بدأت المشكلة في خريف 2023، حين انتُخب أوزغور أوزال رئيساً للحزب، خلفاً لكمال كليتشدار أوغلو، بعد مؤتمر استثنائي شهد اصطفاف غالبيّة المعارضين داخل الحزب خلف المرشّح الشابّ. بدا القرار حينها تعبيراً عن رغبة في التجديد والإصلاح، بعد سلسلة طويلة من الهزائم الانتخابية التي مُني بها الحزب بقيادة كليتشدار أوغلو. فعلى الرغم من الدعم الواسع الذي حظي به منذ عام 2010 وخوضه 13 معركة انتخابية، لم يحقّق أيّ اختراق يُذكر في مواجهة إردوغان وحلفائه.
كان متوقّعاً انتقالٌ سلسٌ للقيادة، لكن تحوّل الأمر إلى نزاع مفتوح، بعد محاولة كليتشدار أوغلو العودة عبر بوّابة القضاء، معوّلاً على محكمة البداية في أنقرة كي تمنحه الرجوع إلى منصبه، متسلّحاً بشكاوى تقدّم بها بعض المندوبين، وتتحدّث عن وجود تلاعب في الانتخابات الحزبية وتوزيع منافع ورشى أثّرت في النتائج.
لم يتوقّف غليان الشارع التركي منذ 19 آذار المنصرم، إثر اعتقال وسجن رئيس بلديّة إسطنبول أكرم إمام أوغلو وكبار أعوانه
بدائل مطمئنة
من جهته ينفي أوزال هذه المزاعم، ويؤكّد أنّ العملية الانتقالية كانت نزيهة وشفّافة. لكنّ قاضي المحكمة قد يقول غير ذلك، إذا ما قرّر مواصلة النظر في الدعوى المرفوعة بشأن بطلان المؤتمر الاستثنائي واعتبار كلّ ما جرى “كأن لم يكن”، بما يعيد كليتشدار أوغلو إلى رئاسة الحزب ويطيح بأوزال ومسيرته السياسية، في لحظة مفصليّة لا يعبأ فيها القاضي بأجواء التوتّر داخل بيت “الشعب الجمهوريّ”.
لا يطرح كليتشدار أوغلو بدائل مطمئنة للحزب لِما بعد العودة، ولا يحدّد متى سيغادر إذا حكم القاضي لمصلحته. وهذا ما يتركه عرضة لاتّهامات حزبيّة وشعبيّة بمحاولة الانقلاب على قيادة منتخَبة، وتبديد ما حقّقته من إنجازات في العامين الأخيرين، ومنح حزب العدالة والتنمية فرصة لالتقاط أنفاسه، في مواجهة المهرجانات الأسبوعية الحاشدة التي ينظّمها أوزال.
لا تقف المسألة بالنسبة لقيادات “الشعب الجمهوري” عند حدود الانقسام الحزبيّ فقط. فحزب “العدالة والتنمية” الحاكم، وإن لم يكن له يد مباشرة في ما يجري داخل المعارضة، فسيكون على رأس المستفيدين من هذا المشهد. تراجع شعبيّة الحزب المعارض، وخسارته لقوّة الشارع، وفقدانه ورقة إمام أوغلو باعتباره رمزاً للمواجهة مع إردوغان، تصبّ كلّها في مصلحة “تحالف الجمهور”، خصوصاً أنّ مسألة الطعن في شهادة إمام أوغلو الجامعية ثمّ اعتقاله وسجنه لم تعد تثير الزخم ذاته مع ضياع البوصلة داخل المعارضة.
يرى أوزال أنّ إردوغان لا يريد رؤية إمام أوغلو يتصدّر المشهد، خاصّةً بعد نجاحه في هزيمة حزب العدالة والتنمية في أكثر من معركة بلديّة. لكنّ مشكلة أوزال لا تقتصر على خصومه في الحكم، بل تتعلّق أيضاً بإقناع مؤسّسات الدولة وأجهزتها البيروقراطية والأمنيّة والاقتصادية، التي توصف بامتدادات “الدولة العميقة”، بقدرته على حماية مصالح تركيا في الداخل والخارج. ويتضاعف هذا التحدّي عندما يكون التحالف الحزبي الذي يقوده مشبعاً بخطابات وشعارات تتعارض مع توجّهات الجمهورية الحديثة التي تأسّست قبل قرن.
