؟
دائماً ما كانَ ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا عُقدةً يتجاهلُ حلّها نظامُ الأسديْن الأب حافظ ونجله بشّار. كانَ آل الأسد ينظرون إلى لبنان كمُحافظة سوريّة بحكم التّاريخ والجغرافيا. فكانَ رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة ومُحافظُ دمشق عندهم سواء، مع بعضِ الامتيازات الشّكليّة التي كانت تُعطى للرّئيس اللبنانيّ.
لم يكن شِعارُ “شعبٍ واحدٍ في دولتَين” الذي أطلقه حافظُ الأسد قولاً للاستهلاك الإعلاميّ وحسب، بل مقولةٌ تختصرُ نظرته للبنان. ومن هذا المُنطلق لم يُسهّل نظام البعث السّوريّ يوماً ترسيمَ الحدود بين البلدَيْن، مع ما يعنيه ذلكَ من اعترافٍ واضحٍ بأنّ لبنان دولةٌ مُستقلّة وكيانٌ منفصِلٌ عن سوريا وإن اتّصلَ بها جغرافيّاً.
ذهبَ الأسد وحضرَ التّرسيم
لا يغيبُ عن ذاكرة اللبنانيين سُخرية الرّئيس الفارّ بشّار الأسد من على باب الإليزيه بعد لقائه الرّئيس الفرنسيّ الأسبق نيكولا ساركوزي في كانون الأوّل 2010 حين سُئلَ عن موضوعٍ لُبنانيّ فأجابَ: “كلّ السؤال عن موضوع داخليّ لبناني، ونحنُ لا نريد انطلاقاً من احترامنا للسيادة والاستقلال أن نتدخّل في هذا الموضوع”. رُبّما “الاستئلال” وليس الاستقلال”. وأطلقَ بعدها ضحكتهُ التي اشتُهرَ بها، والتي يفتحُ فيها فمهُ على وُسعه ويهتزّ صعوداً ونزولاً.
لم يعُد بشّار الأسد في السّلطة اليوم. ولم يعُد حزبُ البعثُ موجوداً إلّا في صفحات الأرشيف. ومعهما غابت مقولة “شعبٍ واحدٍ في دولتَيْن”. إلى ذلكَ تعملُ دُول المنطقة وفقَ سياسة “الدّولة الوطنيّة”. ولإتمامِ هذا المعنى عادَ ملفّ الحدود اللبنانيّة – السّوريّة إلى قائمة الأولويّات.
ليسَ تفصيلاً أن يطرحَ هذا الملفّ الموفدان السّعوديّ الأمير يزيد بن فرحان والأميركيّ توماس بارّاك. وسبقَ ذلكَ المسعى الذي قامَ به وزير الدّفاع السّعوديّ الأمير خالد بن سلمان بينَ وزيرَيْ الدّفاع اللبنانيّ ميشال منسّى والسّوريّ مُرهف أبو قصرة، وتُوّجَ في الرياض بتوقيع اتّفاقٍ يُؤكّد الأهمّيّة الاستراتيجيّة لترسيم الحدود بين البلدَيْن.
لم يكن شِعارُ “شعبٍ واحدٍ في دولتَين” الذي أطلقه حافظُ الأسد قولاً للاستهلاك الإعلاميّ وحسب، بل مقولةٌ تختصرُ نظرته للبنان
تكمنُ الأهمّيّة الاستراتيجيّة لترسيم الحدود بالآتي:
– يُؤدّي ترسيم الحدود التي يبلغُ طولها 375 كلم من مزارع شبعا جنوباً حتّى سواحل عكّار شمالاً إلى اعترافٍ سوريّ رسميّ بلبنان كدولةٍ قائمة، ويُلغي الفكرة التي كانت موجودة أيّام البعثِ والتي تنظرُ إلى لبنان كمحافظة سوريّة.
– يحسمُ التّرسيم هويّة مزارع شبعا. وهذا الحسم من شأنهِ أن يحسمَ الجدلَ أيضاً في فكرة “المقاومة” التي يتّخذها “الحزبُ” ذريعةً لبقاء سلاحهِ. هنا تجدُرُ الإشارة إلى أنّ النّظام السّوريّ المخلوع كانَ يُعطي أجوبةً مُتناقضة في شأن هويّة المزارع.
