حرفيّاً، لا أحد في لبنان اطمأنّ للهجة “التبريد” التي اعتمدها الموفد الأميركي توماس بارّاك في زيارته الثانية للبنان. “نقّز” توماس حلفاء واشنطن، كما الجهات الموالية لـ”الحزب”. الفريق الأوّل لأنّ مبعوث دونالد ترامب لم يحمل “عصا أورتاغوس”، وتنصّل من الجداول الزمنيّة الضاغِطة تاركاً للّبنانيين “حلّ مسألة السلاح”، لكن بمهلة غير مفتوحة. والفريق الثاني لأنّ بارّاك لم يقدّم أيّ ضمانات في شأن لجم الاعتداءات الإسرائيلية والانسحاب، أو “صَبر” صديقه ترامب “الذي لا يمتلكه”. لكنّ ما بينهما، قدّم شهادة نموذجية في عمل الجيش اللبناني.
حَسَم الموفد الأميركي مسألة تسليم واشنطن “ردّها” على الردّ اللبناني، في شأن ورقة العمل التي قدّمها في زيارته الأولى في 19 حزيران، من خلال السفيرة الأميركية في لبنان ليزا جونسون من دون تحديد موعد زمني. لذلك بدأت منذ الآن تُطرح التساؤلات: هل زيارته الثالثة للبنان ستكون حاسمة وفاصلة عن “مرحلة التخلّي” الأميركي عن لبنان، في حال لم يُقدّم حلولاً أكثر عملانيّة في شأن السلاح؟
ردّ بارّاك نفسه، في حديث تلفزيوني قبل مغادرته بيروت، على هذا التساؤل بقوله: “أستطيع أن أؤكّد أنّه سيكون هناك خرق (في زيارتي المقبلة). لكن هل يكون اختراقاً يُرضي كلّ الفئات اللبنانية؟ هذا الأمر بمنزلة معجزة. ما أودّ قوله، التزامنا واضح، وسندفع هذا الملفّ إلى نهايته. على الرغم من كلّ الدراما التي تحيط بنا، أنا أؤمِن بأنّ الجميع مستعدّ لذلك (للحلّ)”.
بارّاك:عمل الجيش مُذهِل
عمليّاً، لا تقلّ “الإطلالة الجنوبيّة” للموفد الأميركي، واجتماعه مع قائد الجيش العماد رودولف هيكل، أهمّية عن لقاءاته السياسية مع الرؤساء الثلاثة، التي اختصرها بموقف لافت، قبل مغادرته بيروت، أكّد خلاله أنّ “ما فعله الجيش اللبناني جنوب الليطاني منذ توقيع الاتّفاق مذهل، على الرغم من أنّ اتّفاق وقف إطلاق النار لم يُعطِ ثماره”.
، تؤكّد أوساط مطّلعة لـ”أساس” أنّ “الموقف الأميركي الحالي من اتّفاق وقف إطلاق النار الذي، برأي الإدارة الأميركية تمّ انتهاكه من قبل إسرائيل و”الحزب”
بارّاك الذي أكّد في تصريح لصحيفة “نيويورك تايمز” في 3 تمّوز بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار “كان فاشلاً تماماً”، أشار إلى هذه النقطة في تصريحه من قصر بعبدا، حين قال إنّ “اتّفاق وقف إطلاق النار والآليّة الناتجة عنه لم يترافقا مع ضمانات أمنيّة أميركية”، مشيراً إلى أنّ “الآليّة (mechanism) ربّما لم تنجح، لأنّ عناوين الهدنة لم تكن كافية لتغطية التفاصيل، وما تقوم به حكومتكم اليوم هو ملء الفراغات”.
بارّاك
مع ذلك سأل عن “الثغرات” في الاتّفاق في كلّ لقاءاته التي عقدها مع المسؤولين اللبنانيّين و”كيفيّة سدّها”، في تمسّك واضح بالآليّة المنبثقة عنه (لجنة مراقبة وقف الأعمال العدائية)، ومن إحدى ترجماتها “شهادته” في عمل الجيش.
لجان مورغان
في هذا السياق، تؤكّد أوساط مطّلعة لـ”أساس” أنّ “الموقف الأميركي الحالي من اتّفاق وقف إطلاق النار الذي، برأي الإدارة الأميركية تمّ انتهاكه من قبل إسرائيل و”الحزب”، بعكس وجهة النظر الرسمية اللبنانية التي تحمّل إسرائيل وحدها مسؤوليّة إفشاله ومنع الجيش من استكمال انتشاره، والذي يَعكِسه راهناً توماس بارّاك لم يتبنَّ المشروع الذي روّجت له مورغان أورتاغوس بإنهاء مهامّ “لجنة المراقبة الخماسية”، ودفنها، ومطالبتها بتشكيل ثلاث لجان مدنية-عسكرية للتفاوض مع إسرائيل”.
يومها قوبل هذا الاقتراح بردّ فوريّ من رئيس الجمهورية جوزف عون “بعدم وجود أيّ مبرّر لتشكيل لجان في شأن الأسرى والانسحاب من المواقع الحدودية المحتلّة، ما دام لبنان ليس لديه أسرى إسرائيليون، وغير محتلّ لأراضٍ إسرائيلية”.
