صحيح أنّ توم بارّاك لم يبخل على اللبنانيّين بالمواقف والإيضاحات والشروحات، لكنّه نجح في إخفاء الحقيقة المجرّدة من مُخمليّة الدبلوماسية: حقيقة ما أبلغه للسلطة اللبنانية في ما خصّ أجندة بلاده، وحقيقة ما سمعه من مضيفيه اللبنانيّين، وتحديداً الثنائي الشيعي، من إجابات.
في الواقع، خرج معظم الطبقة السياسية بخلاصة واحدة تختصر زيارة الموفد الأميركي توم بارّاك: إنّه “المداورة” الكلامية بحدّ ذاتها. من جهة يعرف الرجل كيف يقدّم مقاربته على طبق من التودّد والاحترام تاركاً للسلطة اللبنانية كلّ هامش السيادة والاستقلاليّة في تحديد مصير ومستقبل البلد. ومن جهة أخرى يحصّن مقاربته بالحسم والجزم والتشدّد: إنّه المسار الوحيد للخروج من العزلة، وإلّا فستُتركون لمصيركم ولعدوانيّة إسرائيل.
بهذا المعنى استعاد بعض المتابعين تجربة آموس هوكستين الذي عُرف بمكره المغلّف بابتسامة لا تُخفي إلّا الكثير من الأسرار. وقد تبيّن بالفعل أنّه برع في إحاطة مشاوراته مع اللبنانيين بجدار من السرّية التي مكّنته من اجتياز المفاوضات بأمان للعبور إلى اتّفاقين: الترسيم البحري ووقف إطلاق النار.
خرج معظم الطبقة السياسية بخلاصة واحدة تختصر زيارة الموفد الأميركي توم بارّاك: إنّه التناقض بحدّ ذاته
من هنا، يسود الاعتقاد أنّ الظاهر في مفاوضات بارّاك، أو بالأحرى في أجندته، لا يعبّر أبداً عن المضمون، من دون أن يعني ذلك أنّهما على نقيض تامّ. ولكنّ القشرة في كلامه المعلن لا تعكس عمق ما دار بينه وبين المسؤولين اللبنانيين، وتحديداً مع رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي.
هذا ما ظهر جليّاً في كلامه إزاء موقف سوريا الجديدة من لبنان، الذي لامس هنا حدّ التناقض. إذ بعدما أعرب في مقابلته مع الـ”إل بي سي” عن اعتقاده بأنّ النظام السوري الجديد “لا يحمل نوايا عدائيّة تجاه لبنان. اهتمام نظام الرئيس السوري أحمد الشرع حاليّاً هو البقاء في السلطة، وبصراحة، حماية قيادته”، حذّر أمس عبر الـ”ذا ناشيونال” من أنّ “لبنان في خطر وجوديّ، وإذا لم يتحرّك فسيعود إلى بلاد الشام”!
يقول المطّلعون إنّ الردّ الرسمي الذي رفعه لبنان إلى بارّاك، والذي يحمل الإجابات على الورقة التي وضعها في زيارته الأولى لا يشكّل الجوهر الفعليّ للموقف اللبناني
الأساس في عين التّينة
يقول المطّلعون إنّ الردّ الرسمي الذي رفعه لبنان إلى بارّاك، والذي يحمل الإجابات على الورقة التي وضعها في زيارته الأولى في عهدة السلطة اللبنانية، لا يشكّل الجوهر الفعليّ للموقف اللبناني، لأنّ الأساس كان في عين التينة، حيث تبلّغ بارّاك من برّي جواب “الحزب” على شاكلة ملاحظات وُضعت أمام المسؤول الأميركي.
بارّاك لم يخفِ هذا الجانب من مداولاته، وألمح إلى ذلك في اللقاءات الجانبية التي عقدها في بيروت، حيث قال صراحة إنّ برّي قدّم ملاحظات باسمه وباسم “الحزب” تتعلّق بالانتهاكات الإسرائيلية ومنع الجنوبيين من العودة إلى بلداتهم، وأبدى المبعوث الأميركي شيئاً من الانزعاج من هذه الازدواجية في المواقف لأنّه كان يعتقد أنّ الردّ اللبناني محصور بالورقة الرسمية، وأنّ جولته الرئاسية بروتوكوليّة لا أكثر. وإذ برئيس المجلس يودعه ردّاً موازياً.
