في ظلال كهف جاسنة، في جبال السليمانية الوعرة، وقف مقاتلون ومقاتلات في صف طويل ليلقوا بأسلحتهم، تباعا، في حاوية معدنية.
كان يمكن سماع صوت اصطدام الحديد بالحديد عندما يرمي أحدهم بندقيته في الحاوية، بينما اختلطت الدموع والهتافات بهسيس اللهب الذي راح يلتهم أسلحتهم بعد سنين طويلة من القتال.
في مراسم رمزية، جرت الجمعة في إقليم كردستان العراق، أحرق 30 مقاتلا ومقاتلة من حزب العمال الكردستاني التركي (PKK) بنادقهم وأحزمتهم العسكرية كموشر إلى انطلاق خطوات عملية السلام بين الحزب وأنقرة.
في البداية، تقدمت الرئيسة المشتركة للمجلس التنفيذي لمنظومة المجتمع الكردستاني “بسي هوزات” يتبعها ثلاثة قياديين آخرين؛ رموا بنادقهم في النار، ثم تقدم المقاتلون الآخرون في المجموعة التي أطلقت على نفسها اسم “مجموعة السلام والمجتمع الديمقراطي”.
بكى بعض المقاتلين من دون أسلحة، وبدت واضحة ملامح الحزن على وجوه الآخرين أثناء المراسم.
“عاش آبو” هتفوا تمجيدا لزعيم الحزب، عبدالله اوجلان المعتقل في تركيا منذ عام 1999.
أن يحضر قيادات “العمال الكردستاني” ومقاتلوه مناسبة علنية من دون أن تستهدفهم القوات التركية، حدث غير مسبوق على الإطلاق.
بعد حرق الأسلحة عادوا المقاتلون إلى الجبال؛ أي لم يسلموا أنفسهم إلى السلطات التركية.
وعلمت “الحرة” مع مقربين للحزب في الإقليم أن “الاتفاق يركز على نزع السلاح بأسرع وقت دون تسليم المقاتلين أنفسهم”.
و”سيعمل حزب المساواة وديمقراطية الشعوب خلال الفترة القادمة على توفير الظروف اللازمة قانونيا وأمنيا لعودة المقاتلين إلى مدنهم وإعادة دمجهم في المجتمع”.
وستستمر عملية التخلي عن السلاح حتى نهاية العام 2025.
يلي ذلك تسليم المقاتلين أنفسهم، وتدشين مرحلة جديدة للسلام تتضمن تشكيل حزب سياسي جديد يمثل الأكراد في تركيا.
وتعقيبا على الحدث، قال متحدث حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، عمر تشليك، في تغريدة على منصة (X): “تجاوزنا مرحلة حاسمة لتحقيق هدف تركيا خالية من الإرهاب. بعد ذلك، يجب إتمام عملية حل تنظيم PKK بجميع فروعه وهياكله غير الشرعية، وحرق أسلحته وتسليمها في أقرب وقت”.
سلاح PKK وإقليم كردستان
تمتع حزب العمال الكردستاني التركي المعارض لأنقرة على مدى 40 عاما الماضية بوجود قوي في العراق، حول إقليم كردستان إلى ساحة مفتوحة لمعاركه مع الجيش التركي.
نفذ الجيش التركي 1678 هجوما وقصفا على أراضي إقليم كردستان خلال الأشهر الستة الأولى من العام الحالي فقط، وأسفرت هذه العمليات عن مقتل 3 مدنيين وإصابة 6 آخرين بجروح، تقول منظمة فرق صناع السلم المجتمعي (CPT) الأميركية، في إحصائية حصل موقع “الحرة” على نسخة منها.
ووفق احصائية المنظمة، قتل وأصيب 721 مدنيا في إقليم كردستان منذ يناير 1991، وحتى مايو 2025 إثر القصف والعمليات العسكرية التركية ضد مقاتلي PKK.
وأشار خبير العلاقات الدولية، حسن أحمد مصطفى، في تصريح لـ”الحرة” في مايو الماضي، إلى أن قرار حزب العمال الكردستاني حل نفسه في مؤتمره الثاني عشر، يمكن أن يؤدي إلى انخفاض كبير في الاشتباكات المسلحة في إقليم كردستان، خاصة في منطقة بهدينان ومحافظة أربيل.
ويمكن أن يقلل من الغارات الجوية في مناطق قنديل وشاربازير والسليمانية، التي يتمتع فيها العمال الكردستاني بحضور قوي.
