ملخص
تاريخياً، شهدت العلاقة بين سنة لبنان وسوريا حالاً من المد والجزر، وقد تأثرت إلى حد كبير بـالأيديولوجيا المسيطرة على مقاليد الحكم في سوريا. وهو ما انعكس على مواقف دار الفتوى في لبنان، التي تعرض رأسها للاغتيال عام 1989 بسبب مواقفه الرافضة لاستمرار الهيمنة السورية. اليوم يزور المفتي عبداللطيف دريان دمشق للقاء الرئيس أحمد الشرع، في زيارة هي الأولى من رأس المؤسسة الدينية للطائفة السنية في لبنان.
“رحلة تنقية الذاكرة” هكذا يراد لها أن تكون رحلة مفتي الجمهورية اللبنانية عبداللطيف دريان إلى دمشق، التي وصل إليها صباح اليوم السبت ويلتقي خلالها الرئيس السوري أحمد الشرع. رمزية هذه الزيارة فائقة الأهمية في هذا التوقيت وهذه المرحلة، فهي تأتي بعد نصف قرن من الصراع الظاهر حيناً، والصامت أحياناً بين الطائفة السنية في لبنان، والنظام السوري السابق منذ حافظ الأسد وصولاً إلى ابنه بشار، الذي لم يوفر أي وسيلة لإقصاء “طائفة مؤسسة” في الكيان اللبناني، وهو ما نجده في “خطاب المظلومية” في مواجهة حلف الأقليات، حين تعرضت المدن السنية الكبرى للتضييق الأمني، وشهد جيل كامل نشأ خلال الحرب الأهلية (1975 – 1990) على قصف المدن وارتكاب مجازر على غرار ما تعرضت له مدينة طرابلس شمال البلاد، ناهيك بالاغتيالات المتواصلة لعلماء ورجال سياسة.
ولعل أبرز هذه الاغتيالات التي وجهت أصابع الاتهام لدمشق بالوقوف وراءها، عملية اغتيال الشيخ صبحي الصالح في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1986 وبعده المفتي حسن خالد في مايو (أيار) عام 1989، وبلغت ذروتها مع الاستهداف المباشر لرئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في فبراير (شباط) عام 2005.
kk.png
مفتي الجمهورية اللبنانية عبداللطيف دريان يزور دمشق ويلتقي الرئيس السوري أحمد الشرع (رويترز)
بوابة دمشق أمام دريان
تفتح دمشق اليوم في الخامس من يوليو (تموز) أبوابها أمام مفتي الجمهورية اللبنانية عبداللطيف دريان والوفد المرافق، فيما كشفت مصادر صحافية أن المفتي دريان سيؤدي صلاة الظهر في المسجد الأموي في العاصمة السورية دمشق للمرة الأولى منذ نحو عقدين من الزمن.
تعددت القراءات لهذا اللقاء، بين من وجد في الزيارة لقاءً طبيعياً بين وفد علمائي لبناني والرئيس السوري بعد سلسلة لقاءات بين القيادة الجديدة وشخصيات لبنانية، التي كان من بينها وفد درزي برئاسة الوزير السابق وليد جنبلاط، وزيارة رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام، ووفود سياسية وشعبية متعاطفة مع “الثورة السورية” ضد النظام السابق، فيما حاول البعض وضعها في خانة تجديد اللقاء بين شريحتين، توحد بينهما الانتماءات الدينية والبنى الفكرية، تعيشان في دولتين جارتين في تكامل ووئام.
فيما بلغ بعض التحليلات الإعلامية حد المبالغة القصوى لناحية الحديث عن التوجه إلى الشام لإعادة إحياء الروابط التاريخية، والطلب من الرئيس أحمد الشرع برفع المظلومية عن الطائفية السنية في لبنان.
