زيارة في الاستديو هي سلسلة من الحوارات مع شاغلين وشاغلات في الشأن الفني والأدبي والثقافي بأطيافه الواسعة، من سوريا والدول العربية والشتات العربي، يحتل فيها سؤال المكان أو مُختبَر عمل الفنان دوراً محورياً، إلى جانب الإضاءة على محاور أخرى من عمله وسيرته الفنية.
* * * * *
سكنت مسيرته الفنية هواجس إيجاد سرد بصري لمعاناة الإنسان في لحظاته الهشّة، ومواجهة بنية السلطة، أحد أبرز الوجوه الشاهدة على ذاكرة الدراما السورية ومن أهمّ أعمدتها.
تشكّل وعيُ المخرج السوري هيثم حقّي في تماسِّ الأزمنة وتداخلِ الأمكنة؛ من الفرات وحلب، حيث الذاكرةُ الأولى وملامحُ التكوين، إلى روما التي صهرتْ نظرتَه إلى الفن، ومن ثمّ عائداً إلى دمشق محمّلاً بوهجِ موسكو، ساعيّاً لتحقيق حلمِه السينمائي، فاصطدم بواقعٍ ثقيلٍ ومركّبٍ يتعامل مع الفن كمرفقٍ دعائيٍّ ملحقٍ بالإعلام. حوّل هذه القيود إلى فرصةٍ لخلقِ نموذجٍ جديدٍ آنذاك، فسعى ليُدخل إلى التلفزيون لغةً جديدةً تلائم خصوصياتِ الوسيلة دون أن تخونَ روحها، وأسس لنوعٍ من الدراما الواقعية التي تتوخى طرح قضايا مجتمعية بقدر ما يتاح لها من صدقٍ وجرأة، وهي عوامل لعبت دوراً كبيراً في الانتشار الواسع للدراما السورية في تلك الفترة محلياً وعلى مستوى العالم العربي.
حين تحوّلت البلادُ إلى مساحاتٍ للمحوِ والموت، حمل هيثم حقّي منفاه في داخله؛ منفى جغرافيّ، وآخر معنوي يُقصيه عن شرطِ الحضور وسطَ وطنٍ لم يعد يتّسع لصوتِ الحقيقة.
انشغل هيثم حقّي بقراءة علاقةَ الصورة بالسلطة، وكذلك بالزمن والهوية؛ فما الذي يعنيه أن تكون إنساناً في زمن القهر؟ وماذا يعني أن تصنع فنّاً تحت سطوةِ نظامٍ لا يُبقي ولا يذر؟
في هذا الجزء من سلسلة «زيارة في الاستديو»، نُعيد مع هيثم حقّي فتحَ دفاترِ الذاكرة، ونتحدّث عن المنفى والعدالة، وما الذي تبقّى من ذلك الرهان في زمنٍ تبدّلتْ فيه معاني الفن والسياسة والحرية معاً.
خضتَ خلال مسيرتك تحوّلات كبرى داخل الوطن، وعاينت تبدّلات الزمان والمكان من قلب الجغرافيا السّورية، وصولاً إلى منفاك في فرنسا، في ضوء غياب المكان الأوّل هل تغيّر إيقاعك الشخصي والفكري؟
ما الذي تهشّم في هيثم حقّي، وما الذي تكوَّن من جديد؟
في الحقيقة، التنقُّل بين الأمكنة جزءٌ أساسيٌّ من حياتي، لم يكن مرتبطاً بفكرةِ المنفى أو الفقد، كما حدث لاحقاً. وُلدتُ في دير الزور، وعشتُ فيها طفولتي، ودرستُ المرحلةَ الابتدائية هناك. هذه المدينة كان لها تأثيرٌ كبيرٌ عليّ، لأنّها جزءٌ من بيئةِ الفرات التي انغرستْ في أعماقي، وشكّلت شخصيّتي الأولى.
انتقلنا بعدها إلى حلب بحكمِ عملِ والدي، قبل أن نغادر إلى روما، حيث قصدها أبي للدراسةِ في أكاديميةِ الفنونِ الجميلة، وهناك انفتحت أمامي نوافذُ أخرى على العالم، وترسّخت في وجداني معانٍ جديدة، خاصةً على المستوى الثقافي والبصري.
بعد أن أنهيتُ المرحلةَ الثانوية، أقمتُ في دمشقَ لمدةِ عام، درستُ خلالها طبَّ الأسنان، لكن سرعانَ ما أدركتُ أن هذا المسار لا يُشبهني. ثمّ سافرتُ إلى موسكو لدراسةِ السينما، وهي محطةٌ محوريةٌ في مسيرتي؛ حيث درستُ هناك على يدِ أحد أبرزِ عمالقةِ الإخراج والمنظّرين السينمائيين، ليف كوليشوف. بعد ستِّ سنوات، عدتُ إلى دمشق، وفيها بدأ مشروعِي الفنّي الحقيقي، سواء في السينما أو في الدراما التلفزيونية.
لم تكن إقامتي محصورةً بسوريا وحدها؛ إذ عملتُ لفتراتٍ في الخليج، كما أقمتُ لفترةٍ وجيزةٍ في برلين، مرافقاً زوجتي خلال دراستها. ومع ذلك، ظلَّ في القلب فسحةٌ للأمل، ونافذةٌ مشرعةٌ على احتمالاتِ العودةِ إلى الوطن.
بعد عام 2011، انقلب المشهد؛ حين أعلنتُ موقفي الواضحَ الداعمَ للثورة، غادرتُ سوريا مُجبراً، وحينها بدأ المنفى الحقيقي؛ المنفى القاسي الذي لا يُشبه في شيءٍ ما اختبرتُه من قبل، إذ انتُزعت احتمالاتُ العودةِ من جذورها، وغدا وجودي في فرنسا اضطراراً لا اختياراً.
تبدّلت إيقاعاتُ حياتي، ومع ذلك لم أنكفئ؛ أنجزتُ مسلسل وجوه وأماكن بأجزائه الثلاثة، مصوِّراً إيّاه في المنفى بمشاركةِ كوكبةٍ من الفنانين السوريين. غير أنَّ الطريق لم تكن معبّدة؛ فقد اعترضتنا صعوباتٌ جمّة، منها ما بلغ حدَّ التهديدِ من قبل النظامِ السوري لبعض المشاركاتِ في العمل.