ولفت مصطفى الى أن الصراع المسلح بين العمال الكردستاني وأنقرة تسبب خلال السنوات الماضية بنزوح آلاف من مواطني كردستان – العراق من قراهم وبلداتهم.
وأصبحت نحو 700 قرية في إقليم كردستان، إما خالية تماما من سكانها أو معرضة لخطر الهجمات.
وعلى الرغم من تأكيده على أن السلام الدائم سيسهل عودة النازحين إلى قراهم ومناطقهم، يلفت مصطفى إلى أن استمرار الوجود العسكري التركي قد يُؤخّر إعادة التوطين الكاملة.
وبحسب إحصائيات شبه رسمية، أنشأت تركيا خلال السنوات الماضية أكثر من 87 قاعدة عسكرية داخل الأراضي العراقية على طول 200 كيلومتر من الحدود بين البلدين، بينما بلغ عمق توغلها 15 كيلومتراً، وهو أكثر بسبعة كيلومترات من العملية البرية التي نفذتها عام 2021.
أكراد سوريا
يمتلك كل من أنقرة وحزب العمال الكردستاني نفوذا في سوريا.
وتعتبر أنقرة الإدارة الذاتية ووحدات حماية الشعب التي تشكل عماد قوات “قسد”، ذراعا لحزب العمال الكردستاني في سوريا.
وكانت الإدارة الذاتية و”قسد” قد أعلنتا خلال السنوات الماضية عدم ارتباطهما تنظيميا بحزب العمال.
وتضم وحدات حماية الشعب السورية مقاتلين غير سوريين من حزب العمال كانوا قد وصلوا إلى مناطق الإدارة الذاتية الكردية عام 2014 لـ”مساندة القوات الكردية في الحرب ضد داعش والدفاع عن مدينة كوباني”.
وفي ديسمبر الماضي، صرح قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، بأن “من تبقى من مقاتلي العمال الكردستاني الأكراد غير السوريين مستعدون لمغادرة سوريا، متى ما تهيأت الظروف، وتكون هناك ممرات آمنة لخروجهم”.
وفي حديث مع “الحرة”، أشارت عضوة الهيئة الرئاسية في مجلس سوريا الديموقراطية، شيرا أوسي، إلى أهمية مبادرة السلام بين أنقرة وPKK.
“نحن في مجلس سوريا الديمقراطية نرى أن الوقت قد حان للانتقال من منطق الاتهام والتدخل إلى منطق الحوار واحترام إرادة الشعوب. فالحل الحقيقي يكمن في دعم الاستقرار، لا ضربه، وفي دعم من يقاتل الإرهاب، لا استهدافه.”
وتشير أوسي إلى أن الإدارة الذاتية و”قسد”، من جهتهما، منفتحان بالكامل على التشارك والتفاهم مع الحكومة السورية الجديدة، بما يخدم وحدة البلاد ويضمن الحقوق المشروعة لجميع مكوناتها.
وتضيف “بالفعل تجري نقاشات ومفاوضات مع دمشق عبر قنوات متعددة، بمشاركة فاعلة من القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، الجنرال مظلوم عبدي، الذي أكد مرارا على ضرورة الوصول إلى تفاهمات تحفظ كرامة الجميع وتفتح الباب أمام حل مستدام”.
رغم إعلان مبادرة السلام بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني في فبراير الماضي، بعد نداء عبدالله أوجلان لحل الحزب ونزع السلاح، ورغم الاتفاق الذي توصّل إليه مظلوم عبدي مع الرئيس السوري، أحمد الشرع، في مارس، لا يزال التوتر قائما.ولم تتحسن العلاقات بين تركيا وأكراد سوريا.
المعارك مستمرة بشكل شبه يومي. وتخوض “قسد” مواجهات ضد فصائل سورية مدعومة بالطيران الحربي التركي في أطراف كوباني (عين العرب)، وجسر قرقوزاق، وسد تشرين، وجميعها ضمن محافظة حلب.
وأعلن حزب العمال الكردستاني في 12 مايو الماضي، حل بنيته التنظيمية وإنهاء الكفاح المسلح والأنشطة التي كانت تجري تحت لواء “PKK”، استجابة لنداء زعيمه، وطالب العمال الكردستاني، في بيان، تركيا بمنح أوجلان حق إدارة المرحلة المقبلة، والاعتراف بحقه في العمل السياسي، وتوفير ضمانات قانونية شاملة في هذا الشأن.
