زوزان ، زهرة برية نبتت على حافة الطريق… لا تنتمي تماماً إلى البراري، ولا تعترف بها المدن.
عيناها واسعتان كحقلي قمح في عزّ الصيف، وصوتها ناعم كأنّه قادم من نبعٍ في أعالي الجبال.
درست علم الأحياء في جامعة حكومية، تحمل في قلبها يقيناً بأن كل شيء في هذا الكون يسير بانسجام دقيق، وأنها خُلقت لتُعلّم هذا الانسجام للأطفال، في صفوف تضجّ بالحياة والطباشير وأصوات العصافير على النوافذ.
لكن بعد التخرج، لم تُفتح لها أبواب الحياة كما توقّعت.
طرقت هي الأبواب، واحداً تلو الآخر، وكلما همّت أن تعبر عتبة الحلم، قيل لها: “لا شواغر، لا فرص، انتظري دورك.”
وكان الدور بعيداً كغيمة لا تمطر.
تعبت من الانتظار.
وذات يوم، عرضت عليها صديقتها العمل في الإذاعة المحلية كمقدمة برامج.
لم يكن الأمر يشبه حلمها، لكنه كان نافذة صغيرة على العالم، فوافقت، مدفوعةً برغبتها في البقاء حيّة، ولو بصوتها فقط…!
في الإذاعة، كان المايكروفون رفيقها.
تتحدث عن الصباح، عن الكتب، عن الأمل، بينما تُخفي خيبتها بعناية.!
لم تكن صحفية، تحب الضوء، فالحياة الإعلامية أكثر ضجيجاً من قلبها الهادئ.
استنزفها العمل: مواعيد طويلة، ضغط متواصل، وقلقٌ لا ينام.
كان الجسد يئن، والروح تبحث عن ظلّ ترتاح فيه.
قررت الانسحاب بهدوء، كما تدخل نسمة وتغادر دون أن تُغلق الباب.
عادت إلى البيت، إلى غرفتها التي تشبهها كثيراً: بسيطة، صامتة، وبعيدة عن الضجيج….!
تمضي أيامها في القراءة، ترتّب رفوف الكتب، تسقي أصيص الريحان، وتحلم من بعيد… لا تشكو، ولا تطلب شيئاً، فقط تنتظر…
ثم جاءهــا الحب .
جاء دون ضجيج، دون وعود.
كان شاباً بسيطًاً، يحمل في عينيه طمأنينة الأرض، ويصغي إليها كأنها نغمة لا يريد أن تفوته…!
وفيه، وجدت شيئاً من الأمان الذي لم تمنحه لها الوظائف ولا المقابلات ولا القاعات الفارغة.
تزوّجته… لا هرباً من الفراغ، بل مصالحةً مع الواقع، واحتفاءً باللحظة.
لكنها لم تنسَ…
لم تنسَ دفاترها، ولا حلمها الأبيض الذي لم يُكتب له أن يُولد.
كلّما نظرت إلى المرآة، رأت في عينيها فتاةً كانت تحلم أن تكون شيئاً آخر… أقرب إلى حقيقتها…!
في الزوايا المنسية من هذه البلاد، تعيش نساء كثيرات مثل زوزان، لا يثرن ضجيجاً، ولا يكتبن منشورات احتجاج، لكن في صدورهن أحلام مؤجلة، وأعمار تمضي في الانتظار.
وزوزان… واحدة منهن، وردة لم تُسقَ بما يكفي، ومع ذلك، بقيت تفتح قلبها كل صباح، للحياة…!