في وقت انشغل فيه بعضهم بالتحضير لإطلاق الهُويَّة البصرية السورية الجديدة، كان آخرون يبتهجون بتحطيم تمثالٍ في ساحة سعد الله الجابري في حلب، باعتباره صنماً يجب إزالته. وبينما تصمت السلطات حيناً أو تقدّم تبريراً خجولاً بشأن الموقف حيناً آخر، يبتهج آخرون بهُويَّة بصرية لا يدرك كثيرون منهم دلالات ما تحمله للدولة وللشعب وأهميته وجدواه، ولا رمزيّتها الوطنية، مكتفين بضرورة إزالة الشعارات والرموز التي استخدمها النظام السابق، وتغيب في الضفّة الأخرى أيّ تلميحات أو أحاديث عن هُويَّة ثقافية تحاكي حضارة بلادٍ عمرها آلاف السنين، وتغيب أو تكاد الأنشطة الثقافية من البلاد، في ظلّ خوف مثقفين كثيرين وتوجّسهم من هيمنة فكر متشدّد على السلطة الثقافية، تشي به تلك التصرّفات “الفردية” وفقاً لخطاب السلطة الحالية.
تحمل الهُويَّة الثقافية لمجتمع ما، بما هي مجموعة القيم والتصوّرات والأفكار، التي يتميّز بها من غيره، خصوصيةً تاريخيةً وحضاريةً، وهي بذلك نتاج ما سمّي الوعي الجمعي، الذي عرّفه عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركايم بأنه مجموعة المعتقدات والقيم والمشاعر الإنسانية بين أعضاء مجموعة من السكّان، بما يشكّله من أداة لتمكين التماسك الاجتماعي بين الأفراد، وعاملاً في تمتين الهُويَّة بتجلياتها كافّة، الثقافية والفنية والاجتماعية، وحتى السياسية والاقتصادية، لأفرادٍ ينتمون إلى حيّز جغرافي معيّن، بصرف النظر عن الانتماءات العرقية والدينية. وعلى الرغم من الدور الذي لعبته تلك الانتماءات في تشكيل الوعي الجمعي في أحيانٍ كثيرة، فقد أدّت إلى تجاوزات كبيرة بما يخصّ الهوية الجماعية، وعمدت إلى إقصاء بعضهم ورفض آخرين لا ينتمون إليها.
السوريون أمام مرحلة ليست انتقالية فقط، بل مصيرية، وأي تصرف تنسبه السلطات إلى حالات فردية أن يؤسّس واقعاً لا يسهم في إعلاء المواطنة
تلعب العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية دوراً أساسياً في رسم هُويَّة الأفراد الثقافية، بما يمكن أن نسميها الثقافة الجمعية التي تميز مجموعة من أخرى ومجتمعاً من آخر، وهو ما تحاول بعض الجماعات اللعب عليه في الواقع السوري الجديد، من توجه إلى أسلمة المجتمع بما يحمله من تكفير للمشتغلين بالفنّ، وتصوير المنحوتات أصناماً يمنع وجودها في الساحات والأماكن العامّة، ممارسات إن حاولت الإدارة الجديدة تصويرها تصرّفات فردية، إلا أنها تُحدث شرخاً في المجتمع الذي يحاول النهوض من كبوة سنوات من الاستبداد والظلم، ويتطلّع نحو حالة أكثر تحرّراً وانفتاحاً. ولم تكن قرارات وزارة السياحة، بما يخص الشواطئ والمسابح، إلا ضمن إطار هذا التغيير المخيّف، الذي يقلق السوريين في الوقت الحالي، قرارات تشي بإعادة هيكلة العادات والتقاليد والتصرّفات التي اعتادها السوريون فيما بينهم، وفرض إطار جديد سيساهم في ترسيخ الفرقة الطائفية والمذهبية من خلال تقسيم المجتمع بين فئات تتماهى مع فكر السلطة وأخرى تتخذ رأياً مخالفاً يؤدّي إلى إقصائها من المشهد العام.
تحمل الهُويّة الثقافية للمجتمع شكلاً من الثبات والديمومة والاستمرارية، وهي حالة صحيحة وصحّية، إذا اعتبرنا الهُويَّة الثقافية مجموعة القيم الجمالية والأخلاقية واللغوية، وأيضاً الأنماط الاجتماعية السائدة، فضلاً عن القيم التاريخية والحضارية المتوارثة، التي تشكّل هُويَّةً للمجتمع ككل، وللفرد بشكل مستقل، إلا أنّ هذا لا يعني، في أيّ حال، محاولات العودة إلى غياهب التاريخ والاستعانة بأفكار ومعتقدات لم تعد تناسب العصر الحالي، ولا يبرّر ما تقوم به جماعاتٌ محسوبةٌ على السلطة من أعمال متشدّدة رافضة الآخر، مثل تحطيم تمثال أو أيقونة أو شجرة عيد ميلاد، ممارسات لا ينتج عنها إلا تضييق الخناق على بعض مكوّنات المجتمع، وفرض الهيمنة عليها وقوقعتها وانغلاقها.