في أواخر سبعينيات القرن الماضي، فتحتَ باب ‘النادي السينمائي’ في زمنٍ شحّت فيه الخيارات وانغلقت المنصات، وبحسب معاصرينَ لهذه التجربة وممن تابعوك آنذاك، فقد لعبتَ دوراً نقديّاً ومعرفيّاً محفّزاً، ساهم بإعادة تشكيل الوعي الجمالي وإيقاظ الأسئلة. اليوم، ورغم انفتاح المنفى، وتعدّد المنصات، واتّساع فضاء التعبير، نراك قد تنحّيت عن هذا الدور، أو تواريت عن ممارسة هذا الحضور الثقافي المحرّض، فهل مردّ ذلك إلى خيبة أعمق في وظيفة الثقافة وجدواها؟
لستُ بصددِ الدفاعِ عن نفسي، ولكن من الإنصافِ القولُ إنّني منذ خروجي إلى المنفى، لم أنقطع عن الفعلِ الثقافي والسياسي، وإنْ تبدّلت أشكاله. فقد شاركتُ في عددٍ من المؤتمراتِ والتجمّعاتِ المعارضة، وأسهمتُ في تأسيسِ كياناتٍ ثقافيةٍ مستقلة، مثل «أمارجي» و«ضمير» بالتعاون مع مثقفين وفنانين منهم الصديقُ سميح شقير. جاءتْ هذه المبادراتُ استجابةً لحاجتِنا إلى صوتٍ ثقافيٍّ مستقلٍّ خارجَ استقطاباتِ السياسةِ الحادّة، التي مزّقت صفوفَ المعارضة.
أمّا في المجالِ الدرامي، فقد توقّفتِ الأعمالُ التي كنتُ أطمح إلى تنفيذِها بسبب انقطاعِ التمويل. فجميعُ الأعمالِ التي أنجزتُها قبل المنفى، كـ «الثريا» و«خان الحرير» و«ذكريات الزمن القادم»، كانت ممولة، وبعدها لم يعُد هناك مَن يموّل هذا النوعَ من المشاريع. حتّى في الأعمالِ التي حاولتِ المعارضةُ إنتاجَها، مثل وجوه وأماكن (2013)، كان لديَّ رغبةٌ في الاستمرار، لكنَّ الظروفَ لم تسمح.
أمّا فيما يتعلّق بالكتابة، فأعتقدُ أنّنا منقسمون سياسيّاً وفكريّاً، وهناك واقعٌ عسكريٌّ مسيطر. رغم ذلك، نشرتُ عدداً من المقالات في صحيفة «الحياة»، عبّرتُ فيها عن موقفي من الإسلامِ السياسي، وبيّنتُ ضرورة قيامِ نظامٍ ديمقراطيٍّ تعدّدي يضمن فصلَ السلطات، ونزاهةَ القضاء، والمواطنةَ المتساوية. وكنتُ حريصاً على تقديمِ هذا الرأي وسط استقطاباتٍ لم أجدْ نفسي فيها، لا هنا ولا هناك.
أعترفُ أنّني، بعد كلِّ هذا، شعرتُ ألا جدوى في الاصطفافِ ضمن هذا الطرفِ أو ذاك. فالمشهدُ السياسيُّ انقسم على ذاتِه، وتمَّ إقصاءُ المثقفين لصالحِ منطقِ العسكرةِ أو التديّنِ السياسي. من هنا، اخترتُ العودةَ إلى ما أُجيده، التفكير والكتابة، والعملَ الهادئ. فالزمنُ تغيّر، والعمرُ لا يحتملُ خيباتٍ جديدة.
كنتُ قد بدأتُ كتابةَ سيناريو لمسلسل، بالشراكةِ مع الراحلِ خالد خليفة. شرعنا معاً في تطويرِه، لكنّه توفّي أثناء العمل. كان العملُ بيئيّاً حلبيّاً، واستكمالُه بعد وفاتِه لم يكن سهلاً، والآن عدتُ لاستكمالِه.
في كتابك بين السينما والتلفزيون تقول إنك استثمرت طاقتك السينمائية داخل مشروعك التلفزيوني، لكنك رغم ذلك لا تشعر أنك قدمت كل قدراتك، فهل يمكننا القول إنك تحوّلت من فنان يُعبّر بحرية إلى فنان يُكيّف لغته مع بنية لا تؤمن بالتحرر الإبداعي الكامل؟ وهل هذا المشروع الذي تصفه بـ (خطوة إلى الوراء من أجل خطوات إلى الأمام) كان تنازلاً تكتيكياً أم تواطؤاً على حلمك السينمائي؟
لم أتمكن من إنجاز مشروع سينمائي متكامل كما كنت أطمح، لكنني سعيت إلى بناء مشروع موازٍ، لا يقل قيمة أو أثراً حيث عملت على تأسيس لغة سينمائية حقيقية داخل الدراما التلفزيونية. لا أعتبر ذلك تعويضاً اضطرارياً لأنّه خيار واعٍ نابع من إيماني بأنّ الصورة، أينما عُرضت، يمكن أن تحمل المعنى والفن والدهشة، إذا أُتقن صُنعها.
لقد قاومت طويلاً الشكل التقليدي الذي كان يُنجَز به العمل التلفزيوني، والذي بدا أشبه بـ «مسرح مصوَّر»، يكتفي بجدار رابع وهمي، وفضاء اصطناعي داخل استوديو مغلق. لم تكن هذه دراما حقيقية، إنّها محاكاة مسطّحة تخلو من النبض الإنساني والمكاني. ومن هنا، بدأتُ أشتغل على إدخال الواقعية السينمائية إلى الشاشة الصغيرة: التصوير بكاميرا واحدة، في أماكن طبيعية، لقطة بلقطة، وبأداء يتسم بالصدق لا بالتمثيل التقليدي.
تأثرتُ بالواقعية الجديدة كما تجلّت في السينما الإيطالية والفرنسية، وبتنظيرات أندريه بازان حول اللغة السينمائية. لقد كنت في قلب الموجة السينمائية العالمية أثناء دراستي في موسكو، أتابعها بشغف، وأومن بأن الصورة قادرة على أن تضاهي الكلمة، ربما تتفوّق عليها في التعبير. إن علاقتي بالسينما تعود إلى والدي الذي درس في أكاديمية الفنون الجميلة في روما، وكان فناناً تشكيلياً ومصمم ديكور مسرحي، غرس فيّ عشق الصورة والبناء البصري منذ الطفولة.