تدخل تلك التحليلات ضمن نقاط المألوف في الخطاب السياسي اللبناني، المشهور عنه الانقسام والمغالاة في تفسير أي حدث. يرى أستاذ الحضارة العربية والإسلامية في جامعة القديس يوسف الدكتور أحمد الزعبي أنه “لا يجب تحميل زيارة مفتي الجمهورية إلى سوريا أكثر مما تحتمل، بخاصة أن سوريا الجديدة لا تزال تعاني تحديات كبيرة، لذا فإن ما يشاع عن أبعاد سياسية آنية للزيارة هو في غير إطاره الصحيح”، مشدداً على أن “ليس من عادة سنة لبنان التأسيس والخوض في الاستقطابات، وإنما هم يسعون دائماً إلى التذكير بما تعرضوا له من ممارسات نافرة ومستفزة وظالمة من النظام السوري السابق وأدواته في لبنان، والتي تمثلت في اغتيال الشخصيات والقيادات السياسية والدينية، والتهميش المتعمد”، كذلك “انتهج النظام وحلفاؤه نهج رمي الطائفة بتهم التطرف والإرهاب، واستغلال تلك التهم بصورة مقيتة في اللعبة السياسية الداخلية”. من هنا، يضع الزعبي زيارة المفتي دريان في خانة “الموقف الطبيعي والإيجابي” لإنضاج موقف سوري داخلي وخارجي”، لافتاً إلى أن القضايا الخلافية بين لبنان وسوريا على غرار ضبط الحدود وتنظيم التجارة والاتفاقات الأمنية والقضائية، لا بد أن تحل من خلال أجهزة الدولة اللبنانية والحكومة.
يعتقد الزعبي أن “سوريا الجديدة في حاجة إلى موقف إيجابي داعم للتعددية السورية، وعودتها إلى الصف العربي، وبناء دولة ديمقراطية تعددية تحترم الحريات، وجميع مكونات المجتمع”. كذلك يعبر عن تفاؤله بوجود بعض المؤشرات الإيجابية في سوريا على رغم التحديات الكبيرة للحكم الجديد، مرحباً برفع العقوبات، والعودة إلى النظام الدولي للتعاملات المالية، والدفع العربي نحو الاستقرار من خلال سعي السعودية وباقي الدول الخليجية والعربية، ناهيك بالموقف اللبناني المتعاون مع مسيرة سوريا الجديدة”.
ؤ
صورة من عملية اغتيال المفتي حسن خالد في لبنان عام 1989 (ا ف ب)
فتح صفحة جديدة
يأمل لبنان فتح صفحة جديدة مع سوريا بعد عقود من الصدام في الظاهر والباطن. ويعتقد الدكتور الزعبي أن “لا بد من تذكر الماضي، واسترجاع مختلف المحطات السلبية بوصفها مدخلاً وأساساً لبناء العلاقة المتوازنة بين البلدين، وفتح صفحة جديدة”، من هنا “لا بد من تنظيف الذاكرة سورياً ولبنانياً لتأسيس مستقبل واعد” حسب الزعبي.
دور دار الإفتاء لدى الطائفة السنية في لبنان لم يكن هو الأساس في رسم السياسات، ولم يعرف عنهم الحديث في السياسة إلا بما يجمع، ولا يلجأ عادة المفتي إلى توجيه النداءات العالية النبرة إلا في الأحوال الحساسة والمراحل الحرجة. في المقابل قامت دار الإفتاء بمهام جمة على مستوى إدارة الأوقاف والتدريس وإقامة المؤسسات التي تعنى بجمع الزكاة وتوزيعها وفق مصارفها الشرعية.
وحتى اليوم، تعاقب على الموقع خمسة مفتين، الشيخ محمد توفيق خالد (1932-1951)، والشيخ محمد علايا (1951-1966)، وسماحة المفتي حسن سعد الدين خالد (1966-1989)، وقد سطع اسمه بسبب مواقفه الجامعة خلال الحرب الأهلية الرافضة للهيمنة السورية والميليشيات المتقاتلة، وبعده الشيخ محمد رشيد قباني (1996-2014)، الذي خلفه المفتي الحالي عبداللطيف دريان الذي صدر عنه أخيراً تنبيه من مواصلة ظلم فئة من أهل السنة. يعتبر الدكتور أحمد الزعبي أن حديث دريان أخيراً عن “مظلومية سنية” إنما هو مبني على وقائع، واستخدام الملفات القضائية بصورة كيدية، و”خلق أوهام خلايا التطرف” لحرف الأنظار عن الحديث السياسي الداعي إلى سحب السلاح غير الشرعي من لبنان على مختلف انتماءاته.
