عاش السوريون خلال السنوات الماضية بعد انطلاق الحراك الشعبي في البلاد عام 2011 صراعاً أسفر عن ملايين الضحايا والمهجرين والمفقودين، لتتجه الأنظار بعد سقوط النظام المخلوع _ الذي انتهج سياسة مزدوجة تجاه الهويات الجزئية، فكان يهمّشها حين تشكل تهديدًا له، ويستغلها حين تخدم مصالحه، متذرعًا بشعار “الوحدة الوطنية” لإحكام قبضته على السلطة، بالإضافة لما خلفته الحرب في سوريا انقسامات عميقة في النسيج الاجتماعي _ إلى ضرورة إعادة بناء الهوية الوطنية التي لا يمكن أن تكون شعاراً سياسياً بل ضرورة مصيرية. حيث أن لا استقرار حقيقي دون عقد اجتماعي جديد، يعترف بالتنوع كمصدر قوة، ويعيد تعريف الانتماء الوطني بعيدًا عن الاصطفافات الطائفية والسياسية مع إمكانية إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة بين كافة المكونات بعيداً عن لغة الإقصاء والعنف التي نشطت سابقاً
وتتجه كافة الأطراف في سوريا نحو الحديث عن أهمية وضرورة وجود هوية وطنية جامعة لكن في الوقت نفسه تحدد بعض الجهات الأبعاد الوطنية والقومية كما تراه مناسباً لها دون مراعاة أو الأخذ بعين الاعتبار في الدرجة الأولى حقوق كافة السوريين بفسيفسائهم المتنوعة دون تمييز في العرق أو الدين.
وتباينت الهويات التي جاءت مع تعدد المناهج التعليمية المختلفة في مناطق النفوذ المتعددة سابقاً داخل سوريا كما شكّل الانهيار الاقتصادي وضعف المعيشة التهديد الأكبر لأي مشروع وطني، فالمواطنين السوريين عندما يعيش معظمهم تحت خط الفقر لن يعنيهم أي خطاب عن الهوية الوطنية، ووسط هذه التحديات التي تواجه المجتمعات السورية تصبح الهويات الفرعية أكثر اهتماماً ليبحث الأفراد عن حماية في الطائفة أو العشيرة أو القومية، فالهوية الوطنية تُبنى من خلال دولة عادلة تضم جميع مواطنيها لا أن يكونوا مجرد سكان فيها.
وتضم سوريا 15 لغة محكية، بالإضافة إلى اللهجات المحلية المتنوعة. وتُعتبر اللغة العربية اللغة الرسمية الوحيدة، لكن الحفاظ على اللغات المحلية مثل الكردية والسريانية والتركمانية يشكل جزءاً مهماً من الهوية الثقافية لمختلف المكونات.
وفي لقاء خاص مع الدكتور زيدون الزعبي الباحث في مجال الهوية والحوكمة، يتحدث لـ “963+” عن مدى إمكانية إعادة تأسيس هوية وطنية جامعة تحتفظ بالتنوع وتعززه في سوريا وعن دور التنوع الثقافي في ذلك إلى جانب دور العدالة الانتقالية في تثبيت وبناء السلام المستدام بالبلاد.
فيما يلي الحوار كاملاً:
هل تواجه سوريا في الوقت الحالي تحديًا أساسيًا في إعادة بناء هوية وطنية جامعة بدلًا من الهوية الإقصائية التي فرضها النظام المخلوع؟
سوريا تواجه تحديات واسعة في إعادة بناء هوية وطنية جامعة، ولو كان هناك هوية وطنية جامعة لما شاهدنا الاقتتالات اليوم في سوريا، لكن تعريف من نحن ومعرفة من نحن كفيل بالخروج من الأزمة، ولو كانت معرفتنا من نحن موجودة لما اقتتلنا أو على الأقل لما شهدنا هذا المستوى من الاقتتال. التحدي الرئيسي لمعرفة من نحن يجب أن نعرفه من خلال المقارنة بين بعضنا البعض، بمعنى ما الذي يمثله الكردي بالنسبة للعربي، والعربي بالنسبة للكردي، المسلم بالنسبة للمسيحي والعكس، هل نجد في المشتركات أكثر من نقاط التباعد؟ ثم التعريف بنا إلى الجوار القريب والبعيد، ما موقعنا بالنسبة للعالم العربي، وبالنسبة لبلاد الشام؟ وما هو موقعنا أيضًا بالنسبة للعالم الإسلامي؟ كل ذلك تحديات رئيسية. كما يجب أن لا ننسى بأن الحالة الاقتصادية تؤثر على تعريف الهوية الجامعة، بالتالي فإن حالة وجود رخاء وتنمية في سوريا قد تساهم في تشكيل هوية جامعة، لكن للأسف هناك اليوم نوع من الصراع الطبقي الذي بدأ ينشأ في سوريا بين الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة الواسعة.
