ملخص
في غزة كانت بداية حرب الوجود التدميرية الإسرائيلية، وتنشط تل أبيب الآن في محاولة تثميرها هدنة تمهد لاتفاق سياسي، وفي لبنان كانت محطة الحرب الإسرائيلية الوجودية الثانية مع ما أسفرت عنه من إبادة لـ “حزب الله”، فرضت عليه الموافقة على اتفاق إذعان يقضي بتخليه عن المشاريع العسكرية.
مهدت الحروب الموضعية التي شنتها إسرائيل ضد مواقع النفوذ الإيرانية في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن لتوجيه الضربة الأميركية – الإسرائيلية الأخيرة، إلى رأس “محور الممانعة” في طهران، والآن يبدو أن دورة الاستثمار السياسي لهذه الضربات قد انطلقت من النقاط التي بدأت فيها آلة الحرب عملها.
في غزة كانت بداية حرب الوجود التدميرية الإسرائيلية، وتنشط إسرائيل الآن في محاولة تثميرها هدنة تمهد لاتفاق سياسي، وفي لبنان كانت محطة الحرب الإسرائيلية الوجودية الثانية مع ما أسفرت عنه من إبادة لـ “حزب الله”، فرضت عليه الموافقة على اتفاق إذعان يقضي بتخليه عن المشاريع العسكرية، والترجمة السياسية لتلك الحروب تعني أميركياً وإسرائيلياً إنهاء عصر الميليشيات الإيرانية قبل الانتقال إلى المحطة الثالثة التي توجت تلك الحروب في معركة خاطفة ضد إيران استغرقت 12 يوماً، مهمتها كسر المشروع الإيراني التوسعي المخصب باليورانيوم والصواريخ، وضمان الذهاب نحو وضع إقليمي جديد يشمل سوريا ولا يعود فيه للنظام الديني الإيراني أي قدرة في التأثير أو وضع العصي في الدواليب.
وفي غزة كما في لبنان، تتزامن المواعيد وتترافق مع اهتمام خاص ورهانات كبيرة على سوريا وقيادتها الجديدة، وتقود إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب جهود فك الحصار عن سوريا بالتزامن مع حملة من الضغوط لنيل موافقة “حماس” وإسرائيل على اتفاق يتيح الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين وعن أسرى فلسطينيين، ووقفاً لإطلاق النار يتوج بإنهاء دور المنظمة الفلسطينية العسكري والسياسي.
في الوقت نفسه تنتظر الإدارة الأميركية من السلطات اللبنانية خطتها لتنفيذ القرار رقم (1701) الذي ينص منذ صدوره عام 2006 على حصرية السلاح في يد تلك السلطات، ثم جاءت الحرب الأخيرة بنتائجها الملموسة لتكرس عدم إمكان التلاعب ببنوده كما جرى طوال الأعوام الـ 19 التي انقضت على صدوره.
الأيام القليلة المقبلة ستكون حافلة برسم المستقبل القريب، وبينما ينتظر ترمب الإيرانيين في لقاء يتوقعه قريباً، ربما يعقد في أوسلو، فسيشدد خلال مناقشاته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن مطلع هذا الأسبوع على إنجاز اتفاق لوقف النار في غزة مدته 60 يوماً، يتضمن إطلاق الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة “حماس” وإدخال مساعدات إنسانية إلى القطاع، على أن ترمب يطمح إلى ما هو أبعد من وقف للنار وعمليات تبادل إنسانية، فمن ضمن المقترحات الأميركية الانتقال إلى محادثات تنهي الحرب وإطلاق حوار إقليمي واسع يتجاوز ملف غزة إلى مستقبل العلاقات الفلسطينية – الإسرائيلية والعلاقات بين الدولة العبرية والدول العربية والإسلامية.
يدخل تنفيذ القرار (1701) في شأن نزع سلاح الميليشيات في لبنان، ويتزامن مع نقاشات بشأن غزة، والحالان تندرجان ضمن الورشة الإقليمية الكبرى التي تتحدث عنها الإدارة في واشنطن، وحينما يجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلي مع الرئيس الأميركي فيفترض أن تكون الحكومة اللبنانية أبلغت مبعوث ترمب، توم باراك، خطتها لحصر السلاح بيد الشرعية، بما في ذلك إنهاء الوجود المسلح لـ”حزب الله”، وهي الخطة التي تأخر تنفيذها منذ اتخاذ “مؤتمر الطائف” الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان قراره بنزع سلاح الميليشيات كافة، فنفذه الجميع إلا “حزب الله”، ولم يلتزم ببنوده الجنرال ميشال عون، مما استوجب جراحة لاحقة وترحيله عن لبنان.
