أفرَغَ الموفد الأميركي توماس بارّاك حمولته الزائدة من “الرضى” على الردّ اللبناني في شأن الاقتراحات التي قدّمها في زيارته الأولى للبنان في 19 حزيران الماضي، في الوقت الذي أكّد فيه أنّه لم يطّلع على كامل جوانب هذا الردّ المؤلّف من سبع أوراق، “بل تحدّثنا عن التعديلات بسرعة، وبعد مراجعتها سيكون لدينا جواب عبر سفيرتنا في لبنان”.
كانت الإيجابيّة الظاهرة في أسلوب مقاربته لملفّ نزع السلاح، وموقفه من مصير “الحزب”، قراراً متّخذاً سلفاً، قبل أن يحط رحاله في عوكر، وفق مطّلعين، استناداً إلى قرار واشنطن بالتعامل “الهادئ” مع بيروت إلى حين اتّضاح مسارات الحلول من غزّة إلى سوريا، مروراً بطهران، لكن من دون أيّ ضمانات في ما يخصّ الأجندة الإسرائيلية حيال لبنان.
أثارت زيارة توماس بارّاك الثانية لبيروت جلبة داخلية أكبر بكثير من تداعياتها على ملفّ السلاح ومصير لبنان والتزاماته لدفتر شروط المجتمع الدولي لركوب قطار التعافي العسكري والماليّ والإصلاحيّ.
للتأكيد، يكفي إدراج بارّاك كلمة “حوار” ضمن سياق كلمته من قصر بعبدا، في معرض تعبيره عن رضاه على الردّ اللبناني في شأن موضوع السلاح، “نحن نخلق خطّة إلى الأمام، وللقيام بذلك نحتاج إلى الحوار، وما أعطته الحكومة خلال فترة قصيرة كان مذهلاً. ما نحتاج إليه اليوم فترة من التفكير للوصول إلى التفاصيل”، مُتحدّثاً عن “رئيس الجمهورية الذي خصّص فريقاً كبيراً للقيام بهذه المُهمّة”.
“هندسة” جديدة
إذاً هي مرحلة البدء بالنقاش “في التفاصيل” من خلال الدبلوماسية “الطائِرة”، التي ستقود موفد دونالد ترامب مجدّداً إلى لبنان، على الأرجح نهاية الشهر الجاري، من أجل مواكبة ترجمة الآليّة التي يفترض أن يقدّمها لبنان لنزع السلاح (لم ترِد في ورقة لبنان)، بالتزامن مع الانسحاب الإسرائيلي، الذي يتمسّك به الرؤساء الثلاثة في سياق مسار “الخطوة بخطوة”، الذي رَوّج له منذ أشهر الفريق اللصيق برئيس الجمهورية.
للمرّة الأولى يتحدّث مسؤول أميركي كبير، علناً، عن عدم وجود جدول زمني مفروض على الدولة اللبنانية لتنفيذ مهمّة سحب السلاح
تحدّث بارّاك عن “هندسة جديدة” (للمرحلة المقبلة)، وضرورة حصول “تنازلات من كلّ فريق”، و”التخلّي عن العداءات الداخلية”، وأنّ “دعم العالم للبنان يبدأ انطلاقاً من مسار الداخل، ونحن هنا للمساعدة”.
تعابير عالية “اللهجة الدبلوماسية” عَكَسها بوضوح موفد الإدارة الأميركية، وتلاقت مع مسار الدبلوماسية اللبنانية في إيجاد حلول جذريّة لملفّ السلاح، من دون أن تحجب على الإطلاق “المشروع الأميركي” الواضح في دفع لبنان، بطريقة “توماس” هذه المرّة، وليس مورغان أورتاغوس التي أبعِدت عن الملفّ، إلى فرض نزع “الحزب” لسلاحه، وضمان حفاظه على “مقعده” على طاولة القرار السياسي، من دون ترسانته العسكرية، تحت طائلة، كما قال بارّاك، “بقاء لبنان في الخلف، لأنّ المنطقة تتحرّك بسرعة كبيرة للغاية”، ملوّحاً بـ “مرحلة السلام مع إسرائيل”.
تقول مصادر رسمية لـ”أساس”: “لم يتبنَّ الأميركيون، بأيّ مرحلة، لهجة التهديد. جلّ ما قالوه، وكرّره توماس بارّاك، أنّ الاهتمام الدولي والعربي بلبنان سيتراجع حتماً إذا لم يقُم بالمطلوب، واستطراداً سيعيق إنجاز الملفّات المُلحّة ومشاريع النهوض، وتُحوَّل المساعدات إلى سوريا وبلدان أخرى”.
