ملخص
كان شعار إرنست همنغواي الدائم أمام إغراءات مخرجي هوليوود: ها هي نصوصي أمامكم، اغرفوا منها بقدر ما تشاؤون شرط أن تتركوني بعيداً من لعبتكم، وشريطة ألا تسألوني رأيي في ما تفعلون
اليوم بعشرات الأفلام الأميركية وغير الأميركية التي تحققت على مدى ما يقرب من قرن منذ “اكتشفت” السينمائية رواياته وقصصه، يمكن القول إن إرنست همنغواي (1898 – 1961) ومن بين الكتاب الأميركيين المجايلين له جميعاً، كان ويبقى أكثرهم اقتباساً في السينما، ومن أنجحهم في جعل هذه الأخيرة تحب نصوصه وتبدع في نقلها على صورة أفلام / علامات في تاريخ الفن السابع، ولكن أيضاً في استلهامها من سينمائيين شديدي الخصوصية من الروسي تاركوفسكي إلى الإيراني ناصر طاغواي مروراً بالأميركي هنري كنغ.
غير أن هذا لم يكن متوقعاً، وبخاصة بالنسبة إلى صاحب العلاقة نفسه، فهمنغواي لم يكن يحب السينما كما تبدو لديه على الشاشة، ولم يستسغ اقتباسها رواياته، بل ربما كان يشارك صديقه الكبير دافيد أو. سلزنيك رأيه في أن “أفضل طريقة لاقتباس همنغواي سينمائياً هي في الابتعاد من همنغواي بقدر الإمكان لدى كتابة سيناريو مقتبس منه”. هذا على رغم أن الكاتب نفسه ارتبط بصداقات كثيرة مع أهل السينما، ولا سيما منهم غاري كوبر نجم زمانه، الذي كان يصطحبه في رحلات الصيد من دون أن يدور أي حديث عن السينما بينهما، ولا حتى حين لعب كوبر دور البطولة في واحد من أولى الأفلام الكبرى المقتبسة عن صاحب “العجوز والبحر” وغيرها من الروائع. فكوبر لعب البطولة في “وداعاً للسلاح”، إلى جانب إنغريد برغمان بناء لتوصية من همنغواي، فكان ذلك واحداً من أولى أدواره الكبرى، والفيلم الذي شكل فيه مع إنغريد برغمان ثنائياً بديعاً، من دون أن ننسى أن الدور كان شبه أوتوبيوغرافي، لأن الرواية تروي فصلاً عاشه همنغواي نفسه من حياته كمناضل يجمع المغامرات والمواقف الإنسانية ليحولها أدباً واقعياً.
ارنست همنغواي (1898 -1961) والبندقية التي انتحر بها (غيتي)
بين الحقيقة وترجمتها
وإذا كان السينمائي البريطاني ريتشارد أتنبورو، في الفيلم الذي حققه في عام 1997 في سياق اشتغاله على سلسلة أفلامه البيوغرافية الكبرى، ومن بينها فيلمه عن “غاندي” وتحفته عن “شابلن”، حكى عن همنغواي من خلال الحكاية الحقيقية الكامنة في خلفية “وداعاً للسلاح”، لا من خلال النص الأدبي الذي كتبه همنغواي وكان شغوفاً به، فإن معظم السينمائيين الذين ربطوا بين أدب الكاتب الكبير وشاشاتهم، ومن بينهم طبعاً مايكل كورتيز وجون هستون وهنري كنغ، ولا سيما فرانك بورزاغي الذي كان من أبكر الذين نقلوا همنغواي إلى الشاشة عبر أدبه بنقله “وداعاً للسلاح” إلى الشاشة في عام 1932 بعد أعوام قليلة جداً من صدورها في عام 1929، فإنهم يبدون وكأنهم نفذوا بصورة تلقائية نصيحة سلزنيك التي ذكرناها، مبتعدين من همنغواي بقدر ما يستطيعون، على غرار بورزاغي الذي بدا مفضلاً على واقعية الكاتب قدراً من البعد الميلودرامي الذي لم يحبه همنغواي كثيراً، على أية حال، لكنه لم يبد تجاهه نفوراً، بل اعتبر المخرج حراً في أن يرى في الحكاية ما يشاء أن يراه، ما دام أن الحكاية الحقيقية كما أرادها هو أن تصل إلى قارئه باقية بين دفتي الكتاب.