وأشار البيان إلى أن الحزب نظم مؤتمره الثاني عشر في ظروف صعبة، مع استمرار الاشتباكات، وتواصل الهجمات البرية والجوية للجيش التركي.
وفي رسالة مصورة موجهة لمقاتلي حزبه، شدد زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، الأربعاء، على أهمية تخلي الحزب عن سلاحه في أسرع وقت.
وأضاف اوجلان خلال الشريط المصور الذي ظهر فيه جالسا وسط مجموعة من قيادات الحزب المعتقلين في تركيا، وبثته وكالة “الفرات نيوز” المقربة من الحزب، “في إطار الإيفاء بالوعود التي التزمنا بها، ينبغي إنشاء آلية لإلقاء السلاح تُسهم في تحقيق تقدم في العملية، وانتهاء الكفاح المسلح بشكل طوعي والانتقال إلى المرحلة القانونية والسياسة الديمقراطية”.
ويعتقد الناشط السياسي الكردي المستقل، مصطفى شيخ مسلم، أن عملية السلام بين تركيا والعمال الكردستاني ستنعكس إيجابا على الأوضاع في مناطق شمال وشرق سوريا والواقع اليومي فيها وتخفف من التدخلات التركية لاسيما العسكرية، باعتبار أن الحجة الرئيسية لهذه التدخلات هي ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني.
ولا يستبعد شيخ مسلم الذي يعيش في مناطق الإدارة الذاتية، تحسن علاقات الكرد في سوريا بالحكومة والدولة التركية ككل، لكون مشروع السلام الذي طُرح مؤخرا من جانب أنقرة وحزب العمال الكردستاني ذو واقع إقليمي وليس محصورا داخل الحدود التركية، باعتبار أن للكرد وحركاتهم السياسية والمدنية امتدادا في كثير من الدول.
ويبين شيخ مسلم لـ”الحرة” أن “عمليات السلام بين تركيا والعمال الكردستاني من شأنها ان تدفع بالقضية الكردية في سوريا إلى واقع مختلف ومتقدم تقربه من الانفراج السياسي، بالتالي حل القضية الكردية في سوريا، لما لتركيا من نفوذ كبير داخل سوريا الجديدة بعد سقوط نظام الأسد”.
من جهته يشدد رئيس “حزب الوسط الكردي” في سوريا، شلال كدو، على أن خطوات حزب العمال الكردستاني باتجاه السلام سيكون لها التأثير الأكبر على الكرد السوريين وعلى القضية الكردية في سوريا.
ويوضح كدو لـ”الحرة” أن “القضية الكردية في سوريا، كانت عبر سنوات الثورة السورية الطويلة أسيرة أجندات وأمزجة قادة العمال الكردستاني، لذلك مع انطلاقة هذه المبادرة سيكون الكرد في سوريا وقضيتهم أمام آفاق أرحب وأشمل مما كانت عليه خلال السنوات الماضية”.
وخلال السنوات الماضية التي سبقت سقوط نظام الأسد في سوريا، شهدت العلاقات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني أكبر الأحزاب في حكومة إقليم كردستان العراق، وحزب الاتحاد الديمقراطي أكبر أحزاب الإدارة الذاتية فتورا، إثر ارتباط الاتحاد الديمقراطي مع العمال الكردستاني المتهم بزعزعة الاستقرار الأمني في إقليم كردستان.
لكن بعد سقوط الأسد، أطلق زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود بارزاني، مبادرة لتوحيد الصف الكردي في سوريا، والعمل على إطلاق عملية السلام بين تركيا والكرد في سوريا وفي تركيا، وقد استجاب مظلوم عبدي للمبادرة وزار أربيل والتقى بارزاني وتمخض عن اللقاء بدء اجتماعات الطرفين الرئيسيين في كردستان سوريا، وهما أحزاب الوحدة الوطنية المنضوية في الإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكردي السوري.
ويشير كدو الى أن الرؤى الأن موحدة بين الأحزاب الكردية في سوريا، ونظرتهم واحدة إلى سوريا المستقبل. ويرى أن خطوة العمال الكردستاني باتجاه السلام ستعزز هذه الوحدة والتوجه بين الكرد السوريين.
ويرى كدو أن المستقبل كفيل باندماج كردي أكبر مع دمشق، لافتا إلى أن سوريا ستكون موحدة وستعتمد نظام اللامركزية في الإدارة وهو مطلب جميع أطيافها. وأكد على أن هذا ما يسعى إليه الكرد وغيرهم أيضا، وينبغي التوافق عليها وتضمينه في الدستور القادم للبلاد.