ملخص
بين السودان وهايتي مقاربة تستحق الاستدعاء عندما تتبع مطالبة “صفوة سياسية” بحل الجيش، ليصبح البلد الأفريقي على شفا حال “في خشم الناس” كما يقول أهله حين يحذرون من العيب الذي يجعلك مضغة في الأفواه.
لو صحت مقارنة أوضاع السودان في أتون الحرب لما صدقت مثل صدقها عن هايتي، فهناك تلاشى الجيش الوطني في خطة المعارضين للنظام الديكتاتوري اتهمت الجيش بخدمته والتمادي في ذلك، والسودان الآن في مواجهة قسم مهم من الصفوة المدنية السياسية تخاصم الجيش وتعزم على حله، وكلتا الصفوتين ضجرت من الجيش الذي إما حكم البلاد مباشرة أو تحت خدمة ديكتاتور.
ارتكب الجيش الهايتي انقلاباً ضد الرئيس جان برتراند آريستايد خلال سبتمبر (أيلول) 1991، ولما عاد إلى الحكم في يناير (كانون الثاني) 1996 من منفاه بظروف لا نريد الانشغال بها قرر حل الجيش حلاً لم يتفق حتى مع الأميركيين الذين كانوا وراء عودته.
استقبل الناس حل جيشهم بحفاوة بالغة في ما يشبه تنفس الصعداء، وقال أحدهم للصحف “أستطيع النوم الآن قرير العين، لن يستطيعوا بعد الآن دخول منزلي ونهبي”، وبلغت سقامة أهل هايتي من الجيش حداً رفضوا فيه مشروعاً لإعادته خلال عام 2017، وخرجوا في تظاهرات هاتفين “لا نريد الجيش، نريد تعليماً”، فيما قال عمدة سابق للعاصمة إن للبلد أولويات أكثر أهمية من الجيش، وبلغ الأمر بأنصار آريستايد حد اقتراح تعديل الدستور لمحو الجيش من هيكل الدولة.
لم تقل هايتي منذ حل جيشها “أحيا يا العافية” (أي ما أحلى العافية) كما نقول في السودان، كثرت فيها بعثات الأمم المتحدة وغيرها للسلام بين 1999 و2001 ومن 2004 إلى 2017، ولم يبق من ذكر البعثة الأخيرة إلا تسببها بانتشار الكوليرا واغتصاب حرائر الجزيرة.
دخل مصطلحان قاموس السياسة في هايتي إثر فشل الأمم المتحدة بتوطين السلام، وهما “الإرهاق من التدخل الخارجي” و”الإرهاق من محاولات إحلال السلام”، وتراوح اليوم هناك مبادرة دولية تعد بقوة شرطية كينية مر عام لم يصل منها إلا 800 من أصل 1200 تقرر حضورهم، وحتى بعدما تكتمل لن تكون بحجم العصابات ولن تضاهيها بقوة السلاح، أما من التزم بين الدول دعم مهمة الشرطة الكينية فظل يجرجر قدميه.
قال الصحافي ديفيد فرنش إن ما أفسد مبادرات السلام الماضية والحاضرة هو اشتراط الانتخابات بأي ثمن في نهاية البعثة، وهي انتخابات أقرب إلى “يا رقبة خلصي” منها إلى إحلال مستدام للسلام، فاقترح فرنش أن تكون البعثة القادمة للسلام في هايتي كادراً وقيادة من العالم الثالث ولا يشارك فيها العالم الأول سوى بالتمويل الوافي، فانظر اليأس الذي يتجمل.
بلغ من هوان الدولة التي طلقت جيشها أن وصف كاتب المجلس الرئاسي القائم بأمر الحكم في هايتي بأنه كثير الشقاق غير ذي قيمة، ولم يبق له من “بورت” أو “برانس” العاصمة موضعاً خارج سيطرة العصابات سوى مغارة حفرها لنفسها واندس فيها لتهلك الأمة من حوله.
من بين سكان هايتي الـ11 مليوناً قتلت العصابات الآلاف ونزح مليون هرباً، فغالب الدولة في قبضة عصابات متربصة تخيم بظلها المضرج في قول أحدهم، على أرض قبحتها أنقاض خرائب البيوت والسيارات المتفحمة، وقال كاتب آخر إن معاناة هايتي ومذابحها مما كان التنبؤ بها سهلاً، ومما كان بالوسع الحيلولة دون وقوعها، لكن لم تبق في يومنا حلول سهلة.
رشح من أخبار هايتي بيان عن يأس يتحامل على نفسه كي يتفاءل بالخير، فتحدث عن خروج جماعة من الهايتيين تطوعت لمقاومة العصابات، كما بدأت شرطة الجزيرة استهداف العصابات بمسيرات تجارية، ولقيت كل من الوسيلتين لحرب العصابات نقاداً أشداء رأوا فيها خبط عشواء عن الصحيح في فقه السلام، وهو استرداد دولة تلاشت شيئاً فشيئاً بحل جيشها.
