ملخص
يشهد الجسم القضائي في سوريا حالاً من التخبط غير المسبوق منذ نحو قرن مضى، فقضاة أعيدوا للعمل وآخرون كانوا في محاكم الإرهاب سيئة الصيت جرى منع سفرهم، بينما سجن بعضهم وعزل البقية، وقد يبدو الأمر في هذه الحال شرعياً لتورطهم المباشر في الحرب ضد السوريين.
تروي إحدى قصص التاريخ الحديث أن لندن حين كانت ترزح تحت وابل قصف القوات الألمانية، سأل رئيس وزراء المملكة المتحدة ونستون تشرشل مساعديه عن حال التعليم والقضاء، فأجابوه “أنهما بخير”، ليرد “إذاً نحن بخير أيضاً”، ولعل هذه القصة تعكس قوة ودور وأهمية القضاء والتعليم في مواجهة آلة الحروب، بما يصلح لإسقاطه على أي بلد آخر يعيش أو خرج من حرب قاسية، إذ إن استمرار القضاء النزيه سيكون رافعة لبناء المستقبل مجدداً، بيد أن الحال في سوريا تبدو مختلفة عقب سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وانتصار الثورة.
يشهد الجسم القضائي في سوريا حالاً من التخبط غير المسبوق منذ نحو قرن مضى، فقضاة أعيدوا للعمل وآخرون كانوا في محاكم الإرهاب سيئة الصيت جرى منع سفرهم، فيما سجن بعضهم وعزل البقية، وقد يبدو الأمر في هذه الحال شرعياً لتورطهم المباشر في الحرب ضد السوريين، وتأتي كل هذه المعطيات في ظل إطار واسع من التحولات التي تعصف بالبنية القانونية تحت هيمنة المبدأ الشرعي – الديني ما فوق القضائي.
وبعد سقوط نظام الأسد تحول القضاء السوري إلى مؤسسة منقسمة على نفسها تشهد تمايزاً واضطراباً وارتجالاً في القرارات والأحكام والتعيينات، على رغم أن هذه المؤسسة حافظت ولو بالحد الأدنى على استقلاليتها القضائية المدنية غير السياسية منذ عهد الاستقلال، وعلى رغم التوظيف الأمني في مواجهة خصوم السلطة حين كانت تستخدم كأداة قمعية، لكنها كانت تؤدي دورها الوظيفي المتناسق في القضايا المدنية التي تمس حياة الشارع وسكانه.
ويتفق محامون وقضاة على أن مؤسستهم تعيش حالاً من التفكك جعل منها ميداناً شرعياً وفقهياً ودينياً وسياسياً، قبل أن تكون مضماراً قانونياً وتدار من قبل جماعات مسلحة وشيوخ وأمراء حرب وشرعيين يستطيعون تحييد دور النيابة العامة متى أرادوا.
محددات جديدة
لعب عشرات أو مئات القضاة الذين تناوبوا على محاكم الإرهاب طوال سني الثورة دوراً سيئاً في المجتمع السوري، تمثل في إصدار آلاف الأحكام الجائرة بحق المعارضين والناشطين والثوريين والمدنيين ضمن محاكمات صورية لا ترقى لأدنى شروط العدالة الموضوعية، مما أسفر عن قرارات بالإعدام والاعتقال والتعذيب والإيداع في سجن صيدنايا والسجون الأمنية الأخرى، فكان القضاة أداة حازمة بيد السلطة، لذا يرى متابعون أن خطوة عزل هؤلاء القضاة كانت أمراً لا بد منه ضمن المسار الجزئي للعدالة الانتقالية التي لا تزال تبحث عن شكل واضح تتبلور ضمنه. وفي هذا الإطار يقول القاضي المتقاعد محمد عبدالخالق إن “محاسبة هؤلاء القضاء لا تكون بإخفائهم وعزلهم بطريقة غير شفافة، فلا يعرف مصيرهم، وبالتالي يكون ما يحصل إعادة إنتاج الفكر الأسدي في المحاسبة، بل تجب محاسبتهم علانية وإيضاح جرائمهم وما اقترفوه من انتهاكات غير قانونية بحق أبناء الشعب السوري، سواء أكانت تلك الأحكام الصادرة عنهم بأمر من السلطة أم محاباة لها”.
