الكلاب والمعادل الموضوعيّ
من التناقضات الذكيّة في التعبير اللغويّ أن نفسّر المركّب والمجرّد المعقّد بما هو أصغر وأبسط وأيسر. وقد تتمظهر هذه التناقضات في آليّات بيانيّة كثيرة على نحو ما نراه في القرآن الكريم بوفرة. ولعلّ مفهوم المعادل الموضوعيّ هو أعمق هذه الآليّات وأقدرها على التفسير. تعظم الحاجة إلى المعادِل الموضوعيّ في الأدب بصفة عامّة حين يتّسع العالم الخارجيّ ويضخم إلى حدّ يتعذّر على الكاتب أن يعبّر عنه بعمق بغير معادِلٍ موضوعيّ يعدله أو يمثّله ويُيسّر فهمه.
قرأت رواية “ملجأ الكلب السعيد” للأديب الفلسطينيّ سهيل كيوان الصادرة عن مكتبة كلّ شيء- ناشرون في حيفا بصيغتها الأولى عام 2023 وكتبت عنها مقالًا مُسهبًا. وقرأتها بصيغتها الثانية التي صدرت عام 2024. قرأت وقارنت بين الصيغتين. قرأت بهدوء واحترام، مثلما يليق بالرواية، بدون أن تصيبني متلازمة الرهبة من النصّ الأدبيّ أو التورّط في رُهاب النصّ الأدبيّ. وهو ما يعني المبالغة في تفخيم النصّ الأدبيّ وتضخيمه إلى حدّ يفضي إلى فائض تأويل لا يطيقه النصّ نفسه. و”شكوى” إسحاق موسى الحسينيّ من فائض التأويل الذي “عانت” منه روايته القصيرة “مذكّرات دجاجة” معروفة للقاصي قبل الداني. وهكذا وجدتُني في هذا المقال أؤدّي وظيفة ميتا نقديّة حيويّة لطيفة أسعى بها إلى تبسيط النقاش وتسليط مزيد من الضوء على جانب كنت أغفلته في المقال السابق.
قد تكون الكلاب في الأصل جزءًا عضويًّا من مادّة الواقع الذي عاشه سهيل كيوان نفسه وتقاطعت معه في تجربة حقيقيّة قبل أن ينقلها إلى الرواية. بصرف النظر عن مرجعيّة الكلاب، ليس الحديث في هذا المقال عن عضويّتها في الواقع وحقيقة انتمائها إليه وإنما عن وظيفيّتها الأدبيّة الجماليّة. وما كانت هذه الكلاب لتحظى بهذه الوظيفة الأدبيّة إلا لكونها حالة هامشية أو مُهمّشة في الواقع. ما يفعله سهيل كيوان هو نقل هذا المُعطى من قاع الواقع وترقيته ورفعه إلى محلّ الحلّ والربط في الرواية. العلاقة بين العرب واليهود عمومًا مركّبة متشعّبة متحرّكة غير ثابتة معقّدة تتقاطع فيها وتصطدم تناقضات ومفارقات يصعب إدراكها واستيعابها. فيأتي سهيل كيوان بالكلاب لكي تكون معادلًا موضوعيًّا تُعادل الشخصيّات الآدميّة وتساعد في تبسيط ما تعقّد وتمثيل ما تجرّد… والسؤال الآن كيف ولماذا؟
من تأريخ الأدب إلى تأديب التاريخ
لا شكّ في أنّ رواية سهيل كيوان ذكيّة ومُثقّفة بالتحتانيّة والفوقانيّة. وقد يتحصّل ذكاؤها في قدرتها على الانتقال السلس من فعل تأريخ الأدب إلى فعل تأديب التاريخ على نحو ما سأبيّن لاحقًا. الأول فعل توصيف وتعزيز وتمكين، يرى في النصّ الأدبيّ مدوّنة تأريخيّة وظيفته ضخّ المزيد من الوثائق والقرائن التاريخيّة ومُراكَمتها وأرشفتها على نحوٍ يُعزّز السرديّة الفلسطينيّة العامّة ويُمكّنها. وما أكثرها في الأدب الفلسطينيّ عمومًا. والثاني فعل تفسير وتأويل، يرى في النصّ الأدبيّ فرصة لاقتراح موقف