الأهمّ من ذلك كلّه، الأمر الذي لم يبُح به بارّاك وتجنّب الكشف عنه، يتّصل بجوهر ما يريده من لبنان، أو ما تريده الإدارة الأميركية: هل يقف عند حدود حصريّة السلاح لفرض الاستقرار على الحدود الجنوبية وإخراج إيران – العسكرية من لبنان؟ أم المطلوب إلحاق لبنان بقطار التطبيع؟
حتّى اللحظة، يسود غموضٌ حدودَ الأجندة الأميركية من لبنان، وتحيط الضبابية بحقيقة ما يمكن لـ”الحزب” الذهاب إليه في هذه المفاوضات، خصوصاً أنّه مسار طويل وشاقّ يتحرّك على إيقاع التطوّرات الإقليمية والداخلية، وأبرزها المفاوضات الأميركية – الإيرانية والتخبّط في صفوف “الحزب” نتيجة الضربات القاسية التي تعرّض لها والتضييق الذي يُمارَس عليه. وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد أنّ “الحزب” لن يبادر حاليّاً إلى تقديم إجابات حاسمة تفصل الخيط الأبيض عن الأسود قبل ترتيب صفوفه الداخلية وترتيب أوراقه وتبلور الصورة الإقليمية.
نافذة نقاش مفتوحة
هذا مع العلم أنّ الدبلوماسية الفرنسية تعتقد أنّها عملت بجهد على إظهار الجوانب الإيجابية لهذا التفاوض، لكي لا يُحكم عليه بالسلبيّة المطلقة، وقد نجحت، باعتقادها. وفق تقديرها، الوضع ليس عصيّاً على المعالجة أو محكوماً بالفشل كما يروَّج تحت وطأة الضغوطات، لا بل ثمّة نافذة نقاش جدّية مفتوحة قد تسهم في مزيد من الحلحلة. تقدّمت السلطة اللبنانية كثيراً في أدائها، وهو أمر لا يجوز، وفق الدبلوماسية الفرنسية، التنكّر له أو إغفاله، ويعني أنّ هناك تقدّماً في العمل، لكن يُنتظر منها أن تقوم بالكثير أيضاً.
تجلّت عودة الدبلوماسية إلى الضوء خلال الزيارة التي قام بها بارّاك لباريس قبيل وصوله بيروت والتقى فيها وزير الخارجيّة الفرنسيّ جان-نويل بارو، وهو ما أظهر تنسيقاً جدّياً في المقاربة بين واشنطن وباريس في ما خصّ الملفّ اللبناني، وذلك للاستفادة من قدرة الإدارة الفرنسية على التواصل مع مختلف القوى اللبنانية، وتحديداً “الحزب”، وتوفير قناة إضافية لإيصال الرسائل الدولية، خصوصاً أنّ اللبنانيين يتعاطون مع الضغوطات الأميركية على أنّها من باب التهويل.
إقرأ أيضاً: جعجع لعون: بلا تكاذب بلا مسايرة!
من هنا اللجوء إلى الدبلوماسية الفرنسية (الأكثر اهتماماً بلبنان والأكثر انغماساً في الملفّات) لإضفاء المزيد من الصدقيّة على مهمّة بارّاك، الذي تقصّد خلال جولته في بيروت الإشارة إلى أنّ مقترحاته لا تعبّر عن الموقف الأميركي فقط، وإنّما هي ذات طابع دولي، بمعنى وقوف دول الخليج وأوروبا وأصدقاء لبنان، كما يصفهم، خلف هذه المقترحات.
إذاً هو تطابق دوليّ مع الأجندة الموضوعة على طاولة اللبنانيين، يعكس تكاملاً في الأدوار: الضغط لواشنطن، المتابعة التقنيّة لا سيما في ما خصّ الورشة الإصلاحية لباريس، والتمويل لدول الخليج.