عندما أنجزتُ أفلاماً مثل «ملابسات حادثة عادية» و«الأرجوحة»، كنت أحاول إثبات أن اللغة السينمائية ممكنة داخل التلفزيون، وإن إخلاص المخرج للرؤية البصرية لا يتطلب إنتاجاً ضخماً، بقدر ما يتطلّب وعياً وصدقاً. وقد أثمرت هذه التجربة عن فيلم «الليل الطويل»، الذي كتبتُه وأخرجه الراحل حاتم علي بنيل عدة جوائز عالميّة منها جائزة الفيبريسي، وهي جائزة يقدمها اتحاد النقاد السينمائيين العالميين في أهم المهرجانات السينمائية، ونيلنا لهذه الجائزة اعتراف دولي بقيمة الفيلم ورؤيته السينمائية.
غير أنّ هذا المشروع الفنّي ارتبط في داخلي بمشروع فكري أوسع، إنّه مشروع النهضة المجهضة. فكلما اقتربنا في سوريا من لحظة تحوّل تاريخية، جاء من يجهض الحلم في مهده. في خمسينيات القرن الماضي، بدأت ملامح تجربة ديمقراطية حقيقية، لكن الوحدة مع مصر – رغم نواياها القومية – قضت على هذه التجربة، باسم تحرير فلسطين، فخسرنا الديمقراطية ولم نحرر فلسطين.
هذا الوعي بالخذلان المتكرر ولّد لديّ فكرة أخرى أسميتها «الديمقراطية الاجتماعية»، تجلت في أعمال مثل «دائرة النار»، و«ذكريات الزمن القادم»، و«الجلالي»، حيث سعيت إلى إعادة الاعتبار للمهمّشين، والطبقات العاملة، والعدالة، والحق في التعبير. فاخترت أن يكون الفن عندي كشفاً للواقع، واستبصاراً لإمكاناته.
هذه اللغة التي أدخلناها إلى الدراما أصبحت اليوم النموذج المُعتمد في غالبية المسلسلات السورية والعربية، كاميرا واحدة، تصوير خارجي، لقطة بلقطة، ومونتاج سينمائي. حتى حين أنجزت «أحلام في البوابة» في مصر، كان من الصعب إقناعهم بالتصوير خارج الاستوديو، لكن دعم الكتّاب الكبار، وعلى رأسهم أسامة أنور عكاشة، أتاح لي تنفيذ الرؤية كما يجب.
أستاذ هيثم، حين تنظر إلى التجربة التي خضتموها أنتم أبناء الجيل الذي عاد من موسكو محمّلاً بأحلام العدالة والسينما الحرة، ثم اصطدم بالبنية البيروقراطية والإعلام الرسمي، هل تشعر اليوم أن المشروع كان خاسراً لأن البيئة لم تكن ناضجة له، أم لأنكم أنتم – رغم وعيكم – بالغتم في الرهان على أن السينما يمكن أن تغيّر النظام من داخله؟ وهل ما زلت تؤمن أن الفن يمكنه أن يجد مساحته داخل مؤسسة لا تؤمن به أصلًا؟
لم نكن نعتقد أن السينما وحدها قادرة على تغيير النظام بشكل مباشر، الهدف لم يكن تغيير النظام بحد ذاته، بل تعزيز الوعي الاجتماعي والثقافي، وإثارة التساؤلات التي تساهم في بناء قاعدة فكرية للتحول. وحتى النظام نفسه يدرك هذه الأهمية، لذلك كان يتدخل بحذر عندما يرى أن العمل الفني يتجاوز الخطوط الحمراء، لكنه لم يكن يتوقع أن الفن وحده قادر على قلب النظام.
ما نراه اليوم من تجارب فنية في العالم، خصوصاً في حقب الواقعية الجديدة وغيرها، يؤكد أن الفن هو أداة لتحفيز الوعي والتعبير عن الواقع، ولا يمتلك القدرة المباشرة على تغيير أنظمة سياسية معقدة. الفن يعمل كرافعة ثقافية، لكنه لا يحكم أو يهيمن على مسارات السلطة.
في سياقنا الوطني، كانت هناك محاولة حقيقية للنهضة، ورغبة في اللحاق بركب الحضارة العالمية، لكنها واجهت هياكل بيروقراطية ومؤسساتية متصلبة. هذه المحاولة صعبة للغاية، لم نتوهّم بقدرة الفن على إحداث تغيير جذري وسريع، لكن الفن عاملٌ مؤثّر يساهم في ترسيخ قيم جديدة وفتح مساحات للوعي.
بالطبع، بقيت هناك تجارب متواضعة في العمل التجريبي، تعكس إصرار الفنانين على التعبير والتأثير، حتى في ظل القيود.
أنت جزءٌ من نخبة فكرية متنورة، ذات وعي ماركسي وجذور ثقافية صلبة، وانطلقتَ في مسارك الفني متأثراً بمنهج كوليشوف وبودوفكين، اللذين صاغا مشروعاً سينمائياً ذا بُعد مقاوم، قادر على التحايل على الرقابة عبر بنية بصرية ذات كثافة وعمق. كيف انعكس هذا التزاوج بين الفكرة والمنهج على بلورة رؤيتك الفنية؟
لم تكن الدراما التلفزيونية موجودة في الاتحاد السوفييتي، التركيز منصبٌّ على الفيلم السينمائي حتى حين قدّموا أعمالاً متعددة الحلقات، كانت تلك الحلقات تُنتج وتُعامل كأفلام سينمائية متكاملة.
تكويني الفني تأثر بشكل مباشر بمدرسة المونتاج السوفيتي، خصوصاً عبر ليف كوليشوف، الذي تتلمذت على يديه في سنواته الأخيرة قبل وفاته، ولحسن حظي أنني كنت من طلاب محترفه الأخير. من خلاله، ومن خلال دراستي لأعمال سيرجي آيزنشتاين، تشكّل لدي فهمٌ عميق للعلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون، ولأثر المونتاج في توليد المعنى. الفكرة الجوهرية التي أسس لها كوليشوف هي أن تجاور لقطتين لا يعني جمع دلالتيهما، بل خلق دلالة جديدة لا تنتمي لأي منهما منفردة، وهو ما عُرف لاحقاً بنظرية «تأثير كوليشوف»، وهي نظرية لا تزال تؤسس لفهم جوهري في علم المونتاج واللغة البصرية.