خاصّ أو وجهة نظر جديدة لا تخلو من استفزاز للواقع والتاريخ وتحرّش بالسرديّة المُهيمنة. ولتحقيق هذه الغاية يجمع سهيل كيوان بين الناس والكلاب ويُساوي بينهم في حالة جروتيسكيّة ذكيّة. ما يعني أن تصير الكلاب مُعطى حاسمًا في تمثيل الشخصيّات الآدميّة في الرواية من عرب ويهود وبيان التوتّرات والتفاعلات بينهم. كما لو كانت هذه الشخصيّات الآدميّة عاجزة عن التعبير إلا من خلال تمثيلها بتجارب كلبيّة إن صحّ التعبير. في الرواية إذًا حبكتان تتوازيان وتتقاطعان: حبكة الناس، من عرب فلسطينيّين ويهود وافدين من دول مختلفة، وحبكة الكلاب. حبكة الكلاب هي المعادل الموضوعيّ لحبكة الناس. أعني أنّ الكلاب في الرواية هي الصيغة الفنّيّة للتعبير عن مشاعر الناس وأفكارهم وقيمهم وأخلاقيّاتهم. لولا الكلاب لكانت الرواية توليفة مُثيرة من مشاهد واقعيّة ومواقف تاريخيّة انتقاها الكاتب بعناية ليصوغ منها صورة عامّة لوضعيّة الأقليّة الفلسطينيّة في إسرائيل. أعني أنّ إقحام الكلاب في فعل التنصيص هو المادّة التي يحاول الكاتب بها تأديب التاريخ. وتأديبه يعني تحويله من حالة واقعيّة معيشة إلى حالة أدبيّة جماليّة لا تُدرك إلا بتفعيل الوعي.
في الرواية مثالان صارخان على تأريخ الأدب وتأديب التاريخ. الأول في باب “احتياطًا للأمر” (126-128)، والثاني في باب “باب العمود” (115-119). وكلاهما من الفصل الحادي عشر. وما أحدث الفرقَ العميق بين هذين البابين هو غيابُ الكلب عن الأول وحضوره في الثاني. في المثال الأول فعلُ نسخٍ ولصق، تسجيل للواقع بالفعل وتوثيق صريح للتاريخ كما هو، كما حدث بالضبط بدون أيّ تدخّل. وهو إحالة إلى حادثة إطلاق النار على يعقوب أبو القيعان عام 2017. وهي حادثة أُضيفت إلى الصيغة الثانية للرواية. هذا الباب إذًا مثال نموذجيّ على تأريخ الأدب حسب التقاليد والأعراف الأدبيّة المُتداولة. وفي المثال الثاني يُزجّ الكاتب بحادثة إعدام الشابّ المقدسيّ المتوحّد إياد الحلّاق في شهر أيار/ مايو عام 2020. والقصّة معروفة للقاصي والداني. إضافة الكلب إلى الرواية في حادثة إعدام إياد الحلّاق، الذي لم يكن في الواقع التاريخيّ، مثالٌ قويّ على تأديب التاريخ. وهي إضافة قد قُصدت لتمنح المشهد الروائيّ عمقًا وقوّة دلاليّة. تشخيص الكلب الذي أضافه سهيل كيوان إلى هذه الحادثة يخدم وظيفته الأدبيّة بالضرورة. فهو جرو “لا يُشكّل أيّ خطر حتى على رضيع، فهو من نوع براغ راتر، طوله حوالي 20 سنتيمترًا، ولا يزن أكثر من أربعة كيلو غرامات” (121). إذا كان أطلقوا النار عليه بادّعاء أنه شكّل خطرًا على الجنود فكيف يقتل الجنديّ إيغور كلبًا صغيرًا أعرج لا يكاد يلحق بصاحبه إن لم يكن إيغور هذا قاتلًا بالفطرة؟ والكاتب يُوظف آليّتين لسفالة إيغور هذا: التقرير والتصوير. لم يتردّد الكاتب في ترسيم ظلاميّة هذه الشخصيّة بوسائل تقريريّة أبرزها القول المُباشر حتى جعل القارئ يكرهه قبل أن يرى منه ما يعيب بالفعل (114).