وباتت اليوم كثير من القضايا القضائية تخضع لسلطة وأوامر آمر التشريع لا قاضي الاختصاص، من رجال دين ومفتين، ضمن سلطات تتجاوز دور النيابة العامة والنظام القضائي تحت سلطة حكم الأمر الواقع الذي يقوم بعض من أحكامه على القصاص لا المخاصمة في أحداث عدة شهدتها أروقة المخافر والقضاء، ووجود هؤلاء الشرعيين كان جراء فراغ مؤسساتي وانهيار أمني وقضائي وعدلي، مما سمح لجهات كثيرة بفرض وصايتها الشرعية ما فوق القانونية على مجريات الأمور والمخاصمات والقضايا المنظور فيها، ويمكن النظر إلى الأمر بالخطورة عينها استناداً إلى أحكام تصدر بناء على فتاوى واجتهادات دينية لا على قوانين العقوبات العامة والخاصة، ومن دون السند في القانونين المدني والجزائي.
دولة المشايخ
وربط المحامي والناشط السياسي السوري – الفرنسي زيد العظم الذي تحدث إلى “اندبندنت عربية” عن واقع القضاء السوري ومكامن الخلل التي تعصف ببنيته، فقال إن “كل ما يحصل عدم وجود منهجية حقيقية واضحة للعدالة الانتقالية”، معتبراً إياها أساس التحرك والنقاش في أي واقع مستقبلي، ومضيفاً أنه “يجب أن تكون هناك منهجية تعرف من تجب معاقبته وفي أي محاكم وضمن أي قضاء، مع دور للقضاء الدولي، فلا يمكن الحديث عن محاكم وعدالة من دون إشراك القضاء الدولي، فالسلطات الانتقالية نفسها قد ارتكبت سابقاً كثيراً من التجاوزات، وفي بعض التقارير انتهاكات فظيعة، فبعد سقوط النظام ارتكبت مجازر الساحل التي كشفت تقارير دولية موثوقة عن تورط السلطات الحالية بها”، وزاد أن “هناك نقاطاً رئيسة عدة، الأولى اعتماد الإعلان الدستوري على الفقه الإسلامي كمرجع أساس للتشريع، مما يعطي وزير العدل إمكان أن يلغي كل القوانين السابقة بسهولة بذريعة أنها لا توافق الشريعة، والثانية غياب مفهوم واضح للعدالة الانتقالية، فمن غير المعقول اتهام فئة أنهم فلول تجب محاسبتهم، بينما رجال أعمال وآخرون كانوا مقربين من النظام السابق أصبحوا موجودين في النظام الحالي، لذلك دخلنا اليوم ضمن استنسابية خطرة تؤدي إلى اختلال واضح في مفهوم العدالة، أما الثالثة فليس هناك كفاءات والسلطات أساساً لا تعتمد عليها، والبدء من وزير العدل، إذ يجب عليه أن يكون ملماً وعاملاً في المؤسسات القضائية، والمشكلة أيضاً هي محاولة تعويم التجربة الإدلبية في تنظيم القضاء، علماً أن تلك المنطقة كانت محكومة بصيغة محددة وضيقة، وريثما يتعلمون ما يجب أن يفعلوه تكون قد انتهت مؤسسة القضاء فعلياً”.
وعن الترابط بين نقص الكفاءات في وقت جرى فيه فصل كثيرين من قضاة خارج محكمة الإرهاب، قال العظم إن “الأمر حصل مع موظفين في قطاعات أخر، فليس هناك أساس قانوني شخصي أو كيفي للفصل، ولا يمكن الحكم على الناس أنهم لم ينشقوا، قاض مدني أو عقاري أو جزائي، وللأسف فواقع القضاء اليوم يثير القلق والخوف، فهل سنعود لواقع قضائي من أزمنة سحيقة؟ هذا ممكن، وهل ستحل المحاكم الدينية عوضاً عن المحاكم المدنية؟”.