مجالس عزاء
لكثير من الأسباب، وبسبب فائض التوقّعات التي لم تكن في محلّها، فُتحت “مجالس العزاء” في بعض (المقرّات) المقارّ السياسية، ولدى بعض النوّاب والجهات الحزبية والإعلامية ومن يُصنِّفون أنفسهم “مؤثّرين” في الرأي العامّ. يُمكن سَرد مُسبّبات “الاعتراض” على “دبلوماسيّة توماس” المُفرِطة، التي دفعت رئيس حزب “القوّات اللبنانية” سمير جعجع إلى اتّهام الرؤساء الثلاثة، دفعة واحدة، بمخالفة الدستور والقانون، والتعدّي على صلاحيّات الحكومة، وتشكّكه في “خلفيّة موقف السلطة الحالي”، والتمهيد الواضح للانسحاب من الحكومة:
وَصَف بارّاك نزع السلاح بـ”العمل المُعقّد”، وتحدّث عن دور أساسي للحكومة “حتّى نصل إلى الإجماع، إضافة إلى دور الجيش اللبناني
– للمرّة الأولى يتحدّث مسؤول أميركي كبير، علناً، عن عدم وجود جدول زمني مفروض على الدولة اللبنانية لتنفيذ مهمّة سحب السلاح. وذلك، بعكس التسريبات المنظّمة التي أعقبت زيارة بارّاك لبنان في حزيران الماضي، حين رُوّج لجدول زمني سقفه الأعلى خمسة أشهر، ويَفرض على الحكومة الاجتماع خلال فترة أسبوعين، من تاريخ الزيارة، لإصدار قرار رسمي واضح عن آليّة سحب السلاح، “تحت طائلة رفع اليد نهائيّاً عن لبنان”، و”حرب تدميرية إسرائيلية” ستفتك بلبنان وتكلّفه ثمناً باهظاً.
بارّاك
– على الرغم من الحديث المُتكرّر عن انتهاء فترة السماح للعهد القائم، وتصوير الرئاسة الأولى والحكومة “مقصّرتين” في سياق مهمّة نزع السلاح، ومراعاة “الحزب”، وصدور أصوات قريبة من لوبي أميركي- لبناني متشدّد في واشنطن تدعو الرئيس جوزف عون إلى التنحّي بسبب فشله في المهمّة، تؤكّد معطيات “أساس” التي تقاطعت بين المقارّ الثلاثة، بعبدا-السراي-عين التينة، أنّ الموفد الأميركي قد تقصّد الثناء على مقاربة الرؤساء الثلاثة لملفّ السلاح والإصلاحات، مع تأكيد أنّ “واشنطن إلى جانبكم دائماً، إلّا إذا أنتم لم ترغبوا بذلك”، متحدّثاً عن “صيغة” يعمل عليها الجانب اللبناني، وتحتاج إلى الوقت.
– فَصَل بارّاك بشكل كامل بين الحزب السياسي في “الحزب” وجناحه العسكري، متحدّثاً عن تنازلات يجب أن يقوم بها الجميع.
– وَصَف بارّاك نزع السلاح بـ”العمل المُعقّد”، وتحدّث عن دور أساسي للحكومة “حتّى نصل إلى الإجماع، إضافة إلى دور الجيش اللبناني. والأميركيون لا يستطيعون أن يقوموا بأيّ شيء لإدارة العمليّة. هذا ليس واجبنا، نحن هنا فقط للمساعدة”. هي مقاربة أميركية تتنافى بالكامل مع نظرة فريق لبناني بات يراهن علناً على العصا الأميركية في دفع لبنان الرسمي للسير بالخيار الأميركي- الإسرائيلي.
– كلّ مواقف بارّاك الدبلوماسية والمُهادِنة، “الراضية” عن أداء السلطة في لبنان، والفاتحة للباب أمام “التفكير برويّة في التفاصيل”، تمّت بحضور ممثّل عن الكونغرس، وهذا له دلالاته السياسية حيث تقصّد الموفد الأميركي الإشارة إلى هذا المعطى: “تعرفون كيف يعمل النظام الأميركي، الإدارة من جهة والكونغرس عادة يكون من الجهة المقابلة. وأنتم اليوم لديكم الفريقان، لذلك يمكنكم أن تكونوا القادة لهذه العمليّة”.
فَصَل بارّاك بشكل كامل بين الحزب السياسي في “الحزب” وجناحه العسكري، متحدّثاً عن تنازلات يجب أن يقوم بها الجميع
استنفار “الحزب”
مع ذلك، بقيت كلّ الإيجابيّات التي حَمَلها بارّاك في زيارته، وتحويله مرحلة “خطف الأنفاس” التي رُوّج لها من قبل البعض في الداخل والخارج إلى فرصة “لالتقاط الأنفاس”، رهينة تطوّرات ما بعد الزيارة، وسط خشية “الحزب” من تخطيط إسرائيل لتوجيه ضربة عسكرية له مجدّداً، ردّاً على الموقف الأميركي، أو ربّما في سياق تواطؤ أميركي-إسرائيلي سيمنح الغطاء لتوسيع العدوّ الإسرائيلي نطاق اعتداءاته من ضمن سياسة توزيع الأدوار.
إقرأ أيضاَ: بارّاك: من يضمن الإسرائيلي كمن يمشي على الماء..
شكّل هذا الواقع فرصة لبعض الجهات كـ”القوّات اللبنانية” للضغط بقوّة أكبر عبر دعوتها أمس الدولة إلى “حَسم أمرها”، وتجاهُل جعجع بعد استقباله بارّاك والسفيرة الأميركية ليزا جونسون مساء الإثنين في معراب، الإشارة إلى ورقة الردّ اللبناني، حاصراً الحديث فقط عن ورقة العمل التي قدّمها بارّاك إلى المسؤولين اللبنانيين. هذا مع العلم أنّ بارّاك، بعد لقائه قائد الجيش العماد رودولف هيكل، توجّه على متن مروحيّة إلى الجنوب والتقى ممثّلي الأعضاء في الـ mechanism.