جيمس جويس رائد الحداثة الأدبية الذي فتح آفاقًا جديدة في دراسة عملية الإبداع من خلال مسوداته ومخطوطاته (Getty)
فجاء التصوير لِيُؤكّد القول بالفعل. وهكذا وضعه الكاتب في موقف يُبرهن بالقرينة على سفالته حين أطلق النار على زياد وقتل كلبه قبله (118-119). هذا الكلب الصغير الأعرج المُضاف إلى الرواية استطاع أن يُحوّل الحدث التاريخيّ إلى حالة جماليّة أدبيّة أقوى من الواقع وأعمق. بإضافته استطاع سهيل كيوان أن يتحوّل من مؤرّخ، ينقل الواقع “بموضوعيّة وحياد وتجرّد”، إلى أديب يُعيد صياغة التاريخ بموقف حادّ. هكذا لم تكتف الكلاب عمومًا بتلطيف فعل القراءة في نصّ واقعيّ تاريخيّ بل ساهمت في تبسيط تعقيدات الواقع وتيسير فعل القراءة وتعميق الطاقة الدلاليّة.
“الكلاب في الرواية تُساهم في تخفيف سطوة الواقع الحقيقي عبر إضافة عمق رمزي وتُقربها من حدود الواقعيّة السحريّة التي اعتُمدت في أدب أميركا الجنوبيّة”
الموقف الذي يُؤكّده سهيل كيوان بتأديب التاريخ، الذي تحصّل بإضافة كلب بتوصيف مقصود، لا يتّصل بالإحداثيّات التاريخيّة نفسها، التي أحاطت بحادثة إعدام الشاب المتوحّد إياد الحلّاق، بل بالمُصاحبات الجينيّة الفطريّة البنيويّة للتفكير الصهيونيّ نفسه الذي يُمثّله الجندي إيغور في هذا المشهد بصفة تطبيقيّة إجرائيّة. يقول سهيل كيوان بتأديب التاريخ إن من يهن عليه قتل جرو كلب أعرج أو تركه ورميه وتهجيره والتخلّص منه وإعدامه بشكل “قانونيّ” مُمأسس يهن عليه قتل إنسان. وهكذا يقتل إيغور الجرو الأعرج “صاحبك” لأنّ صفة القتل جزء من ثقافته ومُعتقده. والاسم “صاحبك” يحمل دلالتين مُتلازمتين: على مستوى الحقيقة، هذا الاسم هو فعل مُصاحبة بين زياد/ إياد والكلب بما يحمله الفعل من دلالات الشراكة والتعاطف والتعامل الرقيق اللطيف مع الحيوان. على مستوى المجاز، المُصاحبة تُؤكّد العلاقة الرمزيّة بين الإنسان والحيوان. أعني أنها تُشدّد على الدور الذي يضطلع به الكلب كمعادل موضوعيّ لزياد/ إياد نفسه بما تحمله من دلالات التماثل والتشابه في وحدة المصير والتماهي بين ضعيفين مُستضعفين والتشرّد واللجوء. مُقارنة عاجلة لاهثة بين البابين، إعدام يعقوب أبو القيعان وإعدام إياد الحلّاق، تُظهر بوضوح الفرق بين قوّة البابين. الأول تأريخ والثاني تأديب قد تحصّل بإضافة كلب إلى التاريخ. لم يرتق الأول إلى قوّة الثاني. ولو أنه أضاف كلبًا آخر إلى حادثة قتل يعقوب أبو القيعان لكان أعمق وأفضل.