اقرأ المزيد
مقتل المدان باغتيال الحريري جراء قصف إسرائيلي على سوريا
سنة لبنان… أي دور لهم وسط التغيرات الكبيرة؟
اجتماع نواب سنة لبنان توخى إعادة التوازن إلى الساحة السياسية
علاقة متعددة الأبعاد
يشكل البعد التاريخي والعاملان الجغرافي والسوسيولوجي المتداخلان جزءاً أساساً في قراءة العلاقة بين سنة لبنان وسوريا. يتطرق أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية الدكتور خالد كموني إلى محددات العلاقة بين شعبي لبنان وسوريا، فإلى جانب الربط بوصفهم مكونات من الأمة العربية، هناك صلة وصل قوامها العلاقات التجارية والثقافية والحركة النضالية بسبب القرب بينهما، وهذا ما ينعكس على مواقف من القضايا السياسية الكبرى.
في السياق لا بد من الإشارة إلى أنه قبل إعلان تأسيس لبنان الكبير في الأول من سبتمبر (أيلول) 1920، قام “لبنان الصغير” أو متصرفية جبل لبنان 1861 على توازن مسيحي ماروني من جهة، ودرزي من جهة أخرى. وجاء ضم الأقضية، ومدن الساحل ليعيد رسم الخريطة الجغرافية والديموغرافية للبلاد التي عرفت تاريخياً “مأوى الأقليات”. ومعها شكل السنة غالبية سكان المدن الساحلية التي انضمت للدولة الناشئة في طرابلس، وبيروت، وصيدا لتحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي للكيان الجديد، وهم تجار قدماء على صلة عميقة في البلاد السورية، وتبادلاتهم تنتظم مع دمشق وحلب، وحمص والساحل السوري. كما أنهم ينتمون إلى بيئة إسلامية محافظة ترعرعت في كنف السلطنة العثمانية. من هنا، ظهر في بادئ الأمر رفض الانسلاخ عن العمق السوري، لمصلحة دولة لبنان التي أنشأها الانتداب الفرنسي، وبقي مطلب الوحدة العربية حياً عبر التاريخ بأوجه مختلفة لغاية الحرب الأهلية، حين انحاز السنة إلى جانب الرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر، وناصروا جمهورية الوحدة، ووقفوا إلى جانب الفلسطينيين.
في السياق نقتبس من الدكتور جورج قرم في كتابه “لبنان المعاصر، تاريخ ومجتمع” مقالته التي جاء في نصها:
“في عام 1926، أصبح للبنان دستور ليبرالي الطابع، مستوحى من الدستور الفرنسي لعام 1875، ومن الدستور البلجيكي. لم يعجب هذا الأمر الأعيان المسلمين، وهم يرون فرنسا تجهض أحلامهم بوحدة الولايات العربية التابعة للسلطنة (العثمانية)، إضافة إلى إجهاض وحدة الولايات السورية، وقد كانوا يدعون إلى ضم جبل لبنان السابق إلى تلك الوحدة. إلا أنهم سرعان ما انتظموا في اللعبة السياسية والدستورية المحلية الجديدة”، مشيراً إلى أنه “في عام 1932، كاد يتم انتخاب رئيس مسلم للجمهورية هو الشيخ محمد الجسر بدعم من الأصوات المسيحية في المجلس النيابي، لو لم تبادر السلطة المنتدبة إلى تعليق الدستور”. كما لعب السنة عبر رئيس الحكومة السابق رياض الصلح دوراً في قيام “الميثاق الوطني”، وتكريس التوازنات العرفية داخل النظام، كما كانت تربطهم علاقات جيدة مع سوريا في حقبة الرئيس السوري السابق شكري القوتلي، والمحطات السابقة على إمساك البعث بمقاليد الحكم في الشام.
AFP__20010529__APP2001052251081__v1__MidRes__SyriaLebanonHariri.jpg
رفيق الحريري في لقاء مع بشار الأسد في دمشق عام 2001 (ا ف ب)
سياسة “تحالف الأقليات”
مع قدوم آل الآسد إلى السلطة في سوريا في بداية السبعينيات، بدأ الترويج والعمل لما يسمى “تحالف الأقليات”، وهو ما يضعه كموني في خانة “الاستغلال الذي مارسه البعث السوري بنسخة حافظ الأسد”، وهو ما شكل خروجاً عن الميلاد التاريخي لحزب نشأ في بيئة دمشقية نضالية قومية، وبأهداف جامعة لجميع أبناء العالم العربي، قبل أن تفسده “الذهنية الأقلوية” التي لم تر أبعد من مصالحها الفئوية، ومن ثم الدخول إلى لبنان وجثوم النظام على صدر لبنان بدعم أميركي ودولي لمنع أي نهضة وعيش مشترك بين أبناء البلدين.