ترسيم الحدود
على سبيل المِثال يذكرُ الدّبلوماسيّ الأميركيّ المُخضرم فريدريك هوف في كتابه “الوصول الى المرتفعات: القصّة الدّاخليّة لمحاولة سرّيّة للتوصّل إلى سلامٍ سوريّ -إسرائيليّ” أنّه سألَ بشّار الأسد في لقاءٍ جمعهما في 2011 عن هويّة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، فأجابهُ بأنّها سوريّة.
جديرٌ بالذّكرِ أنّ كلام هوف الذي نُشِرَ في 2022 لم يلقَ أيّ ردٍّ أو توضيحٍ من الرّئاسة السّوريّة السّابقة، ولا من أيّ جهة رسميّة في النّظام. وهو ما يدعمُ صحّةَ ما نقلهُ هوف عن لسانِ الأسد.
في المُقابل يذكر نائب الرّئيس السّوريّ السّابق فاروق الشّرع في كتابه “الرّواية المفقودة” الآتي: “اتّصلَ بي الرّئيس سليم الحصّ مستفسراً عن تبعيّة مزارع شبعا. أخبرته أنّني أبلغت تيري رود لارسن بوضوح أنّ مزارع شبعا لبنانيّة”.
يُضيف الشرع في كتابه: “كان لارسن حريصاً جدّاً على أن تكون مزارع شبعا سوريّة وليست لبنانيّة، أي أنّها تتبع لقوّاتِ الأمَم المتّحدة لفضّ الاشتباك “أندوف” وليسَ لقوّات “اليونيفيل”، وذلك بهدف إلغاء دور المقاومة جنوب لبنان. شكرته على هذا الموقف “الكريم” وأبلغته أنّ مزارع شبعا لبنانيّة… صمت وانصرف غير مرتاح لهذا الجواب لأنّ هدفه ليس سخاءه تجاه سوريا بل إنهاء المقاومة في لبنان عند رسم الحدود”.
تشير مصادر رسميّة لـ”أساس” إلى أنّ المملكة العربيّة السّعوديّة تلعبُ دوراً محوريّاً في دفعِ بيروت ودِمشق لبدءِ مفاوضات جدّيّة لترسيم الحدود
– يتيحُ ترسيمُ الحدود مهمّة ضبطها ووقفِ ما كانت تشهده طوال نصف قرنٍ من الزّمن من تهريبٍ مُتبادلٍ للسّلعِ والوَقود وصولاً إلى ما شهدته منذ اندلاع الثّورة السّوريّة من تهريبٍ للسّلاحِ والمُخدّرات والمُقاتلين والبَشر.
– يُعالجُ التّرسيم مسألة المناطق المُتداخلة على طول الحدود، حيثُ توجَد بلدات سوريّة يقطنها لبنانيّون، وبلدات ضمنَ الأراضي اللبنانيّة يقطنها سوريّون.
– يُذلّل التّرسيم أسباب وقوع صراعات سياسيّة واجتماعيّة وحتّى مناطقيّة بين البلدَيْن. إذ كانَ غياب التّرسيم في السّابق سبباً لوقوع اشتباكات بين سكّان البلدات والقُرى الحدوديّة نتيجة خلافات على الطُرقِ والمياه والأراضي وحتّى المعابر.
– يتيحُ ترسيم الحدود البحريّة الشّماليّة بين لبنان وسوريا استفادة الجانبَيْن من المناطق الاقتصاديّة والثّروات الكامنة في أعماق البحر المُتوسّط من نفطٍ وغاز. إذ إنّ الشّركات الكُبرى عادةً ما تبتعِد عن التّنقيب والاستخراجِ من الآبار التي تقعُ في مناطق متنازَع عليها.
كيفَ ستُرسَّم الحدود؟ وكيفَ ستُضبط؟
تشير مصادر رسميّة لـ”أساس” إلى أنّ المملكة العربيّة السّعوديّة تلعبُ دوراً محوريّاً في دفعِ بيروت ودِمشق لبدءِ مفاوضات جدّيّة لترسيم الحدود. من هذا المُنطلق تطرحُ السّعوديّة كلّ ما يُمكنهُ تسهيل هذه المُهمّة من دعم المحادثات وَمُتابعة ما تمّ الاتّفاق عليه في لقاء وزيرَيْ الدّفاع اللبنانيّ والسّوريّ في الرّياض.