“أن تملك أو لا تملك” تلك هي قضية همنغواي الحقيقية
كيف ضيعت هوليوود على نفسها قصص همنغواي القصيرة؟
وهو على أية حال الموقف ذاته الذي سيعبر عنه من بعده، في تعليقهم على نقل أعمالهم إلى السينما مبدعون كبار من أمثال أنطوني بارغس – صاحب رواية “البرتقال الآلي” التي اقتبس عنها ستانلي كوبريك فيلمه الكبير بالعنوان نفسه، وكذلك مبدعنا الروائي العربي الراحل نجيب محفوظ في تعليقه يوماً حول ما ذكرناه أمامه في حديث خاص من قصور السينما العربية في اقتباس رواياته. ومن هنا ما نريد أن نذكره من أن همنغواي أحب دائماً عالم السينما وحياتها المغامرة الصاخبة، ولكن من دون أن يسري ذلك الحب على مساهماته الفعلية فيها، بيد أن ذلك لم يشكل بالنسبة إليه أية ازدواجية قد تصل لدى زملاء له إلى أن تصبح انفصاماً في الشخصية. ولا أن تفسد للود قضية بينه وبين المنتج سلزنيك الذي كان، وقبل أن يرتبط بأية علاقة مع الكاتب الشاب عند بداية اشتهار هذا الأخير خلال النصف الثاني من عشرينيات القرن الـ20، من أوائل الذين اكتشفوا في أدبه إمكانات اقتباس هائلة “شرط الابتعاد منه قدر الإمكان” عند الانكباب على الاقتباس. وبالتالي لم يكن غريباً أن يبادر سلزنيك إلى شراء حقوق مبكر لرواية “لمن تقرع الأجراس” لهمنغواي حين صدورها، ليكون في مقدمة المنتجين الذين سارعوا إلى الحصول على حقوق من ذلك النوع. غير أنه كما نعرف سيتخلى عن تلك الحقوق من جراء شعوره بإرهاق يمنعه من الإقدام على إنتاج الفيلم بعد تجربتي إنتاج ضخمتين مثلهما بالنسبة إليه انهماكه في إنتاج “ذهب مع الريح”، ثم”ريبيكا” الفريد هتشكوك تباعاً. غير أن تخليه عن إنتاج ذلك الفيلم، “لمن تقرع الأجراس”، لم يمنعه من الوقوف بصلابة إلى جانب همنغواي نفسه، حين أصر هذا الأخير على أن يكون الفيلم من تمثيل إنغريد برغمان إلى جانب غاري كوبر. فالحقيقة أن علاقة الصداقة كانت اشتدت حينها بين أفراد تلك المجموعة رجالاً ونساء، حتى من دون أن تقنع همنغواي بضرورة الدنو أكثر من الفن السابع.
بوستر فيلم “وداعاً للسلاح” (موقع الفيلم)
الشاشة لم تيأس
غير أن السينما نفسها لم تيأس من محاولاتها ليس فقط اجتذاب نصوص همنغواي ناحيتها، فذلك أمر مفروغ منه وكان مغرياً لهمنغواي نفسه أن ينال عشرات ثم مئات ألوف الدولارات التي راحت هوليوود تغدقها عليه، في مقابل شراء حقوق أفلمته، بل جعل الكاتب صديقاً لها حتى من دون أن يرضى بكتابة أي نص يؤفلم كتابة مسبقاً. كان شعاره الدائم: ها هي نصوصي أمامكم، اغرفوا منها بقدر ما تشاؤون شرط أن تتركوني بعيداً من لعبتكم، وشريطة ألا تسألوني رأيي في ما تفعلون. وتم الأمر على ذلك النحو ليتواصل عند بداية سنوات الـ40، ولا سيما هنا مع السينمائي الكبير هاوارد هاوكس، الذي كان بدوره من أصدقاء همنغواي المقربين. فهو الذي كان يرغب باكراً جداً في أفلمة “لمن تقرع الأجراس” ثم “الشمس تشرق ثانية” تباعاً من دون أن تتاح الفرصة له لذلك، فأحب هذه المرة عند بداية سنوات الـ40 أن يخوض نوعاً سينمائياً جديداً كانت انطلاقته الهوليوودية صاخبة، النوع البوليسي المعروف باسم “الفيلم نوار”، ووجد ضالته في تلك الرواية التي كان همنغواي أصدرها بعنوان “مرفأ الألم” إثر حكاية أتت على صورة نكتة أطلقها الكاتب خلال رحلة صيد قام بها مع هاوكس نفسه في كاي ويست، فطلب هذا من صديقه الكاتب كتابة الحكاية للسينما مباشرة فإذا بهذا يجيبه: “إنني يا صديقي، الأول في مجالي ولا أود أن أكون جزءاً من الطاحونة الهوليوودية، سأكتب الرواية وأصدرها ثم افعل بها أنت ما تشاء”. ومن هنا ولد ذلك الفيلم الذي إلى كونه يعتبر من أفضل الاقتباسات التي حققتها السينما، إلى جانب “العجوز والبحر” الذي سيحققه جون هستون عن رواية لهمنغواي، بعد ذلك بنحو عقد ونصف العقد من السنين. وكان “مرفأ الألم” عن رواية همنغواي نقطة فارقة في تاريخه “السينمائي”، إذ إن السينما لم تتوقف من حينها عن تحقيق أفلام عن رواياته ومن ثم عن حياته، كما لا تزال تفعل حتى اليوم، على رغم أنه مات منتحراً في عام 1961 وبعد أن نال جائزة نوبل الأدبية، من دون أن يقول ولو كلمة طيبة واحدة في حق السينما وهو الذي ردد مئات المرات مدى حبه لأهلها.