أما آيزنشتاين طوّر هذا الإرث من خلال ما سمّاه بـ «مونتاج الجذب»، مؤكداً أن الصورة البصرية ليست مجرد حامل للمضمون، إنّها مولّدة له من خلال ترتيبها وشحنها الدلالي. وقد شبّه العلاقة بين اللقطات بعلاقة الصور الهيروغليفية، حين تتجاور تتولد منها جملة ذات معنى لا تحتويه كل صورة بمفردها. هذه الفكرة أثّرت عميقاً في مقاربتي البصرية، وفي فهمي للدراما بوصفها تركيباً دلالياً لا ينفصل فيه الشكل عن المضمون، بل يتولّد المضمون من خلال الصياغة الشكلية ذاتها.
من هنا، انصبّ اهتمامي لاحقاً على ما أسميه بـ «الشكل المضموني»، وهي رؤية فنية تقف في مواجهة ما كان شائعاً – خصوصاً في مرحلة لاحقة من الدراما التلفزيونية – من احتفاء شكلي فارغ، قائم على البهرجة البصرية والألوان دون عمق حكائي أو ضرورة درامية. هذه النزعة «الشكلانية» الزائفة كانت تفرغ الشكل من وظيفته، بينما أنا كنت أومن أن الشكل حين يُبنى بإتقان وفهم، فإنه يُنتج المضمون بحد ذاته.
وقد تبلور هذا الوعي في تجربتي مع مسلسل «غضب الصحراء»، وهو من أوائل الأعمال التي مزجت اللون والبناء البصري بعناية رمزية مدروسة، وبتكثيف المعنى وتوليده من داخل الصورة. وكتبت عن هذا الاختيار الجمالي حينها، دفاعاً عن رؤية الشكل كحامل للمضمون وليس كقشرة تجميلية.
ساد سابقاً في بعض الاتجاهات الفنية الرسمية ما عُرف بالواقعية الاشتراكية، تحت تأثير ماكسيم غوركي، وقد كانت – برأيي – وبالاً على الإبداع السوفييتي، لأنها نزعت من الفن حريته وعمقه لصالح خطاب أيديولوجي مباشر وموجّه. إلا أن المرحلة التي درسنا فيها في موسكو كانت لحظة استثنائية من الانفتاح والنهوض، أتيح فيها للفن أن يستعيد مكانته.
إلى أي مدى خدمك هذا المنهج لتمرير رسائلك في أعمالك الفنية بظل التضييق الأمني والسياسي، هل وجدت فيه سلاحاً فعلياً في مواجهة القمع الثقافي والسياسي؟
في السينما، نعم، أستطيع القول إن هذا المنهج خدمنا فعلاً، ونجح في تمرير الكثير من الرسائل داخل أنظمة رقابية صارمة. السينما بطبيعتها فن قادر على المناورة، ولها تاريخ طويل من التحايل الذكي على القمع من خلال الرمز والتلميح والمونتاج. كوليشوف ساهم في تأسيس هذه الأدوات عبر نظريته عن المونتاج، لكن التأثير الحقيقي الأوسع جاء مع آيزنشتاين، الذي منح السينما بُعدها الجدلي والتراكبي، وجعل من الشكل أداة لإنتاج المضمون، لا مجرد غلاف له. هذا ما مكّن السينما – عبر تاريخها – من أن تكون فناً مقاوماً بالفعل.
لقد شهدنا عبر التجربة العالمية كيف تمكّنت السينما من زعزعة قناعات، وإثارة أسئلة كبرى، بل والمساهمة في تغيير الوعي الاجتماعي. في البداية واجهت السينما مقاومة شديدة، وكان يُنظر إليها كفنٍّ أدنى مقارنة بالمسرح أو الأدب، مجرّد تسلية جماهيرية. لكن مع الوقت، ومع ظهور أعمال عظيمة – من تشارلي تشابلن إلى الواقعية الجديدة – تغيّرت هذه النظرة، وأصبحت السينما أحد أكثر الفنون تأثيراً وحضوراً في الحياة الثقافية.
الأمر اللافت، أن الأنظمة الأكثر تشدداً أحياناً تعترف ضمناً بقوة هذا الفن. أذكر أنني حضرت مهرجاناً سينمائياً في إيران، والتقينا هناك بنجل الخميني، وأول ما قاله أمامنا إن «السينما هي أهم الفنون بالنسبة لنا». حتى في الاتحاد السوفيتي، رغم الرقابة المشددة، كان هناك وعي بقدرة السينما على التوجيه والتأثير، ولهذا كان الصراع عليها قائماً دائماً.
فالسينما الجيدة – بمعناها العميق والجاد – لا يمكن أن تزدهر تحت رقابة خانقة. أنا ضد الرقابة بكل أشكالها، لأن الفن الحقيقي يحتاج إلى حرية كاملة، لا مشروطة.
من هو المعلم الحقيقي في السينما، هل هو من يُدرّس تقنيات اللقطة وأدوات التعبير البصري، أم من يزرع داخلها سؤالاً يحفّز التفكير ويكشف موقفاً جمالياً وفكرياً من العالم؟
برأيي، المعلم الحقيقي في السينما، وفي الفنون عموماً، مَن يزرع داخل الصورة سؤالاً حقيقياً، يكشف موقفاً جمالياً وفكرياً من العالم، ويحرّض المتلقي على التأمّل.
صحيح أن كثيرين ظلّوا يرون السينما تسليةً لا أكثر، فناً سهلاً لا يضاهي عراقة المسرح أو عمق الرواية. لكننا كنّا نؤمن أن السينما يمكن أن تجمع بين المتعة والفكر، بين الجمال والوعي. أن تُمتع، ولكن دون أن تتخلى عن رسالتها. فالفيلم الجيد، حتى لو كان ممتعاً، يجب أن يحمل وجهة نظر، لموقفٍ من الإنسان والواقع والمجتمع.
السينما السائدة – ما يُسمّى «التجارية» – نجحت في اجتذاب الجمهور، واحتلال شباك التذاكر، لكنها غالباً ما تكون قائمة على الوصفة الجاهزة، وعلى عناصر الإثارة السريعة، الجنس، والكوميديا، والتكرار. أما الفن الحقيقي، فهو الأقل إنتاجاً وانتشاراً، لكنه الأعمق أثراً. ولهذا السبب نجد أن المبدعين الكبار، أمثال تاركوفسكي أو بيرغمان أو فلّيني، يشكّلون استثناءات نادرة، لا تتكرر كثيراًَ، لكن حضورهم مزلزل.
أذكر أنّ المخرج الراحل مصطفى العقاد قال لي ذات مرة: «هؤلاء الكبار، ماذا يحققون في شباك التذاكر؟» فقلت له: «هم الفن ذاته. هذا هو الفن، حتى لو لم يحقق الأرباح».