الهوية الثقافية، بما هي جزء من الثقافة بشكل عام، مفردّة متحرّرة من كلّ القيود الاجتماعية والسياسية، والإيحاءات العرقية والدينية، التي تحاول تقييدها وتكبيلها، لا بدّ أن تنأى بنفسها عن أيّ محاولة أو اجتهاد فردي لتأطير الثقافة بشكل معيّن، أو فرض معتقدات تعبّر عن فئة واحدة في مجتمع سمته الأساسية التنوع، والدفع باتجاه حالة أكثر انفتاحاً تواكب ما يجري في العالم من تطوّر في العلم والفكر، مع الحفاظ على الموروث الحضاري، الذي يحاكي مراحل تاريخية تعاقبت على البلاد، بعيداً من الموروث الذي يحاول بعضهم ترويجه منذ 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، والاستعانة بشعار المرحلة “من يحرّر يقرّر”.
يقلق السوريين تقسيم المجتمع بين فئاتٍ تتماهى مع فكر السلطة وأخرى تتخذ رأياً مخالفاً يقصيها من المشهد الع
اعتبر الفيلسوف ديفيد هيوم أنّ الهُويَّة، التي تنسب إلى العقل البشري، ليست إلا وهماً، وبما أنّ الحياة في حركة وتغير مستمرّين، فلا يمكن الحديث عن هُويَّة ثابتة، وهو ما يُرجَّح صحّته، لأن منطق الأمور والحياة يفرض ويفترض التغير والتبدل والتأثر والتأثير. وبالتالي، لا يمكن القول بثبات الهُويَّات بقدر ما هما تجذّرها وعمقها، اللذان لا يجعلان من أيّ تغيير يطرأ إلا إضافة تزيد من تماسكها ومرونتها في الوقت نفسه، فأيّ ثقافةٍ لا تؤثّر ولا تتأثّر سيحكم عليها بالزوال عاجلاً أم آجلاً.
قد يشكلّ تحطيم تمثال هنا وآخر هناك، أو إزالة رمز ديني لطائفة أو مكوّن ما حدثاً عابراً بالنسبة إلى بعضهم، لكنّه لا يجب أن يكون كذلك للمهتمين بهُويَّة سورية جامعة لكلّ السوريين على غرار ما أعلن في أثناء إطلاق الهُويَّة البصرية، لأنه يؤسّس شكلاً جديداً من أشكال الأنظمة الشمولية، التي تشير إلى خطورةٍ تحدّثت عنها المفكّرة الألمانية حنة أرندت، حين أشارت إلى أنّ الأنظمة الشمولية قد لا تبدأ بالقتل، بل بمحو الرموز الصغيرة التي تعبّر عن حالة مجتمعية أو دينية أو فكرية، مثل إزالة وتكسير تماثيل أو بالسماح لجماعة دينية باختراق شارع ومحاولة تكفير أفراده، على غرار ما انتشر من سيارات “الدعوة” في بعض الأحياء المسيحية في دمشق أو مدن الساحل السوري ذات الأغلبية الطائفية المغايرة لتلك التي تتصدّر السلطة اليوم في البلاد، من شأن تلك التصرّفات أن تؤسّس لفكر وثقافة جديدَين، لا يمثّلان المجتمع السوري بمكوناته كلّها، وترسم حالة تفرّد جديدة، على غرار التي كانت سائدةً في عهد النظام السابق، أطلق عليها “حكم الحزب الواحد”.
السوريون اليوم أمام مرحلة ليست انتقالية فقط، بل مصيرية، من شأن أيّ تصرف تنسبه السلطات إلى حالات فردية أن يؤسّس واقعاً لن يسهم في إعلاء المواطنة، بل في فرض رؤية دينية ضيّقة ستؤدّي (مع الوقت) إلى تفاقم الاحتقان الشعبي، وربّما إلى الانفجار، فهل تتنبه السلطات (الثقافية أقلّه) إلى تلك المحاذير، وتأخذها على محمل الجدّ، إم أنها تتواطأ بشكل ضمني مع ما يقوم به أفراد هنا وهناك؟