ومع تقدم الجهود لحسم الأمور في غزة، تبدو الأمور محسومة في لبنان لجهة التنفيذ الكامل للقرار الدولي (1701) بصيغته وملاحقه المقرّة في اتفاق وقف النار بين “حزب الله” وإسرائيل في الـ 27 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، فإسرائيل مستظلة بورقة الضمانات الأميركية المرفقة بالاتفاق وتواصل ضغطها اليومي على حركة الحزب أفراداً ومواقع، واحتمالات المماطلة في التنفيذ ليست متاحة أمام التنظيم المسلح، على رغم ممانعته حتى اللحظة الأخيرة في تنفيذ ما التزم به، كما أن الاجتهاد اللفظي ليس مفتوحاً أمام سلطة لبنانية أمضت ربع قرن في ممارسة سياسات النعامة، وقبله مثله من الزمن في إرجاء القرارات الوطنية الكبرى.
ليس في يد الحزب الذي خسر النظام في سوريا وتركته إيران وحيداً في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية أي مبرر للاستمرار في التمسك بالسلاح للسلاح، فبعد هزيمة المحور لم يعد لهذا السلاح أي معنى غير إثارة المخاوف بين سكان لبنان المتعددي الطوائف والانتماءات، والذين يجمعون في غالبيتهم العظمى على أولوية بناء الدولة والركون إليها، وإسرائيل مدعومة من الولايات المتحدة ولن تكتفي بالتمسك الحرفي بتنفيذ الشق المتعلق بلبنان في اتفاق الـ 27 من نوفمبر 2024 قبل أن تنفذ الجانب المتعلق بها، من إخلاء لبقية النقاط المحتلة في الجنوب، بل هي تنفذ الاتفاق على طريقتها اصطياداً لعناصر “حزب الله” وتدميراً لقدراته، والاتفاق المذكور باتت الدولة العبرية تراه نموذجاً لأية ترتيبات يجري التوصل إليها مع الأعداء المعلنين وفي مقدمهم إيران، وكان مثيراً للاهتمام أنه في الوقت الذي تخصص واشنطن جهوداً لإقرار اتفاق في غزة وآخر أمني بين إسرائيل وسوريا، إضافة إلى السعي الحثيث نحو تنفيذ ما اُتفق عليه في شأن لبنان، فقد كانت إسرائيل تجري محادثات مع موسكو تتناول أوضاع المنطقة والتنسيق في شأن سوريا وإيران، على أن النقطة البارزة في النقاشات الدائرة هي في سعي الدولة العبرية إلى بلورة تفاهمات مع أميركا حول الملف الإيراني، على غرار تلك التي أفضت إلى وقف لإطلاق النار في لبنان، مما يمنح إسرائيل دعماً أميركياً في كل هجوم مستقبلي تشنه على إيران، بحجة تعطيل برنامجها النووي.
تقول القناة الإسرائيلية “كان-11” إن نتنياهو سيبحث الموضوع مع ترمب توصلاً إلى صيغة مشابهة لصيغة وقف إطلاق النار في لبنان، ويحصل كل ذلك بإشراف ترمب وعلى خلفية حلمه بـ “الصفقة الكبرى” التي يعمل على تحقيقها في الشرق الأوسط على أنقاض محاولة إيرانية مديدة لتغيير الصورة والحسابات، ويبدو الرئيس الأميركي في كل هذا المشهد مطمئناً إلى كونه اللاعب الدولي الوحيد، فهو المستند إلى تسوية في شأن المعركة التجارية مع الصين عززت حضوره وتأثيره في حلف الأطلسي، وعندما هاتف مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مدة ساعة قبل أيام، ظهر من المعلومات القليلة المسربة عن المحادثة أن سياسة ترمب الشرق أوسطية لا منافس لها ولا خصوم، من طهران إلى ساحل المتوسط.