حين عدتَ إلى سوريا، وجدتَ نفسك في مواجهة فراغ سينمائي، بنية تحتية شبه معدومة، ومؤسسة عامة للسينما تُنتج أعمالاً قليلة، لا تعبّر عن طموحات فنية أو مجتمعية حقيقية. في ذلك السياق، كان انتقالك إلى الدراما التلفزيونية محاولة لإبقاء شعلة الرؤية البصرية متقدة عبر وسيط آخر، آنذاك كان يُنظر إليه بوصفه ملحقاً إعلامياً لا أكثر. هل شعرتَ حينها أنك تُؤسس لصناعة بديلة، أو تفتح مساراً بصرياً جديداً يحاول إنقاذ ما تبقّى من الحلم السينمائي بداخلك؟
سؤالك مهم جداً، لأنه يتعلّق بجوهر ما حدث فعلاً. نحن مجموعة من المخرجين تمّ إيفادنا للدراسة في موسكو وباريس، وعندما عدنا إلى سوريا، توزّعنا بين المؤسسة العامة للسينما والتلفزيون، أنشأنا ما سُمّي بدائرة الإنتاج السينمائي داخل التلفزيون.
في تلك المرحلة، لم تكن السينما خياراً فعلياً، فبنيتها غائبة تقريباً، والإمكانيات ضئيلة. أمّا الدراما التلفزيونية فكانت أقرب إلى المسرح المصوّر، لكنها حيوية ومفتوحة على الجمهور، وثمة مخرجون مهمّون يعملون فيها مثل علاء الدين كوكش وغسان جبري. ومع قدومنا – نحن الذين درسنا في الخارج – بدأت هذه البيئة تتغير، لأننا جئنا من خلفية ثقافية وفنية متينة، وكنّا نحمل مشروعاً بصرياً مختلفاً.
أول مسلسل قدّمته كان الوسيط. صوّرت الخارجي منه بكاميرا سينمائية كانت تُستخدم عادة في الأخبار، لكنها سمحت لي بالخروج من الأستوديو، والتصوير الخارجي، تحديداً في مناطق مثل الفرات، حيث تناولنا مواضيع حساسة، أبرزها قضية الإصلاح الزراعي. هذا المسلسل أثار نقاشاً في مجلس الشعب، وكان أوّل وآخر مسلسل أبيض وأسود أنجزته. والأهم أنّه مثّل بداية لأسلوب بصري جديد.
لاحقاً، جاءت كاميرا محمولة مغناطيسية – كانت تُستخدم في الأخبار – واعتبرتها أقرب ما يمكن إلى الكاميرا السينمائية، فطلبت أن أستخدمها، وبدأت أطبّق من خلالها مبادئ الصورة السينمائية على العمل التلفزيوني. لم يكن هناك استوديوهات ملائمة، فخرجنا إلى الشارع، وصوّرنا بكاميرا واحدة، كما يفعل السينمائيون. كنت أرفض الشكل التلفزيوني السائد، وبهذه الوسائل المتاحة صنعت لغة جديدة.
طبعاً، لم يكن الجميع مرتاحاً لهذا التحول. بعض السينمائيين التقليديين داخل المؤسسة اعترضوا، وقالوا إن هذا لا يُسمّى سينما، لأن السينما بالنسبة لهم لا تكون إلا على شريط داخل استوديو، وبشروط إنتاج كلاسيكية. لكنني رأيتُ حينها أن هذا الشكل الجديد أكثر حيوية، وأكثر صدقاً، وأنه يفتح أفقاً بصرياً كان مغلقاً.
مع الوقت، دخل رأسمال خليجي ووطني، وبدأنا بإنتاج أعمال أكثر تطوراً، وصولاً إلى مسلسل خان الحرير، الذي أعتبره محطة حاسمة في تاريخ الدراما السورية، لأنه يجسّد بوضوح هذا التحول في الشكل والمضمون، وهذا المسار البصري الذي بدأناه رغم كل المعوّقات.
هل كنت تدرك آنذاك أنك تعيد هندسة العلاقة بين الشكل والمضمون في التلفزيون، لتصنع منه فضاءً تعبيرياً يشبه الحلم السينمائي المجهَض في سوريا؟
نعم، أعتقد أنني كنت واعياً تماماً لهذا التحول، أو لنقل إنني كنت دائماً في موقع يسمح لي برؤية تطور الوسيط بوضوح. على سبيل المثال، عندما سافرت إلى الولايات المتحدة لفترة قصيرة، تابعت عن كثب كيف كانت التقنيات الجديدة تُغيّر شكل المادة الفيلمية، تحديداً الشريط نفسه، الذي كان يتحول من مادة تصويرية كلاسيكية إلى شيء رقمي بالكامل.
لكنني كنت أدرك أن «الشكل»، في جوهره، لا تحدّده المادة التي يُسجّل عليها. يعني، ليس الشريط الفيلمي أو أداة التسجيل هي ما تصنع العمل الفني. لو أخذنا «ملحمة جلجامش» كمثال، هل أهمّ ما فيها هو أنها كُتبت على ألواح طينية؟ لا طبعاً. المادة التي يُسجّل عليها النص أو تُصوَّر عبرها الصورة، هي مجرد وسيلة. الشريط الفوتوغرافي، النيغاتيف، السيلولويد، أو الوسيط الرقمي اليوم – كل هذه مجرد أدوات.
ما يصنع الشكل هو الحلم الذي تسعى لتحقيقه، هو المضمون الذي تريد التعبير عنه. وهذه المواد لا تكون ذات قيمة إلا بمقدار ما تساعدك على تجسيد رؤيتك. ولذلك، فإنّ كلّ عناصر الإنتاج – الموسيقى، الممثل، الديكور، حتى المؤسسة الإنتاجية نفسها – كلها تُسهم في توليد العمل الفني. لكنها أدوات، والسرّ في كيفية خلق التناغم بينها، وكيفية صهرها في خدمة معنى محدد.
وهنا نرجع إلى ما قاله آيزنشتاين: الشكل لا يُفصل عن المضمون، بل هو تعبيره الأقصى، هو تجلّيه. الشكل الجيد لا يأتي من المادة، بل من علاقتها بما نريد أن نقوله. وهذا ما سعيت إليه، أن أصوغ شكلاً جديداً في الدراما، من خلال وعي بالمضمون، ومن خلال فهم أنّ الشكل لا يولد من القوالب الجامدة، إنّما من ضرورة التعبير نفسها.
