ملخص
دخل المجلس العسكري مع “قحت” في مفاوضات ماراثونية منذ منتصف أبريل 2019 ليخرجا في 7 يوليو (تموز) بالوثيقة الدستورية التي حكمت الفترة الانتقالية من فوق توتر واضطراب عظيمين كان لموكب الـ30 من يونيو فضل قطع دابرهما.
مرت في الـ30 من يونيو (حزيران) الماضي الذكرى السادسة لموكب الـ30 من يونيو عام 2019 الذي رجح كفة “قوى الحرية والتغيير” (قحت) التي قادت الحراك السياسي ضد دولة الإنقاذ (1989-2018) من ديسمبر (كانون الأول) 2018 إلى يوم اقتلاعها في الـ11 من أبريل (نيسان) 2019، على كفة المجلس العسكري الذي أراد بها شراً. فأنهى بغزارته المشهودة، في سياق تعاطف دولي وإقليمي مع ثورة السودان، ماراثون المفاوضات بين “قحت” والمجلس العسكري. فثبت لـ”قحت” وحدها حق التفاوض مع العسكريين حول ترتيب حكم السودان بعد ثورتها من دون حلفاء ضرار استنجد بهم العسكريون لتحجيمها وفرض إرادتهم عليها كما سنرى.
كان انقلاب العسكريين في اللجنة الأمنية على نظام الإنقاذ في الـ11 من أبريل 2019 مما يعرف بـ”انقلاب الفيتو” الذي يزعم “الانحياز إلى الثورة” التي غالبوا كسرها لخمسة أشهر طويلة منذ ديسمبر 2018 وخاب فألهم. وهو الانقلاب الذي يريد احتواء الثورة ما دام أنه لم ينجح في القضاء عليها، ثم التربص بها ليفرغها من هوائها “الفاسد”.
وقع “انقلاب الفيتو” ذاك وجماهير الثورة لا تزال تعتصم في القيادة العامة للقوات المسلحة على مرحلتين، وقاد المرحلة الأولى القائد العام للجيش عوض بن عوف الذي ما إن أعلن خلع الرئيس حسن عمر البشير وتولى الجيش الحكم حتى أمر بفض الاعتصام، وفرض حال الطوارئ وحظر التجول. ولم تقبل منه الثورة مجرد تغييره وجوه النظام البائد ولا إجراءاته التي أراد بها فض الثورة إدارياً. ولم يدُم حكمه ليوم واحد ليتولى الأمر بعده الفريق عبدالفتاح البرهان الذي قبل مجلسه العسكري بحقيقة الثورة، مبيّتاً منازلتها في ميدان السياسة نفسه الذي هي فيه، وعلى المدى الطويل.
دخل المجلس العسكري مع “قحت” في مفاوضات ماراثونية منذ منتصف أبريل عام 2019 ليخرجا في السابع من يوليو (تموز) بالوثيقة الدستورية التي حكمت الفترة الانتقالية من فوق توتر واضطراب عظيمين كان لموكب الـ30 من يونيو فضل قطع دابرهما.
وكانت المفاوضات هي ساحة المجلس العسكري لتمكين نفسه من الحكم، بالتضييق على “قحت” بطائفة من التكتيكات، فإما أزاحها عن الميدان، أو أضعفها فنزع أظافرها.
1- نازعها في طلبها أن يكون الحكم مدنياً بواسطة مجلس سيادة مدني حتى نجح في مناصفتها ضمنه.
2- ظل يستدعي للتحالف معه جماعات سياسية أخرى لينزع عن “قحت” سلطانها المفرد في الثورة والحكم. واتفق للعسكريين لمعاجلة الفترة الانتقالية عقد انتخابات مبكرة، “والحشاش يملأ شبكته” كما يقولون، وهم يعلمون أن الجمهرة الانتخابية هي نقطة ضعف “قحت” كما سنرى.
3- شيطنة “قحت” واعتصامها لضربه كما هو معروف في الثالث من يونيو.