لا يطرح كليتشدار أوغلو بدائل مطمئنة للحزب لِما بعد العودة، ولا يحدّد متى سيغادر إذا حكم القاضي لمصلحته
تفجير الصّراع بدل الاحتواء
في المقابل، يبدو أن “تحالف الجمهور”، بقيادة إردوغان ودولت بهتشلي، يستعدّ للعب أوراق استراتيجيّة كبرى. فالحديث بدأ يدور حول مسوّدة دستور جديد، وحلحلة معضلة الملفّ الكرديّ، وانفتاح الحكم على “حزب الديمقراطية والمساواة بين الشعوب”، الذي يمثّل الصوت الكرديّ المعارض تقليديّاً. نجاح الحزب الحاكم في ضمّ هذا المكوّن إلى صفّه، وفتح صفحة جديدة في السياسة الإقليمية والملفّ السوري والعلاقة مع الغرب، سيقوّيان أكثر حظوظ “العدالة والتنمية” في مواجهة حزب أوزال، الذي سيجد صعوبة في إيجاد البديل المقنع.
التحدّي الآخر الذي يطارد أوزغور أوزال هو احتمال خسارته لدعم الشارع، الذي لن يدوم طويلاً. فالقواعد الشعبية قد تنقلب عليه عندما تشعر أنّ القيادة الحاليّة تساهم في إطالة أمد الأزمة بدلاً من حلّها. لكنّ السيناريو الأصعب يتمثّل في تبنّي طرح إخراج كليتشدار أوغلو من الحزب، وهو ما قد يفجّر الصراع بدل احتوائه، خصوصاً أنّ حزب العدالة لن يفرّط بورقة كليتشدار أوغلو والطعن في مشروعيّة أوزال وفريقه إذا ما أعلن القضاء ذلك.
إلى جانب خطورة ثبوت قضايا الفساد والاختلاس التي تطارد قيادات “الشعب الجمهوري”، هناك مسألة صدور حكم بالبطلان من المحكمة، الذي سينسف نتائج مؤتمر الحزب ويُطيح بأوزال. حينها، قد تتوسّع المحاكمات وتظهر ملفّات أخطر تطارد أوزال نفسه، وهو ما من شأنه أن ينسف فرصه في خوض انتخابات مبكرة أو قيادة المعارضة نحو الحكم.
حشد حزب “الشعب الجمهوري” عشرات الآلاف أمام مبنى بلديّة إسطنبول ليلة الثلاثاء الماضي، تضامناً مع أكرم إمام أوغلو بعد مرور مئة يوم على توقيفه وسجنه، دون توجيه أيّة اتّهامات رسمية له حتّى الآن. في هذه الأثناء، كان إردوغان يردّد: “لا وقت لهم للتلفّت من حولهم حتّى بسبب مشاكلهم الداخلية. نسوا كلّ ما قالوه قبل عامين عن كليتشدار أوغلو مرشّحهم للرئاسة”.
إقرأ أيضاً: الزلزال الممنهج: أنقرة لا تملك رفاهية الحياد!
تحت عبارة “للحديث تتمّة…”، جاءت أنباء عن تنفيذ عمليّة أمنيّة كبيرة في إزمير. يدور الحديث حول حملة مداهمات وتوقيفات للعشرات من العاملين في بلديّة المدينة المحسوبة على اليسار التركي. والاتّهامات هي ذاتها: اختلاس ورشى وتلاعب في المناقصات.
“الشعب الجمهوري” أمام لحظة اختبار لا يمكن تجاوزها أو محاولة الالتفاف عليها، عبر التمسّك بورقة أكرم إمام أوغلو. فهناك معضلة لدى قيادة تحاول ترميم الشرعيّة، وأخرى تسعى إلى استعادة النفوذ، فيما ينتظر “تحالف الجمهور” بفارغ الصبر كسب المعركة حتّى دون أن يخوضها.
لمتابعة الكاتب على X:
@Profsamirsalha