لذلك رأيتُ أن كثيراً مما يُنتج في السينما كان أقرب إلى التلفزيون، بينما ما حاولنا تقديمه في التلفزيون هو أقرب للسينما، إن لم يكن أعمق أحياناً. المفارقة أنّ من يرفضون هذا التداخل، هم أحياناً أكثر من يتبنّون شكلاً بصرياً تلفزيونياً وهم يعملون في السينما!
والحقيقة أنّ هذا النقاش حول السينما والتلفزيون دائم الحضور. وأنا غير معنيّ بتلك التصنيفات الجامدة. كنت أبحث عن فضاء تعبيري يسمح لي بتحقيق رؤيتي البصرية، وهذا ما وفّره لي التلفزيون آنذاك، أكثر مما كان ممكناً عبر مؤسسة السينما في سوريا، التي افتقرت إلى البنية التحتية، وإلى الحريّة، وإلى الخيال.
تتلمذ على يديك عدد من المخرجين أمثال حاتم علي وسامر برقاوي والليث حجو، في الوقت الذي لم تتوفر لهم فرصة دراسة الإخراج بشكل أكاديمي، هل ترى في أثرك عليهم امتداداً لما حاولت بناءه؟
في الحقيقة، أشعر بسعادة كبيرة حين أنظر إلى ما أنجزه هذا الجيل من المخرجين الذين رافقوني في مرحلة ما، أو مرّوا بتجربة العمل إلى جانبي. ففي وقت كانت فيه البنية التحتية شبه معدومة، والمعاهد شبه غائبة، ولا يوجد قنوات ممنهجة لصقل المواهب، جاء كثير من هؤلاء الشباب بدافع شخصي، بحماس ورغبة حقيقية في التعلم، وطلبوا بأنفسهم أن يعملوا كمساعدين أو مخرجين منفذين، يشاركون في العملية من موقع عملي مباشر.
وأنا، بطبيعتي، لم أمارس الإخراج كعمل تقني فقط، إنّما كنت مؤمناً بأن على المخرج أن يُشرك فريقه في الفكرة، في طريقة التفكير، في (كيف ولماذا) نختار هذه اللقطة أو ذلك الإيقاع. كنت أحب شرح ما نقوم به، لأخلق مناخاً من الفهم المشترك، من الحِرفية الواعية. وأعتقد أن كثيراً من هؤلاء المخرجين استفادوا من هذا التمرين العملي المتواصل، وحملوا معهم تلك التجربة إلى مشاريعهم الخاصة لاحقاً.
أنا فخور بهم جميعاً، دون استثناء، سواء تقاطعت رؤاي الفنية مع أعمالهم أم لا. فكما كنا نحن، في جيلنا نحب تجارب ونختلف مع أخرى، من الطبيعي أن تختلف الأذواق وتتعدد الخيارات. لكنّ ما يهمني اليوم، بعد كل هذه السنوات، أنهم ساهموا فعلياً في بناء ملامح صناعة درامية سورية حقيقية. وهذا في نظري امتدادٌ حيّ وصادق لتلك البذور الأولى التي حاولنا أن نزرعها في ظروف بالغة الصعوبة.
في الحقبة التي سبقت عام 2011، اشتغلت الدراما السورية تحت وطأة نظام سياسي شكّل ضغطاً صريحاً وممنهجاً على مضامينها، وحدّد لها حدود التعبير وخطوطه الحمراء. ومع ذلك، نجحت هذه الدراما، بذكاء فني ومراوغة خطابية، في استقطاب جمهور واسع داخل البلاد وخارجها. كيف تنظر اليوم إلى طبيعة العلاقة التي ربطت آنذاك بين الفن والسلطة؟
العلاقة بين الفن والسلطة في تلك المرحلة علاقة مركبة ومخادعة في آن. صحيح أن النظام بمؤسساته المختلفة حرِص على الظهور بمظهر الراعي للفن، وكان المسؤولون يحبون أن يلتقطوا الصور مع الفنانين، وكأن في ذلك تزكية متبادلة. بينما يتغلغل في العمق منظومة رقابية صارمة، لا تأتي بالضرورة من أوامر مباشرة، هي أعمق وأكثر رسوخاً، رقابة مزروعة في الوعي، في الرؤوس. لم يقل أحد لك «لا تفعل»، لكنك كنت تعرف، بشكل شبه غريزي، أين تقف الحدود، وأي عبارة «لا تمشي»، وأي طرح «هلق مو وقته».
لقد عشنا تحت ثقل هذه الرقابة الداخلية – التي قد تكون أقسى من الرقيب الرسمي نفسه – في كل مرة نحاول فيها الاقتراب من مناطق حساسة تتردد على أسماعنا باستمرار عبارة «مو وقته»، حتى أصبحت قانوناً غير مكتوب يحكم الإبداع. وكان على الفنان أن يناور، أن يقول ما يريد دون أن يقوله حرفياً، أن يمرّر أسئلته وأفكاره من بين المسامات الدقيقة المسموح بها.
وفي موازاة ذلك، اكتشف النظام – أو على الأقل بعض من يدورون في فلكه – القيمة التجارية للدراما، فبدأت معايير السوق تدخل بقوة، ما يطلبه الجمهور، ما يُرضي المُعلِن، ما يمكن تسويقه إقليمياً. وهكذا نشأت دراما هجينة فيها شيء من الترفيه، شيء من الرمزية المموّهة، وكثير من المراوغة. كنت أصفها بـ «الدراما المسحوب خيرها»، أي تلك التي جرى انتزاع ما هو جوهري منها قبل أن تصل للمشاهد، بحذر ذاتي أو بضغوط خارجية.
ومع ذلك، وبرغم تحفظي على الشكل النهائي الذي كانت تخرج به بعض هذه الأعمال، أقرّ بأن هذه الدراما – حتى بمحدوديتها – ساهمت في تشكيل صناعة حقيقية. هي جزء من المشهد، من سيرورة تطور الدراما السورية. ولا يمكن إنكار أنها مهّدت لجمهور واسع، وشكّلت قاعدة من الحرفية، حتى وإن كان سقفها منخفضاً. لذلك بخلاف من يراها مجرد منتج تجاري، أرى أنها كانت – بحدودها – ضرورة ضمن شروط الواقع السوري آنذاك.
