تميّزت الثورتان الهولندية والإنجليزية بالسلميّة. غيّرتا حكومتيهما بأقل قدر من العنف. هذا لا ينطبق على الثورة الفرنسية التي تلطخت بالدم من أيامها الأولى في عام 1789. الملك لويس السادس عشر يُقطع رأسه عبر المقصلة؛ آلة الإعدام المصنوعة حديثاً. طالب الملك بفرض ضرائب، ولكن هذا الطلب أثار عليه الشارع وقادة الثورة. بعد موجات من الاضطراب والمواجهات، قُبض عليه. ومع توارد أنباء غزو بروسيا والنمسا لفرنسا لسحق الثورة، قرر الثوار إعدامه والتخلص منه. منذ تلك اللحظة، انطلق ما يسمى عصر الرعب مع وصول قائد متطرف اسمه روبسبير، الذي أعلن جميع المنافسين السياسيين خونةً، وبدأت عمليات مرعبة من الإعدامات. وسط هذه الفوضى، تقدَّم في 1799 القائد العسكري نابليون بونابرت ليحوّل فرنسا إلى إمبراطورية امتدت من إسبانيا إلى بولندا. سقط نابليون، الذي نصّب نفسه إمبراطوراً، بعد هزيمته عام 1812 في غزوه لروسيا. وفي عام 1815 انتهت الثورة الفرنسية، وعاد ملك آخر اسمه لويس الثامن عشر.
لماذا فشلت الثورة الفرنسية؟ هذا السؤال الكبير الذي يطرحه فريد زكريا. لماذا تحولت من وعد بالمساواة والديمقراطية إلى فوضى وبرك من الدماء؟ الجواب: لأن القادة السياسيين فرضوها قسراً من الأعلى إلى الأسفل على مجتمع لم يكن مستعداً لها. الليبرالية في هولندا وإنجلترا وجدت جذوراً لها في المجتمع والاقتصاد والنظام السياسي على مدار عقود. الحكم غير المركزي، والاقتصاد الرأسمالي، وشركات المساهمة، والتعددية السياسية الجزئية في البلدين، جعلت التغيير سلمياً بأقل قدر من العنف. الثورة الفرنسية افتقرت لأهم عناصر التغيير الناجح، وهو التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي على مدار فترة طويلة، ولهذا سقطت في العنف سريعاً. استخدم الثوار سلاح الهوية ليقسموا الناس إلى وطنيين وخونة.
يتطرق الكاتب إلى حياة ثلاث شخصيات فرنسية يشرح من خلالها لماذا لم تختر الثورة الفرنسية الطريق الهولندي ومن ثم الإنجليزي، ولكن خطّت لنفسها طريقاً مختلفاً ومعاكساً: الأول ماركيز دي لافاييت، والثاني روبسبير، والثالث نابليون بونابرت؟
النبيل ماركيز دي لافاييت يمثل الخط الليبرالي: الإصلاح بالتدريج. حلم بأن تسير ثورة بلاده على نهج الثورة الإنجليزية المجيدة. شارك في الثورة الأميركية، وكان قريباً من جورج واشنطن، الذي عده الأب الروحي. وعدَّه الأميركيون بطلاً لمساعدتهم في التخلص من الهيمنة البريطانية على بلادهم بعد إقناع الفرنسيين بالوقوف إلى جانبهم. بعد عودته إلى بلاده في بداية الثورة، قدّم تصوراً مختلفاً. لم يكن يريد جمهورية بلا ملكية على الطريقة الأميركية، ورأى هذا النموذج ثورياً أكثر من اللازم لبلاده وسيقود إلى الفوضى. دفع إلى مزيد من الإصلاح الديمقراطي الواسع، وألغى امتيازات النبلاء، حتى تلك التي تخصه. نجح في البداية في تحقيق رؤيته الليبرالية المعتدلة: حرّر القطاع الزراعي، وألغى القيود على التجارة، وأصلح النظام الضريبي الذي فرض على النبلاء دفع الضرائب بعد أن كانوا مستثنين. نزعة ماركيز دي لافاييت الإصلاحية تلاشت مع سيطرة الثوار المتطرفين المتعطشين إلى الدماء. تحطمت أحلامه، وتلطخت صورته عند اليسار الذين عدّوه خائناً للثورة. اضطر إلى الهرب من فرنسا، وانتهى به المطاف في سجن في النمسا، قضى فيه عدة سنوات.
كان ماكسيميليان روبسبير هو الشخص الثاني الأبرز في مشهد الثورة الفرنسية، وربما الأكثر إثارة للجدل. ففي حين بدأ حياته محامياً شاباً متقد الحماسة ومثالي الأفكار، انتهى به المطاف زعيماً سياسياً يحكم بالمقصلة ويقود فرنسا إلى واحدة من أكثر فصولها دموية، فيما سُمّي لاحقاً بعصر الإرهاب.