الكلاب في الرواية تُساهم في تخفيف سطوة الواقع الحقيقيّ عبر إضافة عمق رمزي غير مُعقّد إلى الرواية وتُقرّبها من حدود الواقعيّة السحريّة التي اعتُمدت كثيرًا في أدب أميركا الجنوبيّة. تماهي الشخصيّات العربيّة مع الكلاب في الرواية مردود إلى التشابه في الحالة العامّة ووحدة المصير مثلما أشرت. في الفصلين الختاميّين في الرواية تُذكر لفظة “مصير” مرّتين في سياق الحديث عن الكلبة كليلة/ فورتونا. وليس في الأمر أيّ مُصادفة. حتى وإن لم يكن الكاتب، في قرارة نفسه، واعيًا لتفاصيل ما أقول إلا أنّ عقله اللاوعيّ العميق يظلّ يقظًا يترك أثره على فعل الكتابة. واللفظة مثلما نعلم مسحوبة من عمق الحقل الدلاليّ السياسيّ الفلسطينيّ. يغلب على مجمل العلاقات بين الشخصيّات العربيّة والكلاب في الرواية نوعٌ من الألفة ووحدة الحال. حين تُدافع الشخصيّات العربيّة “الإيجابيّة” بفطرتها السويّة عن الكلاب إنما تُدافع عن ذاتها القلقة المُهدّدة باستمرار بالتهجير والاقتلاع والتصفية.
صحراء النقب حيث تتحول الجغرافيا إلى مسرح للصراع والذاكرة الجماعية (Getty)
لو انتقلنا إلى باب “في الشيخ جرّاح” (ص 281 – 282)، في الفصل السادس والعشرين، لوجدنا مشهدًا نموذجيًّا يُؤكّد التنافر الحادّ بين نظرة كلّ من العربيّ والإسرائيليّ إلى الكلب على المسار الرمزيّ المجازيّ. وليس الحديث هنا بطبيعة الحال عن مُعادلة الخير والشرّ بمعناها التقليديّ الساذج. هي ليست مُقارنة صبيانيّة بين القلوب، بين قلب إيغور وقلوب الشباب المقدسيّين. ليس المشهد لقياس منسوب طيبة القلب والرحمة عند الطرفين. هذا المشهد كلّه لبيان أمرين موصولين بشخصيّة الكلب وحضوره المُؤثّر على مجريات الأحداث: بيان طبع الصهيونيّة التي جاءت إيغور إلى فعل القتل من حيث يُدرك أو لا يُدرك. وبيان طبع المقدسيّين الذين تجاوزوا عمّا فعله صالح “الجنديّ” من خطأ أو خطيئة بفضل كلب، وامتنعوا عن حرق سيّارته لأنّ فيها كلبًا بريئًا لم يرتكب إثمًا ولا جُرمًا… مثلهم بالضبط. نجا صالح بفضل كلب، وزياد لم يُسعفه “صاحبك” الكلب ولاقى المصير نفسه! هذا فصلُ تزكيةٍ وتطهيرٍ لصالح الذي أنقذه الكلب والذي حمله هديّة لأسرة زياد. وهو بنفس القدر تطهيرٌ للشباب المقدسيّين الذين نجوا في اللحظة الأخيرة من دم بريء!
