في الطرق التي يمشيها الإنسان، والدول أيضاً، ما بعد «سكة السلامة» فإن الفشل يعني الولوج إلى سكة أخرى ترى فيها الشعوب أن الدولة الوطنية التي تعيش فيها، وهي الأصل في سلامة السكة، لا تكفي للحصول على الأهداف الوطنية أو القومية أحياناً. أو أن ذلك لا يسمح بتحقيق أحلام تاريخية يحدث فيها الخلاص الكامل من الذنوب والمعاصي. العالم عرف تاريخياً «الفواعل Actors» من غير الدول في شكل الكنائس العالمية التي يتعدى نفوذها حدود الدول. وكذلك فعلت الشركات الدولية المتعددة الجنسية، مثل شركة الهند الشرقية التي كان يتعدى نفوذها الدولة الاستعمارية التي تتبعها، وأحياناً تكون رأس حربة للتمهيد لها. في العالم العربي، كانت جماعة «الإخوان المسلمين» التي تعدت في نفوذها السياسي، والاقتصادي والعسكري الحدود المصرية عندما أنشأت «التنظيم الدولي للإخوان المسلمين»، الذي استغل مواسم الحج لتجنيد جماعات في البلدان الإسلامية جعلت الولاء لها سابقاً للدولة الإسلامية الوطنية. التنظيم كانت له بنوكه في البحر الكاريبي، وأدواته السياسية والإعلامية، وحاضنته التي يربي فيها من أصبحوا بعد ذلك أكثر راديكالية وعنفاً وإيماناً بأن السلاح للمقاومة هو الأكثر فاعلية من الجيوش القومية. «القضية الفلسطينية» رغم سخونتها باتت مصدراً لشرعية عبور حدود الدولة، وحتى القتال باسمها أو الدفاع عنها. حرب غزة الخامسة كانت القمة التي تجمعت فيها تنظيمات ذات طبيعة دينية مثل «حزب الله» في لبنان، و«حماس» في فلسطين، و«الحوثيين» في اليمن، و«الحشد الشعبي» في العراق، و«القاعدة» و«داعش» في سوريا والعراق. بالنسبة إلى هؤلاء، فإن الدولة ذات السيادة على إقليمها باتت تراثاً تاريخياً لا يكفي لتحقيق حلم الخلافة عندما تآلفت تنظيمات متطرفة لكي تقيم دولة مصطنعة على الحدود العراقية – السورية تحت اسم «دولة الخلافة الإسلامية».
الفواعل الدولية العنيفة والراديكالية كانت أساساً لتهديد الدولة الوطنية العربية حينما فرضت بقوة السلاح واقعاً يتجاوز فكرة «السيادة» التي تعطي للدولة الحق في فرض دستورها وقوانينها على إقليمها ومن فوقه من شعوب. «حزب الله» اللبناني أطاح تاريخاً طويلاً للدولة اللبنانية نحتت فيه تاريخاً «وطنياً» يعتز بالتاريخ اللبناني الفينيقي والخصائص الخاصة بالدولة اللبنانية المعاصرة القائمة على الانفتاح السياسي والثقافي والاقتصادي. ما فعله الحزب أنه فرض نفسه لمقاومة إسرائيل بحيث يخوض حروبها ويتجاوز الدفاع عن لبنان في حروب تعددت أجازت من ناحية «الخطأ في الحسابات» كما أقرّ الراحل حسن نصر الله رئيس الحزب؛ وانتهت بأن يكون هو «الربع المعطل» في السياسة اللبنانية فيصيب الدولة بالشلل والضعف الاقتصادي. «تنظيم حماس» أطاح مشروع الدولة الفلسطينية حينما دمَّر اتفاقية أوسلو التي كانت أول الطريق الفلسطيني للدولة من خلال إقامة أول سلطة وطنية فلسطينية على الأرض الفلسطينية في التاريخ شاملة الضفة الغربية وغزة. بعد القيام بعدد من العمليات الانتحارية لإفساد الاتفاق، فإن «حماس» حصلت من إسرائيل على دعم اقتصادي ومالي لكي تتخلص من السلطة الشرعية الفلسطينية وتمهد من وجهة نظرها لإقامة دولة فلسطينية صغيرة على أرض غزة.
في الإقليم العربي الشرق أوسطي، فإن الفواعل من غير الدول امتطت القضية الفلسطينية لكي تدمر الدولة التي تعيش فيها من خلال احتكارها أول القرارات التي تحتكرها السلطة السياسية للدولة، وهي قرارات الحرب والسلام. منذ مطلع القرن أصبحت الحروب الإقليمية ناجمة عن هذه الفواعل بعد ابتزازها للسلطات القائمة، وفرض الخوف عليها من الحرب الأهلية وانقسام الدولة إلى دول. جماعة «أنصار الإسلام» الحوثية لم تنقلب فقط على «الربيع اليمني» وإنما أكثر من ذلك فرضت على اليمن التقسيم لأكثر من دولة بعدما أدخلت نفسها إلى حرب دولية من خلال اعتراض التجارة الدولية في البحر الأحمر. وفي العراق وبعد حروب عدة قامت بها الدولة عندما شنت الحرب على إيران لثماني سنوات، ثم حرب صدام حسين لاحتلال الكويت ثم حرب تحريرها، ثم الحرب التي نجمت عن الغزو الأميركي للعراق، فإن حزمة من التنظيمات المسلحة، وفي مقدمتها قوات «الحشد الشعبي»، عبرت الكثير من الحدود بالتعاون مع إيران وإطلاق الصواريخ على إسرائيل من دون اعتبار للمصالح العراقية الخاصة بلمّ شمل الدولة الوطنية.
لحسن الحظ؛ أن هذا المشهد الشائع بالتفكك وتدمير الدولة الوطنية في المشرق العربي قابلته قدرات السير في «سكة السلامة» من قِبل الدول الوطنية في دول الخليج العربية الست؛ ونجحت مصر 30 يونيو (حزيران) 2013 في إطاحة حكم «الإخوان المسلمين»، وفي 2018 قضت نهائياً على الحركة الإرهابية التابعة لتنظيم «داعش» في سيناء، ونجح الأردن والمغرب في مواجهة ضغوط الفواعل من غير الدولة، وحدث كل ذلك بالتوازي مع مشروعات قومية للحداثة والتقدم للدولة الوطنية.