في بدايات الثورة، قدّم روبسبير نفسه خصماً شرساً للملكية والأرستقراطية، ومدافعاً عن الفقراء والمهمّشين. تميّز بخطبه المؤثرة وفصاحته الاستثنائية. جذب إليه أنظار الجماهير. زادت شعبيته وشهيته للسلطة. انضم إلى نادي اليعاقبة، قبل أن يهيمن عليه، ويقدّم نفسه ممثلاً لما سماها «الإرادة العامة». كان من أبرز المروجين لشعار الثورة الفرنسية الشهير: «حرية، عدالة، مساواة». طالب بحكم القانون، بل حتى بإلغاء حكم الإعدام في بداية مشواره. لم تدم هذه المثالية طويلاً. دعواته للعدل تحولت إلى أدوات للانتقام، وبدأت ملامح زعيم يضيق بالخلاف والاختلاف تظهر بوضوح. مع اتساع سلطته، أصبح التخوين هو السلاح الأشد فتكاً في يده. لم تعد حملاته تقتصر على الملكيين أو المعتدلين مثل لافاييت، بل امتدت حتى إلى الثوريين الآخرين من أبناء الطبقة العاملة، ممن لم يُظهروا «الحماسة الكافية» للثورة. وباستخدام آلة الإعدام الجديدة؛ المقصلة (الغيلوتين) التي أزهقت نحو 17 ألف روح في زمن قصير، كثير منهم لم يُمنحوا فرصة الدفاع عن أنفسهم. لقد دَشّن روبسبير، عملياً، مرحلة الإرهاب الثوري. حوّل الدولة إلى آلة رعب، وأسس لما يُعرف لاحقاً بـ«العنف السياسي» الذي يُمارَس باسم الشعب والعدالة. كان يرى أن الفضيلة يجب أن تُفرض بالقوة، وعبّر عن فلسفته الصارمة بعبارة شهيرة تلخص عقيدته: «إن الفضيلة بلا إرهاب عاجزة، والإرهاب بلا فضيلة وحشية».
وصلت عمليات التخوين درجات غير مسبوقة. الإعدامات تُنفّذ لمجرد الاشتباه، أو ضعف الحماسة، أو الصمت. لم يقبل روبسبير إلا الولاء الكامل والخضوع المطلق، وكل ما عدا ذلك خيانة تستحق العقاب. في النهاية، لم يسلم روبسبير من آلة الرعب التي أنشأها. حين شعر رفاقه في الثورة بالخطر، تآمروا عليه وألقوا القبض عليه، وفي صيف عام 1794، صعد إلى المقصلة التي لطالما استخدمها، وسقط في اللحظة ذاتها التي بلغ فيها ذروة سلطته.
يرى بعض الباحثين أن روبسبير كان الإلهام المبكر لشخصيات لاحقة مثل لينين، وستالين، وماو تسي تونغ، الذين استخدموا الفكرة نفسها: الحكم باسم الجماهير، وقنص الخونة والتطهير باسم الفضيلة، ولو بالدم.
الشخص الثالث بعد روبسبير هو نابليون بونابرت، القائد الذي يقول عنه الكاتب إنه الرجل الأكثر طموحاً وغروراً في القرن التاسع عشر. سليل عائلة متواضعة من كورسيكا. أظهر عبقرية في القيادة العسكرية، وقاد حملات عسكرية ناجحة في عام 1796. صعد نابليون إلى قمة الهرم بعد سنوات من الفوضى التي أعقبت سنوات الرعب التي دشّنها المحامي الدموي روبسبير. لكنَّ صعوده جاء بمؤامرة، ليس بيده، بل بيد رجال الدولة في تلك الفترة الذين رأوا أن ديكتاتورية مستنيرة هي الحل للفوضى. آبي سييس، كاهن كاثوليكي وفيلسوف سياسي، وصاحب كتاب «الطبقة الثالثة»، الذي مهّد للثورة الفرنسية، كان ضد «النظام الطبقي الثلاثي» الذي رآه غير عادل (النظام الذي يقدّم امتيازات خاصة للنبلاء ورجال الدين ويجحف بحق العامة)، وطالب بنظام أكثر عدالة لعموم الشعب، أو من أطلق عليهم اسم «الطبقة الثالثة». سييس كان خلف هذا الانقلاب الذي سيحمي الجمهورية الفرنسية من التفكك. اعتقد آبي أن ما يحتاج إليه هو القوة، والقوة متمثلة في جنرال شاب اسمه نابليون بونابرت. بدعم من قوات الجنرال نابليون، سيطر المتآمرون على السلطة في عام 1799، ورُقي نابليون ليكون القنصل الأول. أراد آبي سييس ورفاقه المخططون استخدام نابليون دميةً؛ يستخدمونه فترة، ثم يضعونه جانباً. لكنَّ نابليون أثبت أنه أكثر مكراً. بعد السيطرة على الحكومة، انقلب نابليون على حلفائه القدماء. «كنت أبحث عن سيف للجمهورية، فوجدت سيفاً التهم الجمهورية»، هذه الجملة قالها لاحقاً آبي سييس نادماً على دعمه الجنرال المنقلب الطموح نابليون.