بدأ النظام السوري بإقصاء السنة، ومعاقبتهم على معارضتهم له في الداخل السوري ولبنان. وارتكب مجازر في مدينتي حماة السورية، وفي طرابلس اللبنانية، وثبت مراكزه العسكرية في المناطق السنية، وحاول تطويع دار الفتوى ورئاسة الحكومة، مستخدماً العنف المادي والمعنوي، فإن لم ينفع الترهيب المعنوي، يكون الانتقال إلى العنف المادي والاغتيال.
ويقول كموني “مارس النظام السوري السابق الاغتيالات في حق شخصيات سنية متميزة، وصاحبة دور وطني جامع، وإرساء العيش المشترك، فقد لعب الصالح، والمفتي خالد أدواراً إيجابية في حفظ الأمن الوطني ورفض الأمني الذاتي والانغلاق في مرحلة الحرب الأهلية، كما أن الحريري لعب دور إزالة آثار هذه الحرب من خلال مشاريع مهمة، وتعزيز عقلية الاستثمار والبناء على رغم وجهات النظر الناقدة لبعضها، إلا أنه بالتأكيد لم يكن رجلاً إقصائياً أو طائفياً ولم يعمل لفئة على حساب أخرى. وإنما عمل على بناء مؤسسات دولة للسير بمشروعه وهذا ما ناقض النظام السوري المسيطر على البلاد من خلال الاستخبارات، وتشجيع قيام الدويلات المدعومة أقلوياً على حساب الدولة الجامعة”.
50 عاماً من المظلومية
جاءت ممارسات النظام السوري في لبنان لتؤجج الانقسامات الطائفية واستهداف الطوائف التاريخية الكبرى، ويلفت خالد كموني “لم يأت شعور المظلومية لدى سنة لبنان من نفس طائفي لديهم، وإنما بسبب الآخر الذي عاملهم انطلاقاً من حس طائفي دفين، حيث قدم الحاكم في سوريا نفسه طائفياً أقلوياً، وهو ما كرسه في لبنان والإدارة اللبنانية لمزيد من التفرقة والتفتيت”. ويتطرق إلى استخدام شماعة التطرف في كل مرة تتصاعد معارضة في الأوساط السنية، أو يطالب محور الممانعة بتنازلات، وهو أمر مستمر إلى الآن، قائلاً “في كل مرة يثار فيها موضوع السلاح أو فرض هيبة الدولة على كامل أراضيها، يبرز تنظيم ’داعش‘ للظهور من جديد”، “وهو من نتاج الفكر الأقلوي الذي هو أدنى من التفكير بالعيش الواحد والعيش الكريم”.
الاصطفاف إلى جانب الشرع
ولد سقوط نظام الأسد في دمشق ارتياحاً عاماً لدى سنة لبنان، بعد عقود من التضييق، والملاحقة والنعت بالإرهاب والتطرف لفئة واسعة بسبب معارضتها ومخالفتها نظام بشار الأسد. وهو موقف أبداه السواد الأعظم في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري والمطالبة بخروج الجيش السوري وتفكيك نظامه الأمني الاستخباراتي في لبنان. ومن ثم موقف الدعم والإيواء للجيش السوري الحر أثناء “الثورة السورية” طوال 11 عاماً، ويبدي تيار واسع من السنة إعجابهم بحيوية الرئيس السوري أحمد الشرع ومواقفه التي تناقض النظام المخلوع.
ينبه كموني أن “الموقف الإيجابي من الرئيس أحمد الشرع لا يقتصر على سنة لبنان، بل إن دروز لبنان ومسيحييه، وكثيراً من شيعته سروا بزوال النظام البائد”، معبراً عن تفاؤله بـ”انتهاء الذهنيات الأقلوية القاتلة، ولم يعد بإمكان جماعات مسلحة وانتمائها لمرشد في الخارج تمنع قيام الدولة اللبنانية على رغم الإقرار بما قدمته من تضحيات وعمل مقاوم مثل كل لبناني”.