.
وجد الإعلام الإسرائيلي “مصدراً سوريّاً” للكشف عن سيناريوهات اتّفاق تطبيع مع إسرائيل. تحدّث “السبق” عن أثلاث من هضبة الجولان المحتلّة تعود إلى سوريا أو تبقى مع إسرائيل أو تستأجرها من سوريا. لم يتحدّث ذلك الإعلام عن صلة القرابة بين ذلك “المصدر” والنظام الذي يقوده الرئيس أحمد الشرع، لكنّ تلك الأفكار المزعوم أنّها سوريّة، من الأرجح أنّها إسرائيليةٌ تضعها إسرائيل في فم المصدر المزعوم.
تبقى تلك السيناريوهات ضجيجاً روتينيّاً من ضمن ما يتردّد خلال الأسابيع الأخيرة بشأن محادثات تجريها إسرائيل مع دمشق برعايات إقليمية متعدّدة تنشد، وفق وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، التوصّل إلى اتّفاق تطبيع بين البلدين. ولئن يشترط ساعر إقرار سوريا باحتفاظ إسرائيل بهضبة الجولان، فإنّ الأفكار المسرّبة تهدف إلى بثّ مخارج ملتبسة لتفكيك استعصاء يمنع بلوغ التطبيع نهايات طموحة.
تقترح الأفكار ضمّ مدينة طرابلس ومناطق لبنانية أخرى إلى سوريا مقابل تخلّي سوريا عن جولانها. بدا هذا السيناريو مدخلاً لجعل مسألة الجولان والتطبيع حدثاً إقليمياً يمسّ حدود سايكس بيكو الشهيرة. وبدا أنّ في ذلك التسريب الإسرائيلي ما يهدف إلى الدفع بفتنة ستجد لها في لبنان من ينفخ بنارها.
يتواكب “خيار طرابلس” مع سيناريوهات أخرى مجهولة المصدر تروِّجُ أنباءها جهات لبنانية بشأن ميل في واشنطن لإيلاء شؤون لبنان إلى النظام الجديد في سوريا. وعلى الرغم من انتفاء وجود أيّ مصدر موثوق لتلك الأنباء في دمشق أو واشنطن، فإنّ الذاكرة عادت إلى ذلك الاتّفاق الذي أُبرم بين إسرائيل وسوريا عام 1974 برعاية الولايات المتّحدة وأسّس لاحقاً لتدخّل عسكري للنظام السوري في عهد حافظ الأسد عام 1976 ضدّ من كانت تعتبرهم إسرائيل خطراً عليها في لبنان.
يستند أصحاب الشكّ في صدقيّة صفقة الجولان- طرابلس إلى ما صدر عن بارّاك
بمعنى آخر قد تتيح مصالح دوليّة كبرى لأصحاب الأفكار أن يروّجوا لإبداعاتهم في زمن التحوّلات التاريخية، حيث كلّ شيء جائز. ولا ريب أنّ فكرة طرابلس بالذات تنهل عبقها من الطابع السنّيّ العريق للمدينة، ووقوفها التقليدي ضدّ نظام الأسدين البائد، ودعمها الفطريّ للتحوّلات التي “هبطت” على سوريا وفرضت حكماً سنّيَّ الطابع يدغدغ مشاعر سُنّة المنطقة، بما في ذلك “فيحاء” الشمال في لبنان.
بارّاك يؤكد على وحدة سوريا
يستند أصحاب الشكّ في صدقيّة صفقة الجولان- طرابلس إلى ما صدر عن توم بارّاك الذي أولته الولايات المتّحدة مهمّة الإشراف على سياستها حيال سوريا الجديدة. عبّر هذا الأميركي عن “قرف” ممّا ارتكبه الفرنسيون والأميركيون عبر مبضع الثنائي سايكس وبيكو في منطقتنا. كان الرجل يودّ التبشير بانتهاء عصر تقسيم الدول، وخاصّة تأكيد وحدة سوريا، وردّ كلّ ضوضاء بشأن احتمالات رعاية استحداث كيانات سياسية تفتك بوحدة كيانها الكبير. غير أنّ في تأويل نظريّة بارّاك ما يُشتبه في أنّه قد يقصد التلاعب بحدود سايكس- بيكو وجعلها مرنة تحتمل ما تجود به قريحة إعلام إسرائيل.