ما هي مكامن القوة التي أتاحت للدراما السورية آنذاك أن تستمر وتترسّخ في الوعي العربي، وما هي، في المقابل، نقاط الضعف البنيوية أو الرقابية التي أعاقت قدرتها على إحداث تحوّل جذري في الوعي أو الخطاب؟
ما منح الدراما السورية آنذاك حضوراً راسخاً في الوعي العربي، وجعلها تستمر وتكبر، هو أمر يرتبط بعناصر متكاملة: أولها التجديد في الشكل الفني، وثانيها خصوصية المضمون الذي كان في كثير من الأحيان مختلفاً عن السائد، أكثر عمقاً، وأقرب إلى هموم الناس. لقد اشتغلنا على لغة بصرية أقرب إلى السينما، وأعدنا بناء العلاقة بين الصورة والمعنى داخل التلفزيون. وحين أُتيح لي أن أُخرج في بلدان عربية مختلفة – من مصر إلى لبنان إلى ليبيا – كنت أستشعر أنني لا أنقل فقط قصة أو حكاية، بل أنقل طريقة فنية في صناعة الدراما. كنت أقدّم تصوراً بصرياً جديداً يختلف عن النمط التلفزيوني التقليدي، وبذلك أسهمنا، نحن كمخرجين سوريين، في تطوير الشكل الدرامي العربي عموماً.
أيضاً، لا يمكن إغفال عامل مهم ساعد في ترسيخ هذا الحضور هو حب الجمهور للمكان. قدمنا مسلسلات تدور في أماكن حقيقية، جميلة، مألوفة للناس، تعزز الشعور بالألفة والانتماء، وتفتح نوافذ على البيئات السورية الغنية بتنوعها. أضف إلى ذلك عامل الحظ – إن جاز التعبير – وهو أنه تزامن مع بدايات تطور الدراما التلفزيونية تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية، الذي ضخّ إلى الساحة طاقات تمثيلية وأكاديمية مهمة، ساعدت على رفع مستوى الأداء والجودة.
أما عن نقاط الضعف، فهي لا تنفصل عن السياق العام الذي اشتغلت فيه هذه الدراما، بنية إنتاجية هشّة، ورقابة ثقيلة الوطأة، لا تكتفي بوضع الخطوط الحمراء، بل تجعل الفنان يمارس على نفسه رقابة ذاتية أقسى أحياناً.
بعد سقوط النظام، دخل المشهد الدرامي السوري طوراً جديداً، ظاهره الوعد والفرص، وباطنه محفوف بتحديات مركّبة، تتراوح بين هشاشة البنى الإنتاجية، وتشرذم النسيج السياسي والاجتماعي، وضبابية الهوية السردية. في ضوء هذا المشهد، كيف تقيّم قدرة الدراما السورية اليوم على النهوض؟
بما أن النهضة كانت مُجهَضة، فقد شهدت الدراما السورية بعد الثورة انتكاسة واضحة في مستوى العمل التلفزيوني، على الرغم من المحاولات الجادة لبعض المخرجين الشباب لصنع شيء مختلف. لكن المناخ العام لم يكن مهيّأً لتلك المحاولات، فالبلد بأسره كان مختطفاً – سياسياً واجتماعياً وثقافياً – بحيث لم يكن من السهل إنجاز عمل جيّد ضمن هذا السياق.
ومع ذلك، لدينا اليوم فرصة جديدة لصناعة دراما حقيقية، دراما تُمتع الناس وتعيد هذا الفن إلى مكانه الطبيعي الذي كان قد بلغه سابقاً، وتدفعه إلى مزيد من التقدّم والنضج. غير أنّ هذه الفرصة لا يمكن أن تتحقق ما لم تُحلّ العقبة الأوضح والأثقل، وهي غياب حرية التعبير. كل ما أنجزناه سابقاً تمّ تحت سقف رقابي خانق، وكنا دائماً نحاول دفع هذا الحائط – حائط الرقابة – بكل الوسائل الممكنة. ومن الضروري ألا يتوقف هذا الدفع، بل يجب أن يستمر حتى يتزعزع هذا الجدار ويسقط، لأنّه ما من تطوّر حقيقي ممكن للدراما أو لأي عمل فني في ظل استمرار هذه القيود.
في ظل التحديات المتراكمة التي تواجهها المرأة، كفنانة وإنسانة تحاول انتزاع صوتها وسط التهميش والقوالب الجاهزة، ما النصيحة التي توجهها لابنتك إيناس من مخرج متمرس إلى مخرجة تبدأ صياغة حريتها في عالم مشبع بالذكورة والرقابة؟ وكيف تراها اليوم؟
أقول لها: كوني أنتِ.
إيناس هي الشخص الذي مثّل أحلامي، كانت بداياتها حقيقية، واعية، مدفوعة بفهم عميق لطبيعة العمل، ولهذا استطاعت أن تمضي فيه بثبات. وهذا لا ينطبق على إيناس وحدها، بل ينطبق أيضاً على مخرجات قدّمن حضوراً مميزاً، مثل رشا شربتجي، وغيرهن ممن تركن بصمة واضحة في مشهد ظل طويلاً يُدار من قبل الرجال.
صحيح أن حضور المرأة في الإخراج السينمائي والتلفزيوني في سوريا كان محدوداً في الماضي، لكن التمثيل شهد مساهمات نسائية قوية ومؤثرة. ولعل ما ساعد في ذلك هو التقاء لحظة تأسيس معهد التمثيل مع بدايات إنتاجنا الدّرامي، ما أتاح للمرأة فرصة أن تظهر بشكل لافت داخل المشهد التمثيلي. اليوم، لديّ ثقة كبيرة بجيل المخرجات الشابات، كموجة جديدة تمتلك من الوعي والقوة والجرأة ما يؤهلهن لخوض معركتهن بتصميم على النجاح ودون خوف.
بعد عقود من الحكم الأمني الذي طبع كل التفاصيل من الكاميرا حتّى النص، جاء سقوط النظام كمفصل تاريخي، فهل سقوط النظام وحده كافٍ لولادة فنٍّ حرّ، أم أنّ الدولة الأمنية أعمق من رأسها السياسي وهي متجذرة في البنى، في الذائقة واللغة، وحتّى في الخيال. ما هو التحول الحقيقي الذي يحتاجه الفنان ليخرج من رقابة الدولة إلى حرّية الذات، وهل بدأت هذه الحرّية تتشكل فعلًا؟
في الحقيقة، لا نملك جواباً حاسماً حتّى الآن. نحن في منطقة معلّقة بين الشك والأمل. بعد كلّ ما مررنا به، لا نستطيع الجزم بأنّنا أمام تحوّل فعلي نحو حرية الفن، ولا يمكننا في المقابل إنكار أن هناك إشارات صغيرة توحي بإمكانية التغيير. ما نخشاه – وبحق – هو أن تتكرر التجربة نفسها، تلك التي لم تنتج شيئاً سوى الإحباط، والتي أُجهضت فيها معظم المحاولات الجادّة قبل أن تتشكل وتُثمر.
