لم تعد طهران بوّابة سوريا إلى العالم، بل أصبحت الرياض هي البوّابة. ومن هذه البوّابة استعادت سورية عروبتها ووجدت طريقها من جديد إلى الأسرة العربيّة التي تمرّدت عليها وخرجت منها وعليها لسنوات طويلة. فكيف سيؤثّر ذلك على دور سوريا وعلى موقعها؟ وماذا عن مسار السلام مع إسرائيل؟
في شهر آذار من عام 2000 عُقد لقاء سوري-أميركي على مستوى القمّة في جنيف بين الرئيسين حافظ الأسد وبيل كلينتون. كان محور اللقاء مبدأ “الأرض مقابل السلام”، أي أن تسترجع سوريا مرتفعات الجولان (التي خسرتها في حرب 1973) مقابل تسويةٍ سياسيّة مع إسرائيل.
لم يثمر اللقاء عن أيّ نتيجة. فقد أكّدت إسرائيل أنّ الأرض (مرتفعات الجولان) أهمّ من التسوية السياسية، ولا تزال تتمسّك بهذا المبدأ حتّى اليوم، بل إنّها ذهبت أبعد من ذلك بتوسيع مساحات احتلالها حتّى وصلت إلى تخوم دمشق.
أكّدت إسرائيل أنّ الأرض (مرتفعات الجولان) أهمّ من التسوية السياسية، ولا تزال تتمسّك بهذا المبدأ حتّى اليوم
إعادة إحياء التّسوية
في حزيران من هذا العام (2025) عُقد ثاني لقاء سوري-أميركي على مستوى القمّة بين الرئيس دونالد ترامب والرئيس أحمد الشرع. هذه المرّة كانت الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية، هي المضيف والراعي، وكان وليّ عهدها الأمير محمّد بن سلمان عرّاب اللقاء ومهندسه. وكان رفع العقوبات عن سورية هو البوّابة العريضة، ذلك أنّ رفع العقوبات يشكّل المدخل إلى رفع العقبات التي تحول دون انضمام سورية إلى “المسيرة الإبراهيميّة” التي تقوم على مبدأ الاعتراف بإسرائيل مقابل اعتراف إسرائيل بدولة فلسطين.
لا يزال من السابق لأوانه الحكم على النتائج، إلّا أنّ الاتّصالات السياسية التي كانت تجري في إطار المثلّث العربي-الأميركي-الإسرائيلي قبل 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 (أي قبل العملية العسكرية التي قامت بها حركة حماس في العمق الإسرائيلي) كادت تصل إلى إقرار تسوية تقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام، والدولة الفلسطينية مقابل الاعتراف بإسرائيل. أوقفت عمليّة غزّة وتداعياتها تلك المبادرة السياسية التي استبعدت إيران شكلاً ومضموناً، وهي المبادرة التي يحاول الآن الرئيس الأميركي ترامب إعادة إحيائها من جديد، فكان لقاء الرياض مع الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع أحد أبرز عناوينها.
من حيث المبدأ لا يمكن دعوة سوريا إلى طاولة التسوية وهي تخضع لعقوبات شاملة. كان لا بدّ من رفع هذه العقوبات ليكون مفتاحاً للدخول في مفاوضات التسوية، وهذا ما حدث. وممّا يُعزّز الموقف السوري هذه المرّة، وخلافاً لما حدث في جنيف قبل ربع قرن تقريباً، أنّ دمشق ليست مُستفرَدة ولا مُستبعَدة. فقد عادت إلى الحضن العربي من جديد. ومن شأن هذه المتغيّرات أن تقلب المعادلة السياسية في الشرق الأوسط رأساً على عقب، وهذا ما حدث فعلاً، إلّا أنّ نتائجه لم تخرج إلى النور بعد. تبدأ شمس صباح التسوية بالإشراق على الشرق الأوسط عندما تتوقّف جريمة الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزّة وفي الضفّة الغربية.
من حيث المبدأ لا يمكن دعوة سوريا إلى طاولة التسوية وهي تخضع لعقوبات شاملة
ليست المرّة الأولى التي يُعطِّل فيها العدوان الإسرائيلي على غزّة محاولات التسوية. حدث ذلك في عام 2008 عندما كاد الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان ينجح في ترتيب لقاء يجمع بين الرئيس السوري السابق بشّار الأسد والرئيس الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت. وبعد عامين على تلك المحاولة الفاشلة، جرت محاولة ثانية في عام 2010 لجمع بشّار مع نتنياهو، لكنّها تعثّرت في خطواتها الأولى لأنّه من شروط اللقاء كان التزام الأسد الابن فكّ الارتباط بالمحور الإيراني، وهو ما لم يفعله، أو ما لم يستطع أن يفعله… حتّى كانت نهايته المعروفة.
إسرائيل تنسف السّلام؟
ليس مطلوباً من الرئيس أحمد الشرع أن يسلك طريق الرئيس المصري الراحل أنور السادات عندما تفرّد (بعد اتّفاق كامب ديفيد) بزيارة إسرائيل في عام 1977 وإلقاء خطاب في الكنيست الإسرائيلي، لكنّ ثمّة ملاحظةً مهمّة لا بدّ من الإشارة إليها، وهي أنّ سورية (أحمد الشرع) لم تُطلق رصاصةً واحدة على إسرائيل، لكنّ إسرائيل شنّت على سوريا أكثر من 700 غارة جوّية استهدفت ترسانتها العسكرية في البرّ والبحر، وتحرّكت قوّاتُها جنوباً، خاصّةً في الجولان، وحاولت إثارة فتنة وطنية بالادّعاء أنّ دروز سوريا يواجهون خطر التصفية (!) وأنّها تطرح نفسها حاميةً لهم (ماذا عن الجرائم في غزّة والضفّة الغربية؟) وهي ذاتها عدوٌّ لهم.
إقرأ أيضاً: التطبيع السوري بالشروط السعودية؟
على مدى عقدين من الزمن (1991 – 2011) أُقيم جسرٌ للتسوية السياسية بين سورية وإسرائيل. وخلال هذه السنوات مرّت مياهٌ سياسية كثيرة من تحت الجسر، إلى أن توقّفت كليّاً بعد نشوب الثورة الأهليّة وارتماء نظام الأسد في الحضن الإيراني.
تغيّرت الآن المعادلات العربية والدولية، وتغيّر الوضع في سورية، غير أنّ الأمر الذي لم يتغيّر هو الموقف الإسرائيلي الذي يُترجَم اليوم في جريمة الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزّة، وفي جريمة التدمير والتقتيل التي ترتكبها في الضفّة الغربية، وفوق ذلك في جريمة الانتهاكات المتعمَّدة للحرم القدسيّ الشريف.
هل تؤدّي هذه الجرائم الجماعيّة مرّةً أخرى إلى تعطيل التسوية السياسية، بما في ذلك نسف الطريق الإبراهيمي؟