تعتبر الصناعة البترولية الروسية واحدة من الصناعات الهيدروكربونية الكبرى عالمياً، إلى جانب السعودية والولايات المتحدة، وهي من أقدمها. إذ بدأت هذه الصناعة في عهد روسيا القيصرية؛ حيث تم اكتشاف النفط بالقرب من باكو. وكانت الاكتشافات الأولى في جنوب روسيا في منطقة بحر قزوين (جمهورية أذربيجان حالياً)؛ حيث لعبت الشركات البترولية الأوروبية، بالذات شركة نوبل، دوراً مهماً في حينه.
عمّت البلاد في عهد روسيا القيصرية في مطلع القرن العشرين مظاهرات صاخبة واعتصامات عمالية مهمة إلى حين انتقال الحكم إلى نظام السوفيات (الحزب الشيوعي). ومن أجل إخماد استمرار الإضرابات العمالية في منطقة بحر قزوين، تم تعيين جوزيف ستالين مسؤولاً للحزب عن التنظيمات العمالية البترولية في منطقة بحر قزوين. إلا أن الأمر أثار الرعب لدى الشركات نظراً لسياساته القاسية المعروفة، فانتقلت عدة شركات أوروبية إلى رومانيا. لكن الإنتاج استمر من «باكو» ومن ثم حقول سيبيريا.
حدث تغيير جيواستراتيجي جذري مؤخراً للصناعة البترولية الروسية، مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية في 22 فبراير (شباط) 2022؛ حيث قاطعت أقطار السوق الأوروبية والولايات المتحدة إمدادات البترول الروسي، أو استقبال الناقلات الروسية في موانئها. نتج عن هذا الحصار عقوبات مالية صارمة على روسيا؛ حيث يشكل الريع البترولي جزءاً مهماً من موازنة الدولة، بالإضافة إلى الإخلال بعماد التجارة البترولية الروسية من منع التصدير بشبكة الأنابيب الغازية إلى أوروبا التي أسستها موسكو منذ عقد الثمانينات الماضي.
اضطرت الشركات الروسية للتنقيب عن البترول في مناطق جديدة لتبني طرق إمدادات متعددة تؤهلها لتفادي الحصار.
وعلى أثر الزيادة الضخمة لإنتاج النفط الصخري الأميركي في منتصف العقد الثاني من هذه الألفية، وقّعت روسيا اتفاقية تعاون مع منظمة «أوبك» فيما سمي «أوبك بلس»، ما فتح لروسيا دوراً لم يكن متوفراً لها سابقاً، قبل الانضمام.
وأدى الحصار الغربي بسبب حرب أوكرانيا في بداية هذا العقد إلى دفع روسيا إلى تبني سياسات بترولية جديدة توفّر لها الإمكانات لتفادي المقاطعة لصادراتها وحتى لاستقبال ناقلاتها.
فتحت هذه السياسة أسواقاً جديدة للبترول الروسي في الأقطار الآسيوية الكبرى، بالذات الصين والهند، لاستيعاب الإمدادات الروسية التي تم فرض الحصار عليها في أوروبا وبعض دول العالم الأخرى. وشكّلت الصين سوقاً رئيسة لموسكو، وكبقية الدول التي تعاملت مع نفوط دول «مقاطعة»، كإيران، حصلت الصين على خصومات لاستيرادها النفطي الروسي.
أدى التغيير الأهم في سياسة روسيا بعد فرض الحصار إلى تكثيف التنقيب عن البترول في القطب الشمالي. وكذلك استبعاد استعمال شبكة خطوط الأنابيب التي شيدتها روسيا إلى الأقطار الأوروبية منذ عقد الثمانينات، حتى الوصول إلى تسوية سياسية لحرب أوكرانيا قد تؤدي إلى انتهاء الحصار.