لم يقبل العسكريون بموقف “قحت” التي أعلنت رفضها لأية حكومة عسكرية بتسليم الأمر خالصاً إلى المدنيين في حكومة انتقالية لأربعة أعوام قوامها مجلس سيادي ووزراء مدنيين وفترة انتقالية لأربع سنوات. وكانت عظمة النزاع الكبرى بينهما هي تكوين مجلس السيادة، فتنازلت “قحت” هوناً في مرحلة تالية وقبلت بمجلس سيادي مدني بتمثيل عسكري محدود، في حين أصر العسكريون على أن تكون لهم الغالبية فيه.
ومنعاً للتطويل انتهى ذلك النزاع إلى المساومة التي جاءت في الوثيقة الدستورية التي تكون بها السيادي من 11 عضواً، خمسة لكل منهما، والعضو 11 يكون من المدنيين ويتفق عليه الطرفان، وأن تكون رئاسة المجلس بالتناوب مناصفة.
حلفاء ضرار لـ”قحت”
أما أمكر ما اختط العسكريون، فهو رفض صفة “قحت” عن نفسها كممثل السودانيين الأوحد لدورها في زعامة ثورة قبلوا بها كأمر واقع. فبدأوا بإيجاد حليف بين الأئمة والوعاظ وغيرهم من القوى خارج “قحت”، وحصلوا من تلك القوى، بعد ضمان تمثيلهم في مجلس الوزراء والتشريعي، على تأييدهم قيام المجلس العسكري، وعاهدهم العسكريون على ألا يقيموا حكومة مدنية إلا بتوافق جميع السودانيين.
سؤال الذكرى الثالثة لمجزرة “اعتصام القيادة” في السودان: أين الجناة؟
فض اعتصام القيادة في السودان… التبعات والرهان على الوقت
مشاهدات وومضات بعد عام على فض اعتصام القيادة العامة في السودان
لهذه الأسباب رفض سودانيون تقرير لجنة التحقيق بشأن اعتصام القيادة العامة
ونشأ في هذا السياق تيار نصرة الشريعة والقانون بقيادة الشيخ عبدالحي يوسف الذي رتب لمسيرة لنصرة الشريعة، لينازعوا “قحت” ملكية الشارع. وأذن العسكريون في طور من التفاوض للتيار أن يخرج بمسيرته الجماهيرية وشعارها “حرية، سلام، وعدالة الشريعة” (بدلاً من “مدنية” التي في أصل الشعار لـ”قحت”) لفك احتكار “قحت” للشارع. وظل تهديد العسكريين لـ”قحت” طوال المفاوضات بأنهم سيجتمعون بتلك القوى للاستئناس برأيها في ما ستكون عليه الحكومة الانتقالية. وأمنوا لهم مطلبهم في إسلامية الدولة الجديدة، فانتقد عضو المجلس الفريق شمس الدين الكباشي وثيقة برنامجية “قحت” لإغفالها مصادر التشريع وتجاهل اللغة الرسمية. وقالوا إنهم إذا وصلوا مع “قحت” إلى طريق مسدود، فسيجتمعون مع فئات غيرها ويستمعون منها، مثمنين حرصها على هوية الأمة ولغتها العربية.
ونشط محمد حمدان دقلو في حشد تلك القوى البديلة لـ”قحت”، فمد جسوره لرجالات الإدارة الأهلية في القبائل الذين فوضوا خلال اجتماعهم المجلس العسكري ليقيم حكومة تكنوقراط من دون إقصاء أحد. وكذلك قاد لجنة للتواصل مع حركات الكفاح المسلح للسلام التي خرجت بـ”اتفاق سلام جوبا” (2020) في خاتمة المطاف.
وأذاعوا فكرة قيام انتخابات مبكرة لتعزيز حلفهم مع تلك القوى ليكون للشعب الخيار، وكانت من وراء ذلك قناعتهم بأن “قحت” في القلة الاقتراعية متى جاءت الانتخابات، في حين أن المؤتمر الوطني ما زال حزباً قوي الجانب، بل رموا بعينهم أن يطمعوا حزب الأمة، وهو حزب الغالبية في آخر انتخابات عام 1986، في خطتهم فيغادر صف “قحت”. وليؤمنوا لقواهم الحليفة منابر حشد الناس لمشروعها، رجع العسكريون عن قرارهم بتجميد النقابات والاتحادات التي كان للإسلاميين سلطان عليها.