من يقتل كلبًا يقتل إنسانًا. ومن يُشرّد كلبًا يُشرّد شعبًا، يترك شعبًا للضياع والمصير المجهول. لم تجد الكلبة الحامل، التي تركها إيلي وريتا لمصيرها بالقرب من بلدة الكرمة/ مجد الكروم، إلا ديار الأستاذ نجم وزوجته رندا تستجيرهما وتحطّ عندهما الرحال. وهكذا كان. أحسن الأستاذ نجم إيواءها وأكرم وفادتها بما لها من حقّ الطنابة عليه. وما بدأ على شكل إيواء قسريّ أو احتلال بدون استئذان، وما صاحبه فيما بعد من تذمّر رندا الذي لم ينقطع، انتهى بتعلّق عاطفيّ شديد جارف مُؤثّر عند نهاية الرواية. وقد عبّرت الأسرة كلّها بدموع عينيها الصادقة عن هذا التعلّق المصيريّ. وهو مرّة أخرى، تعلّق رمزيّ بالضرورة ينهض على معيارين اثنين: معيار المُشابهة والمُماثلة ووحدة الحال ومعيار الأحقّيّة.
المسوّدة وتغيير مركز الثقل
الموضوع أكبر من سعة مقال مهما طال وأكبر من قدرته على استيعابه بكلّ تفاصيله. قضيت سنة سبتيّة كاملة في جامعة لندن (SOAS) عام 2002/ 2003. وهناك في مكتبة الجامعة بحثت عن مسوّدات لنصوص أدبيّة. لأسفي الشديد لم أجد إلا مسوّدات رواية “يقظة فينغان” لجيمس جويس. والعمل التفصيليّ التطبيقيّ على هذه المسوّدات متروك لدارسي الأدب الإنكليزيّ. هم أولى منّي بها.
“من يقتل كلبًا يقتل إنسانًا. ومن يُشرّد كلبًا يُشرّد شعبًا، يترك شعبًا للضياع والمصير المجهول – هكذا يُؤكد الكاتب العلاقة الرمزية بين معاناة الكلاب ومعاناة الشعب الفلسطيني”
غير أني كتبت مقالًا نظريًّا عن سيميائيّة المسوّدة الأدبيّة نُشر في مجلّة (Semiotica) المعروفة وهو ما يُوجّهني في كتابتي الآن. قرأت الصيغتين ودوّنت الفروقات بينهما في جدولة إجرائيّة مُمنهجة. الأولى مسوّدة الثانية. على العموم، كلّ تغيير في النصّ اللغويّ، بصرف النظر عن حجمه وعمقه ومداه، لا بدّ من أن يُؤثّر على المعاني ثم الدلالات التي تنبني عليها، بالضرورة لا بالمشيئة.
قبل البدء بالتفاصيل أُذكّر بأنّ الأدب الفلسطينيّ مُثلّث مُتساوي الأضلاع لا تجوز المُفاضلة بين أضلاعه. كلّ ضلع منها تُؤدّي في موقعها وظيفة محكومة بسلطة السياق وسطوته. الضلع الأول، الأدب الفلسطينيّ في إسرائيل، مشغول باستمرار بتفاعلات العلاقة وتوتّراتها بين الأقليّة العربيّة الفلسطينيّة والأكثريّة الإسرائيليّة الصهيونيّة وما تُفرزه من مُصاحبات ومُلاحق مفصليّة في كلّ المجالات المعرفيّة والحياتيّة. ولذلك لا بدّ أن يكون الموتيف المحوريّ في هذا الضلع موصولًا إذًا، بصفة مُباشرة، بمعاني البقاء وسطوة المُلاحقة والتفرقة العنصريّة وطمس الهويّة. الفروقات بين الأعمال الأدبيّة في هذا الضلع ناتجة بالضرورة عن تغييرات في مركز الثقل في هذه التفاعلات. الضلع الثاني هو الأدب الفلسطينيّ في المناطق المُحتلّة عام 67 وأكبر همّه التحرّر من سطوة الاحتلال والقهر والقمع والاستيلاء على الأرض. أمّا الضلع الثالث فهو الأدب الفلسطينيّ في المُهاجر والشتات وهو مشغول بموتيفات أدب المنافي التقليديّة المعروفة كالحنين والعودة والهويّة والانتماء وسطوة النفي والهجرة والعلاقات المُركّبة بين الضيف والمُضيف… هكذا إذًا لا تصحّ المُفاضلة بين موتيفات البقاء والتحرّر والعودة لأنها كلّها تلتقي في مصب واحد رغم اختلاف المشارب والمسارب.