الجولان
والحال أنّ النظام الجديد في سوريا يتحرّى التطبيع مع سوريا أوّلاً لا مع إسرائيل. وإن يُقرّ الرئيس الشرع نفسه باتّصالات هدفها إنهاء الاعتداءات الإسرائيلية على بلاده، فهدف ذلك هو صون أمن سوريا، ووقف التدخّل في شؤون أقلّيّاتها، والذود عن وحدة البلد وسيادته الكاملة. وتحمل سوريا الجديدة هموماً داهمة خطيرة في الأمن والاقتصاد والسياسة تجعل من فكرة التمدّد صوب طرابلس “ترفاً” لا أحد في سوريا، التي تتمركز داخلها 4 جيوش أجنبية، يجرؤ على ارتكاب “مزاح” يطلق ترّهة من نوع ضمّ طرابلس، في وقت تجهد دمشق للاحتفاظ بأطراف سوريا نفسها.
تحدّث “السبق” عن أثلاث من هضبة الجولان المحتلّة تعود إلى سوريا أو تبقى مع إسرائيل أو تستأجرها من سوريا
ما صدر من إسرائيل عن طرابلس يتّسق مع مشاعر التفوّق التي تهيمن على نتنياهو وصحبه بشأن ذلك “الشرق الأوسط الإسرائيلي”، الذي يجيز تغيير المنطقة وفق موازين القوى التي أنتجتها حرب “طوفان الأقصى”. ستقترح إسرائيل، ولو نظريّاً، أفكاراً لم تكن تقامر بها قبل ذلك، من دون الأخذ بالاعتبار أنّ لعواصم المنطقة، من أنقرة إلى القاهرة مروراً بالرياض وغيرها، حسابات لردع العبث في أصول وقواعد واستقرار نظامها الإقليمي العامّ. ولئن تطرح إسرائيل ورقة للمقايضة، فإنّ من بداهة الأمور أن يدافع عن مصير طرابلس لبنان، طبعاً، ومنطقة تعتبر المدينة جزءاً من توازناتها النهائية.
انتهى عصر تدخل سوريا في لبنان
يطمح توم بارّاك في تصريحاته الحديثة إلى “جعل لبنان عظيماً من جديد” لا أن يستدعي تحديثات على سايكس-بيكو. انتهى عصر تدخّل سوريا في شؤون لبنان. هذا هو عنوان سياسة دمشق الجديدة، وفق ما أعلن الرئيس الشرع قبل أشهر. لكنّ ذلك العنوان يحتاج إلى علاقات صحّيّة سليمة بين بيروت ودمشق تزيل أيّ لبس عن ذلك العنوان وتجعله نهائيّاً في علاقات البلدين.
إقرأ أيضاً: واشنطن – الرّياض: رسم مشهد سوريا ولبنان
سلّمت فرنسا أرشيفاً للبنان يدعم حقوقه في أيّ ترسيم حدودي مع سوريا ويؤكّد، بالمناسبة لإسرائيل، نهائيّة لبنانيّة طرابلس. ولئن تبدو “الأفكار” المتطايرة من عُدّة الشغل التي تستخدمها إسرائيل، فإنّ عُدّة الشغل المضادّة في لبنان وجب أن تجهد لتثبيت تحوّلات تؤكّد وحدة لبنان وسيادة أراضيه، تحت سقف الدولة التي تمنع اختلالاً وتقصيراً يستدرج تشكُّكاً في لبنانيّة مصير طرابلس أو غيرها من مناطق لطالما عانت التهميش خلف الإهمال. تلك الدولة التي تحتكر أيضاً امتلاك السلاح، وضمان مناعة البلد أمام رياح خبيثة، تتسرّب عينات منها في ما ألصقه إعلام إسرائيلي بمصدر من سوريا.