كيف يمكن إعادة تأسيس هوية وطنية جامعة تحتفظ بالتنوع وتعززه في سوريا؟ وما هي آليات توظيف التنوع الإثني لتعزيز الوحدة الثقافية؟
بشكل أساسي، علينا أن نُقِرّ أولًا بأن سوريا وطن نهائي لجميع السوريين، وأن نتوقف عن الحديث عن أوطان واسعة خارج الحدود، القبول بأن نتيجة “سايكس بيكو” هي نتيجة نهائية، ونبتعد عن أحلام أمة عربية واحدة وأمة كردية واحدة. هذا لا يعني أننا لسنا جزءًا من العالم العربي، وأن الكردية ليست جزءًا من المحيط الكردي. ولنأخذ مثالًا عن الاتحاد الأوروبي، فألمانيا لها هويتها الخاصة والرئيسية، التي لم تمنعها من تشكيل الوحدة الأوروبية، في حين حديثنا العميق والمتكرر عن الوحدة العربية يأتي بالمزيد من التشتت، لأننا نريد الوحدة العربية قبل أن نضمن تماسكًا مجتمعيًا. لو أن هناك إيمانًا بأن سوريا وطن نهائي للجميع، والهوية السورية كافية لكي تخلق أمة سورية، قد تكون متعددة القوميات لكنها هوية نهائية وأمة سورية ناجزة، قبل أن نعترف ونُقرّ بهذه المشكلة لا يمكن أن نشكل وحدة أوسع، بالتالي المطلوب تشكيل هوية جامعة لكي نفكر بما هو أوسع مستقبلًا.
هل التنوع الثقافي في سوريا يعتبر محركًا للنمو الاقتصادي؟
سأعطي مثالًا عن التنوع الثقافي، كيف يمكن أن يكون محركًا للنمو الاقتصادي. “بوت سان” هي مقاطعة إيطالية، لكن معظم سكانها ناطقون باللغة الألمانية، هذه الولاية من أغنى ولايات الاتحاد الأوروبي، وتستفيد كثيرًا بأنها تتحدث اللغتين الألمانية والإيطالية، إلى جانب لغة الرومان وغيرها، مما يتيح لها أسواقًا متعددة، واجتذاب شركات ألمانية وإيطالية، وأيضًا إنتاج سلع ومنتجات إلى السوق الناطقة بالألمانية في ألمانيا والنمسا، والناطقة باللغة الإيطالية. ومن هنا يمكن القول إن وجود تنوع إثني في سوريا بالتأكيد هو مصدر غنى ومحرك رئيسي للاقتصاد، لكن شريطة إيمان الجميع بأننا سوريون، وأن الوطن للجميع، عند ذلك نستفيد جميعًا في بناء سوريا المستقبل، أما طالما أننا نرى بعضنا طوائف متحاربة، فبالتأكيد ذلك سيدمر المستقبل.
ما دور العدالة الانتقالية في تثبيت وبناء السلام المستدام في سوريا؟
العدالة الانتقالية في سوريا بطريقها لتحقيق السلام، لكنها غير كافية، ومن الضروري تضافر جهود العدالة الانتقالية مع جهود بناء هوية وطنية جامعة، تستطيع أن تكون أداة أو استراتيجية سلام، كما أنها محرك للنمو الاقتصادي.
كيف يلعب النظام التعليمي دورًا محوريًا في تشكيل الهوية الوطنية؟
النظام التعليمي هو من يبني الهوية الوطنية، وهو من يعزز هوية جامعة أو يعزز هوية إقصائية. إذا كان النظام التعليمي يستند إلى الهوية السورية بكافة أركانها، وهي الحضارة العربية الإسلامية، والتنوع الإثني، والتسامح، فالنظام التعليمي عندما يعكس ذلك، فهو يؤسس لمستقبل وهوية وطنية جامعة. أما إذا أنكر النظام التعليمي وجود تنوع إثني وثقافي، أو عدم وجود أثر كبير للهوية العربية والإسلامية، فإنه بالتأكيد يخلق هوية إقصائية، وبالتالي ستعاني الأجيال القادمة من الكراهية والخصومة، ولا تعتبر أنها تشكل كيانًا واحدًا مع بعضها البعض.
تواجه سوريا تحدي الحفاظ على وحدتها الجغرافية في ظل تعدد مناطق النفوذ والسيطرة، كيف يمكن ذلك؟
أرى بأن وحدة سوريا قادمة، لا أخشى كثيرًا على وحدة سوريا، وآمل أن تفضي الحوارات بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية إلى اتفاق سلام يقرّ بأهمية الدولة ووحدة السلاح، بالمقابل، وبشكل رئيسي، يقرّ بتنوع المجتمع. وهنا يجب أن أشير إلى أن الإعلان الدستوري يعتبر النص الأول المتضمن الاعتراف بالهويات الإثنية والتنوع في سوريا، واحترام الحقوق اللغوية، والتأكيد على عدم التمييز على أساس العرق أو اللون، وهذا كله موجود في المادتين السابعة والعاشرة من الإعلان الدستوري. كما أن هذه القضايا الأساسية، بعضٌ منها يُذكر للمرة الأولى في تاريخ سوريا، من بينها الحقوق اللغوية للمكونات. وبرأيي، كلما توسعنا في ذلك وأقررنا أن الكرد والتركمان مثلًا مكون أساسي في البلاد، كلما وصلنا إلى حلول تؤكد وحدة الأراضي السورية.