رواية سهيل كيوان نموذج تمثيليّ جيّد لما نُسمّيه “أدب أقلّيّة” (Minor Literature) مثلما قعّده كلّ من Gilles Deleuze وFelix Guattari قبل عقود. الفصل الحادي عشر (ص 108 – 128) هو فصل مركزيّ في الرواية. عليه أجرى الكاتب تعديلات وتغييرات مفصليّة من إضافات ومحو وإعادة ترتيب وتقديم وتأخير. ولعلّ أبرزها إضافة واقعة إطلاق النار على يعقوب أبو القيعان من التجمع البدويّ في النقب “أمّ الحيران” عام 2017 إلى الباب “احتياطًا للأمر”، ثمّ أخّر الباب كلّه إلى آخر الفصل الحادي العشر (ص 126-128)… هذا تغيير مُضاعف. الفصل الحادي عشر في الصيغة الأولى (2023) من أربع عشرة صفحة (ص 102 – 116) في تسعة أبواب قصيرة. الباب الأول “خدمة العلم” والباب الأخير “البسّة تاكل عشاه”. في الصيغة الثانية (2024) الفصل الحادي عشر من عشرين صفحة (108 – 128)، بزيادة ستّ صفحات عن الصيغة السابقة، في تسعة أبواب كسابقتها. الباب الأول “فليذهبوا إلى غزّة…” والباب الأخير “احتياطًا للأمر”. التغييرات التي أجراها سهيل كيوان على روايته كانت فعلًا محسوبًا مدروسًا بدقّة. ولا يُمكنه بأيّ حال أن يكون اعتباطيًّا. هذه حقيقة لا يستطيع أن يُماري فيها أحد ولا حتى الكاتب نفسه. وكلّ هذا التغيير المُزدوج في البنية الرواية وتشكيلها هو لإحداث تغييرات في زاوية الرؤية الأيديولوجيّة للرواية. لا شكّ في أنّ هذه التغييرات جاءت لتُعيد ترتيب العلاقات بين الهامش والمركز، وتُسلّط الضوء على ما ترتكبه السلطة الإسرائيليّة من جرائم المُصادرة وهدم البيوت وقتل أصحابها أو تهجيرهم. وهي في المُقابل تقوم بإعادة انتشار الشخصيّات وتغيير مواقعها وأدوارها بحيث تتساوق أو تتناغم مع التبئيرات الجديدة. تضخيم جرائم السلطة لا بدّ من أن يُصاحبه تفعيل مُختلف لشخصيّة صالح بعد أن رأى وسمع وشاهد وشهد. لا بدّ لهذه التغييرات إذًا من أن تمنح شخصيّة صالح دورًا مركزيًّا أكبر ممّا كان عليه في الصيغة السابقة. صالح في الصيغة الجديدة يضطلع بوظيفتين الإغلاق والاختتام. والإغلاق يعني انتهاء الحدث في موضع لا مجال عنده للتغيير. صالح هو آخر من يُغلق الباب وراءه في هذا الفصل. والاختتام يعني الحسم والجزم في الموقف. بعد ما رأى صالح بأمّ عينيه قتل إسماعيل/ يعقوب، رأى وشهد وشاهد وسمع وأحسّ، كيف بعد هذا يُجدّد عقده مع حرس الحدود؟! صالح هو سعيد المُتشائل، بل هو الصيغة الجديدة للتشاؤل. صيغة تُربكها الحاجة والعوز فتبحث عن العسل في قفا الدبور، لكن في النهاية تغلبها الفطرة السويّة المُنحازة للحقّ والخير والعدل.
*ناقد وأستاذ جامعي من فلسطين.
شارك هذا المقال