا نريدهما معاً. يبدو المسلك الصحيح أقرب إلى الاحتكام إليهما معاً في أفعالنا العامة والخاصة، وتعديل كل منهما بالآخر. إن العدالة لا تلبث أن تنهار إن لم تتعزز بترقٍ في العادات وسبل التعامل وانضباط بقواعد عامة مطردة وتقييد للعنف وضبط الغرائز والأهواء، وتاريخ سورية والعديد من البلدان العربية شاهد على ذلك. بالمقابل، إن فكرة الحضارة منحازة بمفهومها ذاته لما هو منظّم وقوي وغني، وهي دون حس بالعدالة، تتحول إلى إيديولوجية نخبوية تبرر التعامل المتوحش، غير المتحضر بالتالي، مع تمردات بيئات اجتماعية مُرثّثة ومُبربرة.

ولأنه ليس هناك ما يضمن أن نكون عادلين في مسالكنا الخاصة والعامة لمجرد أننا عداليون، ولا شيء يضمن أن نكون متحضرين في السلوك والتصرفات إن كنّا من الحضاريين، فإن في هذا ما يدعو إلى نقد نقدنا الاجتماعي، باتجاه مساءلة التطابق وعدم التطابق بين القول والفعل، أو بلغة أقدم بين النظرية والممارسة. هذا مهم لأنه ببساطة لا تأتي العدالة إلا من عادلين ولا تأتي الحضارة من لا متحضرين.

ونحن لا نولد متحضرين أو عادلين، لكننا يمكن أن نصير متحضرين وعادلين. يمكن كذلك أن نصير أقل عدالة بل مجرمين، وأقل حضارة بل متوحشين برابرة. الحضارة كما العدالة عمليات اكتساب، تعديل وتحضر، وليست طبائع لمجتمعات أو عقائد أو ثقافات. المسألة مسألة تعلم وعمل، استجابة موفقة لضروب الظلم والتمييز والرثاثة القائمة، أو غير موفقة. وليس هناك ميثاق مع العالم يضمن لنا أن نكون عادلين ومتحضرين في كل ما نفعل، لا في صورة دين ولا في صورة علم ولا في صورة إيديولوجية ولا في صورة هوية. كما ليس هناك متحضرون اليوم لأنهم كانوا متحضرين دوماً، ولا عادلين كانوا كذلك دوماً.

4
وفي لحظتنا السورية الراهنة، من الحيوي الجمع بين معياري العدالة والحضارة في نقد أحوال اليوم الاجتماعية والسياسية والدينية والأخلاقية. ليس أنجع نقد للكوكبة الإسلامية المسيطرة في سورية اليوم هو نقد أحادي الجانب باسم الحضارة، بل نقد جذري يدافع عن العدالة الاجتماعية والسياسية والقانونية الواهنة الحضور في الراهن السوري. القضية السورية في الأمس واليوم قضية عدالة، حقوق الضعفاء وأمانهم وحريتهم، وهي بالقدر نفسه قضية كفاءة وحسن تعامل ونظافة وأساليب تعامل كريمة. القضية السورية قضية عدالة بالمعنى الحقوقي الذي يشمل العدالة الانتقالية لكنه لا يقف عندها، يتعداها إلى العدالة الاجتماعية، توزيع الموارد لمصلحة الشرائح الأفقر من الشعب؛ وهي قضية عدالة بالمعنى السياسي الذي يحيل إلى المواطنة وأنصبة متكافئة في السلطة للجماعات السورية المختلفة، إن كان لسورية أن تبقى بلداً موحداً. وهي بعد ذلك عدالة سيادية، امتلاك متكافئ للبلد وحق متساو في صنع السياسة وفي الاحترام للسوريين المتنوعين، على اختلاف منحدراتهم الجهوية والدينية والإثنية وغيرها. ليس هناك تحضر بدون احترام، وما يتميز به مجتمعنا من قلة احترام الجميع للجميع هو ما يشهد بقلة تحضرنا أكثر من أي شيء آخر.

ولا يستجيب التصور الإسلامي للمجتمع والدولة والحكم لفكرة العدالة بهذه الدلالات. لديه فكرته الخاصة عن العدالة، وهي غير موافقة لأطر وطنية للاجتماع والسياسة مثل سورية منذ نشوء كيانها الحديث قبل قرن ونيف. ما يوافق الأطر الوطنية هو المساواة الحقوقية والسياسية والسيادية بين المواطنين الأفراد وبين الجماعات المتنوعة. هذا التصور لا يوافق تصور الإسلاميين، لكنه لا يتعارض مع العدالة للإسلاميين، فيما تصورهم هم يتعارض مع المساواة، وبالتالي مع العدالة لغيرهم. ولذلك فإن نقد الإسلامية الأساسي هو النقد باسم العدالة، وهو ينطلق من حقيقة أن العدالة في الدولة الوطنية هي التي تعم الإسلاميين مع غيرهم، ولا يمكن لها بالتالي أن تكون عدالة الإسلاميين أنفسهم. وبالقدر نفسه لا يصلح نقد حضاروي، يستبطن تراتباً عنصرياً للجماعات بحسب عقائدها وثقافتها، تراتب يقوم على استثناء حضاري للمسلمين، ووضعهم في الموقع الأدنى من حيث الحضارة والحقوق والاحترام، ويعكس بنية النظام الدولي القائم.