شيطنة الاعتصام
كان الاعتصام حول القيادة العامة غصة في حلق العسكريين لأن التفاوض يتم والعسكريون في حال حصار فخرجوا لشيطنته، فاحتج “حميدتي” على المسيرات والمتاريس في الاعتصام ومن حوله ووصفها بالفوضى واستفزاز العسكريين. وأعقبه البرهان فعلّق التفاوض في طور ما حتى تلتزم “قحت” إزالة المتاريس خارج محيط الاعتصام ومنع التحرش بالعسكريين. وكانت تلك مقدمات لفضه، كما هو معروف، فضاً مضرجاً مشهوداً.
من الجهة الأخرى، كانت “قحت” تضغط بحشود أنصارها عند كل منعطف من كدر التفاوض، بخاصة حين يعلقه العسكريون من جانب واحد ويستدعون خصومها لمائدته. فموكب الـ30 من يونيو في حساب “قحت” هو الموجة الثالثة ضمن استعراض سلطانها في الشارع، إذ أخرجت موكب الـ25 من أبريل الذي دعا إلى مقاطعة المفاوضات حتى يقبل العسكريون بحكومة مدنية. ودعت في الـ 28 والـ29 من مايو (أيار) إلى عصيان مدني شامل شل العاصمة. وكان الـ30 من يونيو عرضاً خاصاً للعسكريين ليروا أن فضهم الاعتصام مما أرادوا به تجفيف الشارع من “قحت” ما أجدى.
ولم تتوقف لجان المقاومة من تسيير “المليونيات”، كما عُرفت تظاهراتها، بعد قيام حكومة الانتقالية. ولكن شتان. كانت في الدورة الثانية احتجاجاً لا يزال على دولة العسكريين في الحكم حتى بعد مساومة الوثيقة الدستورية. إلا أن الشقة باعدت بين تلك اللجان و”قحت”، وساء ظن الأولى بالثانية التي لا تحرك ساكناً وتظاهرات الشباب في مرمى نيران العسكر وضحاياها راعفة، بل دق بينهما عطر منشم. ولم يعد رموز “قحت” مرحباً بهم في مواكب المقاومة.
وصح القائل إن اللجان عاشت يتماً سياسياً بعد انفصالها عن حاضنتها الأم التي ضعفت بدورها ضعفاً كان من وراء العزلة التي ضربتها وأودت بها في انقلاب الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2021.
ولم تتفق لـ”قحت” استراتيجية لاستصحاب لجان المقاومة في شغل الدولة كما كانت شريكاً في شغل الثورة. وبثاقب نظره عرض الإمام الصادق المهدي على “قحت” يوماً خطة أغرقها الحزب الشيوعي بنقدها كوصاية على اللجان، أو تمدد لحزبه فيها.
بل رأينا من قادة من “قحت” احتكوا بتلك اللجان جفاء لا يتفق وأدوارهم القيادية حيالها. ومتى استعرضنا مواقف لقادة في “قحت” احتكوا خلالها بلجان المقاومة واستدعت إعمال ملكتهم القيادية نجدهم لم يسددوا الرمي. فنشر رئيس المجلس المركزي لـ”قحت” إبراهيم الشيخ فيديو في يوليو 2020 عن مخاشنة وقعت بين أحد أبنائه ولجان مقاومة حي بري بالخرطوم. وكانت اللجان أبلغت عنه الشرطة في سياق حراستها لقرارات الحكومة الانتقالية في أحيائها لشرائه غازولين كانت الحكومة منعت التداول به من عربة “تانكر” في عرض الفضاء. ثم اتضح أنه من المأذون بيعاً وشراء ما دام أنه لم يكُن مما تتولى الدولة توزيعه. ولم ينجح إبراهيم بالخوض اللبق في ذلك العكر كأب وقيادي معاً. فأخذ على شباب المقاومة مآخذ رغب كثرٌ لو أنه تبينها، أو بيّنها للجان، متى جلس إليهم واستمع منهم، وأخذ منهم ورد عوضاً عن فيديو غلّب فيه الأبوة على ما عداها.
