لن يمضي وقت طويل قبل ان تعود ذكرى عاشوراء في لبنان الى سيرتها الأولى، السابقة للعشرية الأولى من شهر شباط فبراير العام 1979، وترجع الى “موروثها” العربي السني، المصري والسعودي وحتى السوري أيضا، كيومٍ للتذكر والصوم، وحتى الصمت، والتعبير عن الاختلاف مع بني أمية المذمومين، من دون الافتراق عن تاريخهم الذي ساهم في فتح الاندلس..وفتح بلاد فارس، وصولا الى الصين.
قبل العام 1979، لم تكن عاشوراء في أي بقعة شيعية من العالم، بما في ذلك إيران نفسها، تمثل مادة تأسيسية للمذهب، ولا حتى أحد مكوناته الرئيسية، بل كانت مجرد حدث عابر لم يشكل دعامة رئيسية لبناء المظلومية الشيعية، في وجه أي خليفة أو حاكم مسلم، لأن الحسين الحفيد، لم يكن وريثاً ولم يكن طالب سلطة ولا راغباً بالاستشهاد، وبالتالي، لم يكن مصرعه علامة فارقة في تاريخ الشيعة والتشيع..ولم يكن في أي يوم من الأيام، متصلاً أبداً بنظرية ولاية الفقيه التي كانت ولا تزال منبوذة من الغالبية الساحقة من المراجع الدينية الشيعية.
خروج شيعة لبنان بالتحديد من هذا التحريف الطارئ للعقيدة، والهوية، لن يتأخر كثيراً. وهو أمر سابق للحرب الإسرائيلية الأخيرة التي لم تفرق طبعاً بين الشيعة والسنة، لكنها كشفت عن شقاق عميق بين مركز المرجعية السياسية والعسكرية والمذهبية في إيران، وبين مختلف الاذرع العربية التي سلكت مسارات مختلفة، وخاضت معاركها الخاصة التي لم ينجح “المحور المشترك”، في توحيد جبهاتها ومواجهاتها مع العدو الواحد.. كما أظهرت أن إيران تحديداً تعبت من القتال على الجبهات العربية البعيدة، وباتت مضطرة للدفاع عن جبهتها الداخلية المهددة، وباتت مطالبة من جمهورها بالدفاع فقط عن مصالحها الذاتية، بشتى السبل لا سيما منها المفاوضات مع الشيطان الأكبر.
التغيير في إيران آتٍ لا محالة، وهو بحكم الطبيعة والعقل والمنطق، سيعيد إيران أيضاً الى سِيرها الأولى، السابقة للتجربة الخمينية في الحكم والفقه وفي إدارة الصراع مع جوار لا متناهٍ من الأعداء، والخصوم. ولن يكون صدى في العراق مدوياً لأن شيعة بلاد ما بين النهرين، الذين قاتلوا الخمينية بشراسة، ولم يسلموا يوماً بمرجعيتها الفقهية، اكتسبوا في السنوات القليلة الماضية مناعة إضافية ضد كل ما يأتيهم من الشرق، ولم يسحبوا انفسهم يوماً جزءاً فاعلاً من المحور الممتد من طهران الى الضاحية الجنوبية لبيروت. نجاتهم سبقت الحرب الإسرائيلية بسنوات، ومرتبتهم في المحور تراجعت وراء حركة حماس والحركة الحوثية، وحزب الله طبعاً.
المشهد الذي سجلته الضاحية صباح عاشوراء، كان عاطفياً أكثر مما كان سياسياً، بدد صورة “الكلاشنات التسعة” التي رفعت بالأمس في مسيرة زقاق البلاط، لكنها لم تطلق النار في سماء العاصمة بيروت على غرار مسيرات حزبية مشابهة نُظمت خلال الحرب.. الالتزام باتفاق وقف النار مع العدو الاسرائيلي خيّم على جمهور الضاحية وخطباء المسيرة العاشورائية ورواة السيرة الحسينية، التي لم يعرف ما اذا كانت قد عمدت الى اسقاط “واقعة الطف” في كربلاء، على الواقع الحالي والمصاعب الاستثنائية التي يواجهها شيعة لبنان في مواجهة الحرب والسلم في آن معاً، والتي يستحيل معها الحديث عن مستقبل مستقرٍ أو واعدٍ لتلك الطائفة المنكوبة، والمستوحدة.
“جذوة المقاومة” التي دعا الأمين العام ل”حزب الله” نعيم قاسم، الى حمايتها، من دون ان يرفدها بذكر السلاح (؟؟)، لا تحتاج الى نداء صارخ وحشد هادر يواجه خطر الاستئصال، بالعنصر الوحيد من الذاكرة الشيعية الانتقائية الذي لا ينفع في مواجهة عدو سبق أن حطم الكثير من عناصر الذاكرة العربية التي ضاقت ذرعاً ب”شيعة إيران”.
بيروت في 6 / 7 / 2025