كانت نتيجة هذا التغيير في السياسة الروسية من عدم تصدير الغاز الطبيعي إلى السوق الأوروبية المشتركة، تهميش دور شبكة الأنابيب الغازية الضخمة والاستغناء مرغمة عن السوق الغازية الضخمة في أوروبا، الذي كان يشكل سابقاً عماد صناعة الغاز الروسية، إلى جانب الشبكة الداخلية الغازية الواسعة التي لا تزال تستعمل لتلبية الطلب الداخلي على الطاقة.
بدأت بالفعل الشركات الروسية، بالتعاون مع شركات بترولية دولية (توتال إنرجي) العمل معاً في القطب الشمالي قبيل فرض العقوبات، ومن ثم الانسحاب بعدها للالتزام بقوانين المقاطعة الأوروبية.
شكّل الاهتمام الروسي جزءاً من اهتمامات الدول المطلة على القطب الشمالي للتنقيب عن البترول والملاحة في الأوقات المناسبة للإبحار في مناطق القطب المجمدة. وقد شمل هذا الاهتمام كلاً من الصين والولايات المتحدة من خلال غرينلاند المطلة على القطب والنرويج بالتعاون مع شركات بترولية أوروبية وطبعاً روسيا.
بادرت شركة «نوفاتيك» الروسية بتطوير حقل «يامال» وتصدير الغاز المسال منه عبر منصة متخصصة لتسييل الغاز تم تشييدها في مياه الحقل نفسه، معتمدة على نقله بحراً إلى الأسواق العالمية عبر الناقلات المتخصصة من الموانئ القطبية المجاورة. كما شيّدت «نوفاتيك» أسطولاً من البواخر المتخصصة لشق الطريق عبر الجليد لنقل الغاز المسال بحراً إلى الأسواق العالمية.
وقد نُشر مؤخراً تقرير لمجموعة الموانئ الروسية يشرح الازدياد الكبير الحاصل في عدد الموانئ الروسية المطلة على القطب الشمالي والنمو الحاصل في نشاطها لفترة الثمانية أشهر الأولى لعام 2025، ذُكر فيه الآتي:
توفُّر نشاط متزايد في ميناء «مرمانسك»؛ حيث سجل نمواً متزايداً في العمل خلال الأشهر الثمانية الأولى لهذا العام يقدر بنحو 3.6 في المائة. وسجل مجمل نشاط هذا الميناء الواقع على «خليج كولا» نحو 41.5 مليون طن خلال الفترة المذكورة أعلاه. وتمثلت معظم البضاعة التي تم نقلها عبر الميناء في الفحم، والمواد الإنشائية والسلع المصنوعة من قبل المناجم وصناعة الحديد والصلب الإقليمية.
ويلاحظ التقرير أن ميناء «مرمانسك» سجل أعلى معدل لنشاطه في عام 2018، مقارنة بالسنوات الأخرى؛ حيث ارتفع نشاط الميناء إلى 60.7 مليون طن أو زيادة تقدر بنحو 18.1 في المائة عن عام 2017.
كما حقق ميناء «فاراندي» الذي يقع على ساحل «بحر بشارة» نشاطاً ملحوظاً خلال النصف الأول لعام 2019؛ حيث سجل حركة 4.8 مليون طن من السلع والبضائع، أو زيادة 6.6 في المائة زيادة عن عام 2018. هذا، وتملك شركة «لوك أويل» الميناء، وتديره لاستقبال نفوطها من حقل «تيمان» في «بحر بشارة».
وبحسب التقرير نفسه، فإن مجمل حجم البضاعة التي تم شحنها عبر موانئ روسيا الشمالية المطلة على بحر البلطيق خلال الأشهر الثمانية الأولى لهذا العام تقدر بنحو 69.8 مليون طن، الأمر الذي يشكل زيادة 19.4 في المائة عن الفترة نفسها من عام 2018.
شهد ميناء «أرخانجيلسك» الانخفاض الوحيد خلال هذه الفترة؛ حيث سجلت حركة البضاعة 1.8 مليون طن، بانخفاض نسبته 5.5 في المائة.