من جهة أخرى احتك القيادي في حزب المؤتمر السوداني والوزير بالحكومة الانتقالية خالد عمر يوسف بلجان مدينة سنار بولاية النيل الأزرق ولم يسفر عن عدة القيادة، فكان أن اعتدت تلك اللجان على ناشط في الثورة سبق أن كان قيادياً إسلامياً في حركة الطلاب، تتهمه بأنه كان وراء مصرع زميل لهم أيام حكم حركته. وجاء الخبر باسم خالد عمر يوسف طرفاً في الواقعة، فسارع إلى نفي كل صلة له بالحادثة وزاد بإدانة ذلك الاعتداء على الناشط، “فالعنف ليس الوسيلة الأمثل للتعبير عن الاختلافات”، وهو موقف كريم منه لو كان تحرى، لا صحة اشتراكه في الواقعة وحسب، بل صحة وقوعها كما جاءت عند رواتها. فلم يسأل خالد عمر يوسف عن طريق لجان مقاومة سنار، أو فرع حزبه في المدينة، إن كان ما أثير حولها حقاً، وإن كان حقاً فبأية حيثيات؟ وبالعدم فلا يعدو نفيه لاشتراكه في الواقعة أنه تبرئة للذات خلت من دبارة القيادة لأنها لم تستصحب إلى البراءة، أو عدمها، جماعة هو في سدة قيادتها.
وليس مثل حادثة لجان مقاومة حي الحتانة بشمال مدينة أم درمان مع عضو مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول شمس الدين الكباشي دلالة في يتم المقاومة حيال استراتيجية دولة الثورة، فكان أن تجمعت جماعة من شباب المقاومة عند بيت في حيهم خلال زيارة الكباشي الأسرية له. وتظاهروا ضده لدوره في فض اعتصام القيادة في الثالث من يونيو 2019، وبدا أن من بينهم من أساء الأدب بحسب التهمة التي وجهت لطائفة منهم.
وما لبث أن صدر بيان عن مجلس السيادة الذي يضم خمسة مدنيين ممثلين لـ”قوى الحرية والتغيير”، يستنكر ما أصاب زميلهم الكباشي من لغو في الحتانة ويدينه، بل بعث المجلس مستشاره القانوني ليقف على القضية نيابة عنه. وهنا أيضاً لم يكترث أولئك الأعضاء المدنيون بالتحقق المستقل من ذلك اللغو بحق الكباشي مع لجان المقاومة في الحي مما تمليه أعراف القيادة.
سبق سيف مدنيو “قحت” في مجلس السيادة العزل، فلم يصغوا إلى رواية شباب الحتانة، ومناقشتهم في دقائق صدامهم مع الكباشي من موقع القيادة لا الوصاية، والتوصل معهم تربوياً إلى موقف سياسي رصين حوله، بما في ذلك أخذهم في سكة التصالح مع خطئهم، إذا وقع، والاعتذار لزميلهم في المجلس وفض السيرة.
لم تتوافر لـ”قحت” بعد دراسة كيف اعتزلت لجان المقاومة في حين عقدت ورشاً لتقييم حصيدها في لجنة تفكيك التمكين والعلاقات الخارجية واتفاق جوبا للسلام. ولو صحت عزائمها في تحليل مصابها في الدولة لقللت من لوم “الكيزان” لأنهم لم يقوموا إلا بما قام به كل من نزع عنه الملك، فالملك حار، ولصوّبت آلة بحثها عن مصابها إلى طلاق البينونة بينها ولجان المقاومة. فاعتزال “قحت” للجان المقاومة كان إعلاناً كئيباً بحل جيشها السياسي الذي ثبتها بمثل الـ30 من يونيو 2019 في مفاوضات ترتيبات الفترة الانتقالية، في حين أراد العسكريون نزعها منها.