ابتدأ من حينها عصر نابليون بونابرت. في عام 1804 توّج نفسه إمبراطوراً، في قطيعةٍ تامَّةٍ مع مبادئ الجمهورية. وضع نابليون حداً للصراعات والفوضى داخل فرنسا، وحكم على طريقة الرجل القوي. أقر إصلاحات عديدة، من بينها: تحرير اليهود المضطهدين، وتحديث الإدارة، وتطوير الجيش، ونشر «قانون نابليون»، وهو نظام قانوني حديث يُعد أساساً للقوانين الحديثة. حدّث التعليم، وطوَّر القضاء، وغيّر الإدارة. استطاع نابليون خلال سنوات قليلة أن يُنشئ الإمبراطورية الفرنسية في أوروبا، حيث هزم النمسا وبروسيا وإسبانيا، واحتل إيطاليا، ووصل إلى موسكو. عُرفت تلك بالحروب النابليونية. هيمن على القارة الأوروبية وأصبح زعيمها الأكبر. لم يدم هذا المجد طويلاً، وبدأت نهايته في عام 1812 بعد فشله في هزيمة روسيا. الشتاء والمقاومة الروسية قضيا على جيشه. خسر معركة الأمم في لايبزيغ (1813)، ونُفي إلى جزيرة إلبا عام 1814. هرب من منفاه وعاد إلى فرنسا فيما تُعرف بـ«مائة يوم»، لكنه هُزم نهائياً في معركة واترلو (1815). نُفي إلى جزيرة سانت هيلينا في المحيط الأطلسي، حيث توفي بعد ست سنوات. يقول الكاتب زكريا إن رفاقه في سنواته الأخيرة كانوا الكتب وطيور البحر.
عادت الملكية بعد أن غابت لمدة عقدين. الثورة الفرنسية فشلت بكل المقاييس. عدّها الكاتب خروجاً دموياً غير ضروري عن طريق إصلاحي تدريجي يقود في النهاية إلى الديمقراطية والرأسمالية.
«لماذا لم تسِر الثورة الفرنسية على خطى الثورة الإنجليزية المجيدة في عام 1688؟».
يُجيب الكاتب عن هذا السؤال بأن المشكلة الأساسية أن المجتمع الفرنسي لم يمر بتحولات اقتصادية وتكنولوجية دفعته إلى الليبرالية والديمقراطية. كان المجتمع الفرنسي ريفياً تقليدياً دينياً أرستقراطياً. الثورة لم تكن سوى -كما يشير- نبيذ جديد في زجاجة قديمة.
يتطرّق الكاتب فريد زكريا في كتابه إلى عدد آخر من الثورات، ومن أهمها الثورة الأميركية، لكن الفكرة الرئيسية في كتابه واضحة. الثورة الهولندية، ومن بعدها الثورة الإنجليزية، نجحتا، أما الثورة الفرنسية ففشلت واتخذت مساراً مختلفاً. الهولنديون والإنجليز مرّوا بتحولات اقتصادية واجتماعية وفكرية سهّلت عملية الانتقال إلى الديمقراطية. أي إن الليبرالية سبقت الديمقراطية. المفكرون مثل سبينوزا وديكارت هربوا من ديارهم بحثاً عن هواء الحرية في أمستردام. رجال الأعمال وجدوا في الأراضي الهولندية القوانين الاقتصادية التي تساعدهم على استثمار ثرواتهم. حفر الهولنديون القنوات المائية، وبنوا الأساطيل التي تعبر المحيطات. الإنجليز ساروا على خطاهم، ولكن بصورة أكبر؛ تجارياً واقتصادياً وسياسياً. لم يمر وقت طويل حتى أصبح العالم يحترم ويخاف من «بريطانيا العظمى». الفرنسيون ذهبوا في الاتجاه الآخر. القوانين والعقائد والتغيّرات فُرضت من أعلى إلى أسفل بقوة الدولة والسلاح. فُرضت بالإكراه، وليست نتيجة تحوُّل طبيعي وتسلسل منطقي. لطَّخت الدماء الثورة الفرنسية، وانتشر عصر الإرهاب والرعب، وأخذت فرنسا وقتاً طويلاً حتى تصل إلى وجهتها.
وأنا أقرأ، تساءلت: ماذا لو ذهبت فرنسا في الاتجاه الذي تمناه النبيل ماركيز دي لافاييت، الطريق الإصلاحي الليبرالي التدريجي؟ من المثير أن نسأل ونتعلّم من مجرد التفكير في الإجابة.