تطوعت جماعة “باو كالي” لحماية الناس، واستبشر بها كثر كحل ناجع لتسلط العصابات على الأهالي، فإذا أرادتها العصابات “عصبجية” فها قد خرجت عليهم العصابة المضادة، أو كما سمتهم صحيفة “واشنطن بوست” “كتائب الدفاع الذاتي”.
حرب السودان تتسع بغارات على المثلث الحدودي مع ليبيا ومصر
لم يتفق التشخيص المتفائل لـ”باو كالي” مع الأكاديمية شارلي كاربنتر، فقالت إنها رد فعل مفهوم ومتوقع على الأوضاع الرهيبة في هايتي، لكنها ربما شكلت في حد ذاتها تهديداً جدياً لحياة المدنيين، رأت كاربنتر في الجماعة انفلاتاً غير محمود العواقب، فهم يحملون فؤوساً وعلب الغاز ليستهدفوا أفراد عصابات ألقت الشرطة القبض عليهم خلال ارتكابهم جريمة أو بعدها، فيقتلونهم ويحرقونهم في الشوارع.
كاربنتر تقول إن وصف جماعة “باو كالي” بـ”مدنية” في غير موضعه، فالفرق بينها وبين قوى الحراسة المدنية واسع، إذ إن تلك القوى تلتزم نقاطاً محددة لتحرس المنازل والمتاجر ويستنجد بها من طلب الإسعاف، بينما “باو كالي” تجسد ذروة العنف في محاربة العصابات، وقد تؤذي المدنيين أكثر من حمايتهم.
الخير الآخر كان في استهداف قوة شرطية خاصة للعصابات بمسيرات تجارية صغيرة وفرتها شركة خدمات عسكرية خاصة، وتستثمر حكومة هايتي من فرط ضعفها الآن في تلك المسيرات لقمع هذه الجماعات الإجرامية التي تحولت إلى انتفاضة سياسية.
للخطة هذه نقادها أيضاً، إذ قال جيمس بورثورث إن المسيرات قد تنال من العصابات وقادتها لكن نجاحها قد يدفع بالعصابات نفسها إلى امتلاك المسيرات لتضيف إلى ترسانتها سلاحاً مؤذياً لن يقتصر ضرره على الشرطة، بل سيطاول المدنيين الذين سبق لهم وذاقوا منها الأمرين، لافتاً إلى أن سداد هذه الخطة سيعتمد على دعم دولي يجرر أقدامه إلى هايتي من فرط يأسه من إسعافها.
جاء بورثورث إلى أم المسألة فقال إن ما تحتاج إليه هايتي حقاًَ هو حكومة وحكم القانون وهذا ما لن توفره المسيرات، فاستخدام الطائرات من دون طيار في غياب مثل هذه الحكومة بمثابة جهد المعركة الأخيرة المنبئة عن ضعف الدولة لا شوكتها، استخدام المسيرات خيار قليل الكلفة نافد الحيلة قد يربك مراكز القيادة والسيطرة في العصابات لأسابيع قليلة، لكن المسيرات ليست بديلاً لطاقم الدولة الذي يؤمن للناس الحوكمة والاستقرار، على حد قوله.
من فساد الرأي أن تقع على خطة مثل ضرب خصمك بالمسيرات لمجرد أنها غير مكلفة، ومن دون تمويل سخي لاستنهاض دولة هايتي ودعمها لتقف على قدميها مرة أخرى، ستكون هذه المسيرات هي الطبعة الكاسدة لمقاومة أو انتفاضة في القرن الـ21، وفشلها مؤكد.
أكبر مصائب صفوة الرأي الحداثية عندنا هو بؤس مقارنتها حال السودان بغيره من الدول، ليس ضرورياً أن يكون ذلك البلد قد أنجز ما زعمته الصفوة، لكنها تدعي ذلك من باب الندب وهضم الذات وتزكية معارضتهم للنظام.
ربما لهذا السبب لن تجد ذكراً عند الصفوة السودانية لهايتي، في حين أنها ربما كانت البلد الوحيد الذي سبق السودان إلى حل جيشه من فرط سقمه منه، وهذا السقم من الجيش في هايتي، الذي انتهت به إلى دولة للعصابات، هو جوهر كتابات الناشطين في “صمود”، فسماه اللايفاتي كمال عباس “جيش العار”، وصار عندهم صنواً للحركة الإسلامية لا إرادة له بغيرهم، وقال محرر صحيفة “الحداثة” شمس الدين ضو البيت إنه “جيش لا نفع منه” مختطف من “الكيزان” أشعل حرباً من أجل السيطرة وحماية تمكين الحركة الإسلامية، فيما قالت الصحافية رشا عوض إننا تأخرنا كثيراً في حل الجيش، وجاء اتفاقهم مع قائد “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو في إعلان أديس أبابا (يناير 2024) بنص صريح يقول بحل الجيش ضمن “الميليشيات المتعددة” في جيش وطني مهني.
سيخيم ليل هايتي عليهم، وسيكون السودان مثل ما رأينا من هايتي “في خشم الناس”، كما يقول أهله حين يحذرون من العيب الذي يجعلك مضغة في الأفواه.