الحق في العدالة ليس مشروطاً بأي شيء آخر، ولا حتى عدالة من يُدافع عن حقهم في العدالة. إنه دفاع عن الحق، وعن النفس، لأنه يمكن لنا نحن، أي واحد منا وأي مجموعة، أن يتهم وينكر عليه هذا الحق.

والقصد المجمل أنه ليس هناك أرضية متسقة تتيح نقداً عدالياً وحضارياً للإسلاميين الحاكمين اليوم لا تكون في الوقت نفسه دفاعاً عن العدالة لجميع السوريين، بمن فيهم الإسلاميين، ودفاعاً عن فرص السوريين في التقدم والتحضر وحكم القانون. على الاستثناء ليست العدالة وحدها هي التي لا تقوم، ولكن الحضارة كذلك.

مقالات مشابهة

Continue Reading

Previous: اغتيال مرافق فادي صقر و”قسد” تشن حملة اعتقالات شرقي سورية … عدنان علي….المصدر:العربي الجديد
Next: إيران… “خيانة” الثورة الدستورية رستم محمود……المصدر:المجلة

قصص ذات الصلة

  • مقالات رأي

أيوب سعد – صحافي عراقي….سوريا تغيّرت… ماذا عن “سنّة” العراق؟.المصدر :موقع درج

khalil المحرر يوليو 3, 2025
  • مقالات رأي

من الخاسر في المواجهة الإسرائيلية الإيرانية؟ عمر كوش………المصدر : العربي الجديد

khalil المحرر يوليو 3, 2025
  • مقالات رأي

تطبيع التطبيع وأمور أخرى عزمي بشارة….. المصدر : العربي الجديد

khalil المحرر يوليو 3, 2025

Recent Posts

  • أيوب سعد – صحافي عراقي….سوريا تغيّرت… ماذا عن “سنّة” العراق؟.المصدر :موقع درج
  • الرد اللبناني المقترح: سحب السلاح الثقيل ربطًا بترسيم الحدود…….غادة حلاوي….المصدر :المدن
  • رحلات جوية جديدة بين إسطنبول ودمشق وحلب عدنان علي….المصدر : العربي الجديد
  • من الخاسر في المواجهة الإسرائيلية الإيرانية؟ عمر كوش………المصدر : العربي الجديد
  • تطبيع التطبيع وأمور أخرى عزمي بشارة….. المصدر : العربي الجديد

Recent Comments

لا توجد تعليقات للعرض.

Archives

  • يوليو 2025
  • يونيو 2025
  • مايو 2025
  • أبريل 2025
  • مارس 2025
  • فبراير 2025
  • يناير 2025
  • ديسمبر 2024
  • نوفمبر 2024
  • أكتوبر 2024
  • سبتمبر 2024
  • أغسطس 2024
  • يوليو 2024
  • يونيو 2024
  • مايو 2024
  • أبريل 2024
  • مارس 2024
  • فبراير 2024
  • يناير 2024
  • ديسمبر 2023
  • نوفمبر 2023
  • أكتوبر 2023

Categories

  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

أحدث المقالات

  • أيوب سعد – صحافي عراقي….سوريا تغيّرت… ماذا عن “سنّة” العراق؟.المصدر :موقع درج
  • الرد اللبناني المقترح: سحب السلاح الثقيل ربطًا بترسيم الحدود…….غادة حلاوي….المصدر :المدن
  • رحلات جوية جديدة بين إسطنبول ودمشق وحلب عدنان علي….المصدر : العربي الجديد
  • من الخاسر في المواجهة الإسرائيلية الإيرانية؟ عمر كوش………المصدر : العربي الجديد
  • تطبيع التطبيع وأمور أخرى عزمي بشارة….. المصدر : العربي الجديد

تصنيفات

أدب وفن افتتاحية الأخبار المجتمع المدني الملف الكوردي حوارات دراسات وبحوث مقالات رأي منوعات

منشورات سابقة

  • مقالات رأي

أيوب سعد – صحافي عراقي….سوريا تغيّرت… ماذا عن “سنّة” العراق؟.المصدر :موقع درج

khalil المحرر يوليو 3, 2025
  • الأخبار

الرد اللبناني المقترح: سحب السلاح الثقيل ربطًا بترسيم الحدود…….غادة حلاوي….المصدر :المدن

khalil المحرر يوليو 3, 2025
  • الأخبار

رحلات جوية جديدة بين إسطنبول ودمشق وحلب عدنان علي….المصدر : العربي الجديد

khalil المحرر يوليو 3, 2025
  • مقالات رأي

من الخاسر في المواجهة الإسرائيلية الإيرانية؟ عمر كوش………المصدر : العربي الجديد

khalil المحرر يوليو 3, 2025

اتصل بنا

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter
  • Youtube
  • Pinterest
  • Linkedin
  • الأرشيف
Copyright © All rights reserved. | MoreNews by AF themes.