وتابع العظم “هل بتنا دولة مشايخ، فاليوم في كل وزارة ومكان هناك شيخ، وهذا الشيخ هو الآمر الناهي، وحتى الوزير، أي وزير، لا يستطيع أن يفعل شيئاً من دون إذن الشيخ، وهذا ما استوجب تعيين خريجي كلية الشرعية بدلاً من خريجي كلية القانون بناء على مصدر فقه الدولة، وأنا أخشى اليوم أن نعود لعقوبة قطع اليد والرأس، وأن نعود في القوننة والعقوبات للعصور الوسطى”.
وعن انهيار القضاء وماذا بقي من الدولة، رأى الناشط السياسي العظم “أنه لن يبقى شيء وستجري العودة لعهد بشار الأسد لتصبح الدولة كعصابة أو مافيا، والخطر الأكبر هو انهيار المجتمع وأن تسود شريعة الغاب، فالدولة بمفهومها العام لا تنهار ولكن المجتمع هو من سينهار، واحتمال أن نصل إلى هذه المرحلة قائم ومطروح”.
من التاريخ الحديث
وربط كثير من المشرعين والقانونيين فكرة نجاح الدولة الوليدة أو فشلها استناداً إلى شكل مؤسسة القضاء فيها، ففي البوسنة وبعد حربها الدموية الطاحنة، لعبت المحاكم دوراً بارزاً في إعادة تشكيل وجه البلاد واستعادة الحقوق عبر الاستعانة بأجهزة رقابة دولية، وكذلك الأمر في راوندا التي احتكمت إلى قضائها المحلي لتجاوز ما مر بها من مجازر قاسية ضمن معايير قانونية صارمة، والأمر ذاته ينسحب على محاكم جنوب أفريقيا بعد تجربة الفصل العنصري وانتصار نيلسون مانديلا ورفاقه الذين راعوا ألا تتوقف المحاكم عن العمل فينهار واحد من أصلب أعمدة الدولة، فجرى عزل قضاة والإبقاء على آخرين بعد مراجعة سجلاتهم، وكشفت كل تلك الأوراق للعامة من دون تحيز أو تمييز، ضمن مسار عدالة انتقالية كاملة اتسمت بالشفافية والنزاهة.
تبعات الانهيار
يروي أحد الشبان من دمشق أنه تعرض لضرب من قبل عنصر أمن من دون سبب أمام فرع الأمن الجنائي بدمشق، وحين حاول تقديم شكوى قال له الشيخ “القصاص سبيلك، أي أن تضربه كما ضربك”، ولما رفض الشاب وأصر على تحرير محضر رسمي قوبل بالرفض، ومن باب الفضول سأل ماذا لو قاصصته وضربته؟ فرد الشيخ “حينها يمكن للعنصر أن يحرر محضراً رسمياً بحقك”، مما يوضح الهوة العميقة في التفاعل والتعامل بين الجهاز الشرطي – القضائي والمدنيين.
وإضافة إلى ما جرى فهناك طرد أسر لا يمكن حصر تعدادها من منازلها بموجب فتاوى وأوامر شرعية، من دون أن تتمكن من الحصول على حقها باللجوء إلى القانون، عدا عن حالات القتل والاختفاء التي لا تجد مرجعاً قضائياً يساندها في رحلة البحث عن المتهم.
وفي ظل كل هذه الأحداث يندفع المجتمع يوماً بعد آخر نحو منطق السلاح والعشيرة والحقد والثأر، مما يؤثر بصورة مباشرة في منطق المواطنة بمفهومه المقدس، والأمر ينسحب على مصير النازحين الراغبين في العودة والذين لا يريدون أن يكونوا ضحية سلاح متفلت وقانون انتقائي لا يراعي حقوقهم.