كيف يمكن للدراما أن تكتبَ عن الوطن بعد زوال الرّاوي القمعي، دون أن تتبنى خطاب الدعاية المضادة؟
في بدايات انتصار الثورات، كثيراً ما تتغلب الدعاية على الفن. نخشى الآن من تكرار ذلك النمط القديم، حين كانت أغلب الأفلام التسجيلية تدور حول زيارات حافظ الأسد، أو تمجيد «الحركة التصحيحية». الخوف أن يظهر من يقول: «علينا أن ننتج فيلماً عن فلان أو علّان لأنه في موقع السلطة الآن»، مع أن لا ضرورة لذلك. لا حاجة لصناعة فيلم عن شخص فقط لأنه حاكم. دعه في مكانه، ودع الفن في مكان آخر. لا نريد أن نعيد تشكيل صورة الديكتاتور مرة أخرى.
في الحقيقة، نحن نُدرّس للعالم تجربة «صناعة الديكتاتور» كما لو أنها تقنية. بينما الأجدى أن يعبّر الفنان عن قناعته، لا أن يُجبر على ما لا يؤمن به. أخطر ما قد يحدث هو أن تُفرض سردية تُحوّل أشخاصاً إلى ما يشبه الآلهة. هذا لا يصنع فناً، بل يُكرّس البعد عن الإنسان الحقيقي.
نحن بحاجة لفن يُخاطب البشر، يُلامس قلقهم، يدعو إلى التغيير. هذا ليس سهلاً، لكنّه ضروري. الفن الحقيقي لا يصنع تماثيل، بل يُحرّض على التفكير، ويخلق عند الناس شعوراً بأن الحرية ممكنة. عندما يرى الناس عملاً حراً، يشعرون بأن ثمة من يفتح الطريق، فيقتربون أكثر من حريتهم.
لا أحد ينبغي أن يعود ليعلّم الجيل الجديد «كيف يفكر» أو «كيف يجب أن يصنع الفن». إن أعدت إنتاج عمل مكرّس للدعاية، حتى لو كان مكلفاً أو محاطاً بالاحتفاء، لن يظل في الذاكرة. لن يراه أحد. سيُنسى.
في المقابل، إذا صُنعت أعمال صادقة، حرة، تعبّر عن قضايا الناس، فقد تترك أثراً حقيقياً. وهذا هو ما نحتاجه الآن: أن نسمح للفن بأن يُنتَج بحرية، بلا وصاية، وأن نمنح الفنانين القدرة على صناعة أعمال من موقع ذاتي. هذه هي النهضة التي يجب أن نجرّب الحفاظ عليها، وألّا نُجهضها من جديد، كما حدث من قبل.
هل تخشى أن نكون مقبلين على استبداد جديد بأدوات أكثر نعومة وهل تعتقد أن خطر ديكتاتورية الثورة قد يكون أكثر تعقيداً لأنّه يتخفّى خلف شعارات التغيير والانفتاح؟
نعم، هناك خشية حقيقية من أن نقع في استبداد جديد، ومع ذلك، ما زال عندي إيمان – وإن كان مشوباً بالشك – بأن هذه المرة قد ننجح، بأن يكون لدينا مَخرج حقيقي. لكن إن لم ننجح، فسنعيد تكرار المآسي السابقة بحذافيرها.
أتمنى بصدق أن نخرج من هذا النفق نحو دولة ديمقراطية، تعددية، تقوم على مبدأ المواطنة المتساوية، ودولة قانون، قانون لا يكتفي بأن يُطبّق، بل أن يُعدّل ليصبح أكثر عدلاً. نحتاج إلى ضمان الحريات: حرية تشكيل الأحزاب، الحريات الفردية والعامة، وخصوصاً حرية المرأة، لأنها العمود الفقري لأيّ نهضة.
حين تُقصى المرأة أو تُخنق حريتها، يُجهض المشروع قبل أن يُولد أصلاً، تعطيل نصف المجتمع بهذا الشكل يعني شلّ كل المجتمع.
لكن علينا أن نعترف بأن الحرية لا تُتعلّم في يوم أو في جيل واحد. نرى في بلدان مثل فرنسا، رغم عمر تجربتها الطويلة في الديمقراطية، أن الناس ما زالوا يحتجون ويطالبون بالمزيد – وهذا أمر صحي. التمرين المستمر على الحرية، والتشكيك في السلطة، هو ما يصنع شعباً حياً.
منذ سقوط النظام، بدأنا نلاحظ صعوداً متسارعاً لخطاب ديني بدأ يتموضع كمرجعية أخلاقية واجتماعية. كفنان ومثقف ينتمي إلى فكرٍ تقدّمي، كيف تقرأ هذا التحول؟ وهل تخشى فعلاً أن تتحوّل حرية التعبير إلى رهينة لمزاج الجمهور، لا إلى مؤسسات القانون؟
من يتأمل المشهد بعد 2011 يلاحظ أن ما كنا نرفضه في السلطة – من تأليه الحاكم واحتكار الحقيقة – بدأ يظهر في أطر جديدة، لكنها تحمل المنطق نفسه. رأينا كيف تحوّل بعض الخطاب الديني إلى سلطة معنوية بديلة، تُقنّن الحريات باسم الأخلاق.
أنا لا أقبل بهذا التحول. إذا كنّا قد طالبنا بإسقاط الاستبداد، فليس لكي نعيد بناء نسخة أخرى منه، بأدوات مختلفة. لا يمكن أن نقبل التغيير إذا لم يُفضِ إلى دولة قانون، ومواطنة متساوية، وحريات، واضحة، ومضمونة. إن لم نحقق هذه المبادئ، فنحن لم نتغير. مجرد تغيير الغلاف لا يصنع ثورة.
بعضهم يقول: «دع الأمور تمشي، لا نريد صداماً جديداً». لكنني لا أرى أن السكوت ممكن. الصمت تواطؤ ضمني، لقد قضينا أعمارنا نحلم بدولة عادلة، حرة، واضحة الحقوق والحدود. لا أريد أن أعيش عمري المتبقي في ظل نظام جديد، يُعيد إنتاج القديم تحت لافتات مختلفة.
*****
لقراءة حوارات سابقة من السلسلة يمكنكم الضغط على هذا الرابط
مقالات مشابهة