يُتوَقّعُ أن تُفعِّلَ اللجان المعنيّة من البلدَيْن اتّصالاتها واجتماعاتها في الأسابيع المُقبلة، خصوصاً أنّ واشنطن تدعمُ الجهودَ السّعوديّة الرّامية لإنجاز الملفّ الحدوديّ بين لبنان وسوريا. وذلكَ انطلاقاً من أنّ إنجاز هذا الملفّ يدخلُ في صلبِ القرارات الدّوليّة 1559، 1701 و1680 الصّادر عام 2006، الذي ينصّ بشكلٍ واضحٍ على “تشجيع سوريا على الاستجابة بشكل إيجابيّ لطلبِ لبنان تعيين الحدود وإقامة علاقات دبلوماسيّة بهدف تأكيد سيادة لبنان وسلامته الإقليمية واستقلاله السياسي”. ويُؤكّد في فقرته الثّانية تنفيذ القرار 1559.
يُؤدّي ترسيم الحدود التي يبلغُ طولها 375 كلم من مزارع شبعا جنوباً حتّى سواحل عكّار شمالاً إلى اعترافٍ سوريّ رسميّ بلبنان كدولةٍ قائمة
يُطالب أيضاً لبنانَ ببذلِ المزيد من الجهود لحلّ جميع الميليشيات اللبنانيّة وغير اللبنانيّة ونزع سلاحها، وضرورة استعادة الحكومة اللبنانية سيطرتها الكاملة على جميع الأراضي اللبنانيّة.
وتكشفُ المعلومات أنّ شركة METCO السّعوديّة الرّائدة في مجال أمن المطارات والمُنتجات العسكريّة وأمن الحدود والمرافق الحيويّة أنجزَت اتّفاقاً مبدئيّاً مع الحكومة السّوريّة لضبطِ ومراقبة الحدود مع لبنان عبر أجهزةِ مراقبة واستشعار فوقَ وتحتَ الأرض. وتعمل على إبرام اتفاق مماثل مع الحكومة اللبنانية.
الإطباق على خطوط الإمداد
لا ينفصلُ الملفّ الحدوديّ مع سوريا عن الحدود البرّيّة مع إسرائيل. يعتبرُ لبنان هذه الحدود مُرسّمة بحسبِ الحدود المُعترف بها بين لبنان وفلسطين المُحدّدة في 1923 كخطٍّ فاصلٍ بين النّفوذ البريطانيّ آنذاك في فلسطين والفرنسيّ في لبنان نتيجة عمل لجنة فرنسيّة – بريطانيّة (بوليه – نيوكومب). وأُعيدَ تأكيد هذه الحدود في المادّة الخامسة من اتّفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل في عام 1949: “يتبع خطّ الهدنة الحدود المُعترَف بها دوليّاً”.
يتطابق خطّ الانسحاب عام 2000، أو ما يُعرف بالخطّ الأزرق، مع الحدود الدّوليّة في قسمٍ كبير منه، لكنّه أوجدَ فوارق في عددٍ من الأماكن جعلت لبنان يتحفّظ على 13 نقطة تمتدّ من مزارع شبعا شرقاً إلى رأس النّاقورة غرباً. أدّت المفاوضات السّابقة إلى حلّ 7 نقاطٍ، مع بقاء الخلاف على 6 نقاطٍ، منها نقطة B1 في رأس النّاقورة.
تُريد الولايات المُتّحدة اليوم إغلاق ملفّ الحدود البرّيّة، لكنّ عودة هذه المفاوضات دونها الاحتلال الإسرائيليّ للنّقاط الـ5 في جنوب لبنان. ويتيحُ إقفالُ ملفّ الحدود المُضيَّ قُدماً نحوَ “سلامٍ” أو “استقرارٍ طويل الأمد” بين لبنان وإسرائيل، وتسهيل التّوصّل إلى اتّفاقٍ أمنيّ بين دِمشقَ وتل أبيب.
إقرأ أيضاً: إعادة الإعمار و”الشّروط” السّعوديّة
ما تُريده واشنطن أيضاً هو تلازم إتمام حدود لبنان الجنوبيّة مع إسرائيل والشّماليّة والشّرقية مع سوريا، وذلكَ لسحبِ الذّرائع من “الحزبِ” والإطباق على خطوط إمداده بشكلٍ تامّ بعد ضربِها بسقوط نظام بشّار الأسد. وهُنا بيت القصيد.