حرفيّاً، لا أحد في لبنان اطمأنّ للهجة “التبريد” التي اعتمدها الموفد الأميركي توماس بارّاك في زيارته الثانية للبنان
أكثر من ذلك، عزّزت الإدارة الأميركية الـ mechanism بـ “جنرالين” بعد تعيين الجنرال الأميركي مايكل ليني على رأس اللجنة كـ”قائد عسكري رفيع بدوام كامل في بيروت لمواصلة العلاقة القويّة بين الجيشين اللبناني والأميركي”، كما قالت السفارة الأميركية في بيان أصدرته، مؤكّدة يومها أنّ “الجنرال غاسبر جيفرز سوف يبقى مُهتمّاً بلبنان، فيما يقوم بدوره كقائد لقوّات العمليّات الخاصّة الأميركية في بلاد الشام والخليج العربي وآسيا الوسطى”.
“إنعاش” الاتّفاق
الرفض الرئاسي يومها لاقتراح أورتاغوس، القائم على إحالة “آليّة المراقبة” إلى التقاعد، واستبدالها بالتفاوض مع إسرائيل، ربّما قام على أساس قناعة بأنّ من أرسل أورتاغوس إلى لبنان هي “المنظومة” التي كانت لا تزال تؤثّر في الإدارة الأميركية قبل أن يتحكّم دونالد ترامب بكلّ مفاصلها، والدليل أنّ ترامب نفسه لم يكن من مؤيّدي تسليمها هذه المهمّة من ضمن فريق ستيف ويتكوف إلى الشرق الأوسط.
هي المنظومة نفسها التي واكبت إعلان قرار وقف إطلاق النار في 26 تشرين الثاني الماضي، وإطلاق عمل لجنة المراقبة، فيما بارّاك اليوم هو الموفد الشخصي للرئيس الأميركي. ومع تكرار بارّاك سؤاله للقيادات اللبنانية عن الواجب فعله لسدّ ثغرات الاتّفاق، كان يُحاول وضع لمسات ترامب الشخصية على عمل اللجنة.
جواب موحّد
في المقابل، سَمِع توماس بارّاك جواباً موحّداً من الرؤساء الثلاثة حول هذا الأمر: “الاحتلال الإسرائيلي هو السبب الأوّل لفشل الاتّفاق. ومن غير الممكن الانتقال إلى حالة الاستقرار، وتمهيد الطريق أمام سحب السلاح بشكل نهائي من دون انسحاب إسرائيل، ووقف اعتداءاتها التي تطال كلّ لبنان”.
لاحقاً، رَصَد توماس بارّاك، بعد لقائه قائد الجيش، وجولته يوم الثلاثاء في الجنوب وسط إجراءات أمنيّة استثنائيّة، برفقة أعضاء لجنة مراقبة وقف الأعمال العدائية، وطاقم كبير من السفارة الأميركية، بالعين المجرّدة حجم الأعمال المُحقّقة جنوب الليطاني ومعاينة ما قام به الجيش اللبناني، بالتنسيق مع اللجنة ومن ضمنها “اليونيفيل”.
بارّاك الذي أكّد في تصريح لصحيفة “نيويورك تايمز” في 3 تمّوز بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار “كان فاشلاً تماماً”
خلاصات ميدانيّة
يقول مطّلعون إنّ بارّاك غادر بيروت بخلاصات ميدانيّة مفادها:
– التزام الجيش والدولة اللبنانية الاتّفاق، على الرغم من أنّ المساعدات الموعودة لم تصل بعد. المؤكّد هنا، وبالوقائع، أنّ الجيش يقوم بمهامّه باللحم الحيّ، وبالمتوافِر، بموجب قرار من القيادة العسكرية وبالتنسيق مع أعضاء الـ”ميكانيزم”. وهي مهامّ بدأت تتوسّع شمال الليطاني، وفي الضاحية والبقاع.
– يعود بارّاك مع لائحة من الطلبات اللبنانية في ما يخصّ تدعيم الاتّفاق، وعلى رأسها الضغط لدفع إسرائيل للانسحاب ما يُسهّل كثيراً عمل الجيش على الأرض، ويوسّع بقعة انتشاره على كامل جنوب الليطاني.
– عاين توماس بارّاك عن قرب حجم الدمار الهائل جنوباً (تحدّث لاحقاً عن تأثّره به)، وقدرات الجيش في التحرّك وتنفيذ المهامّ بروح عسكريّة عالية واحتراف وسط التعقيدات القائمة والقدرات العسكرية المحدودة، وهو الأمر الذي دفعه إلى إجراء سلسلة اتّصالات خلال وجوده في لبنان مع بعض المعنيّين للتعبير عن “ذهوله” بعمل الجيش، ثمّ إعلان ذلك خلال لقاء تلفزيوني.
– تسنّى للمرّة الأولى لمسؤول أميركي كبير معاينة واقع أنّ “الجيش اللبناني هو اليوم الممثّل الوحيد للدولة جنوب الليطاني”، استناداً إلى وقائع وأرقام ومعطيات، وبشهادة أعضاء اللجنة أنفسهم، وفي ظلّ غياب شبه تامّ للوزارات المعنيّة.
إقرأ أيضاً: من “خطف الأنفاس” إلى “التقاط الأنفاس”: بارّاك راجع؟
هو واقع قاد توماس بارّاك، برأي مطّلعين، إلى التفتيش عن الثغرة التي يُفترض أن تقود إلى ترجمة نموذج جنوب الليطاني على كامل الأراضي اللبنانية لجهة حصر السلاح، بالتزامن مع الانسحاب الإسرائيلي. لكن في شأن إلقاء المسؤوليّة على الحكومة في وضع خارطة طريق لسحب السلاح، وتحقيق ذلك من خلال قرار صادر عن مجلس الوزراء، إذا “وصلنا إلى الإجماع عليه”، قال: “لديكم نظام طائفي يتطلّب الإجماع. كلّ الحوارات تتمّ داخل هذا الإطار. نحن فقط نحترم هذه العمليّة”.