بالغت قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله، وربّما بتسرّع وخفّة، في الوعد، على لسان الرئيس محمود عبّاس، بالاستعداد الكامل لتسليم السلاح الفلسطيني في لبنان. بدا أنّ في الأمر فائض ثقة لا يأخذ بالاعتبار أجندات بعض الفصائل، لا سيما حركة “حماس”، لكنّه، للمفارقة، كشف أيضاً عن فوقيّة وقلّة دراية بالمزاج الفتحاويّ داخل “الساحة اللبنانية”.
وضعت تلك الحقيقة ملفّ السلاح الفلسطيني في المخيّمات اللبنانية في واجهات مستجدّة، محمّلة بتعقيدات سياسية وأمنيّة. تضاربت الأنباء بين تفاهمات لتسليمه وتأكيدات رسمية فلسطينية تنفي ذلك. وبينما تكشف الوقائع عن انقسامات داخلية في صفوف الفصائل، تسعى السلطة الفلسطينية إلى إعادة ترتيب علاقاتها مع “فلسطينيّي لبنان” بعد موجة من الاعتراضات أعقبت زيارة الرئيس محمود عباس لبيروت في أيّار الماضي.
في الأوّل من حزيران 2025، وصل وفد من السلطة الفلسطينية إلى بيروت برئاسة عضو اللجنة المركزية لحركة “فتح” المشرف على الساحة اللبنانية، عزّام الأحمد، لمتابعة التفاهمات التي جرى التوصّل إليها خلال زيارة الرئيس عبّاس للبنان. تزامناً مع ذلك، كانت قد راجت أنباء عن خطّة ثلاثيّة المراحل لتسليم السلاح الفلسطيني، تبدأ بمخيّمات بيروت، ثمّ مخيّمات البقاع والشمال، وأخيراً مخيّمات الجنوب. لكنّ هذه التسريبات سرعان ما أثارت موجة من الاستياء في أوساط اللاجئين والفصائل في لبنان.
احتجاجات مضمرة
ظهرت احتجاجات مضمرة جرّاء استبعاد شخصيات وازنة من “فلسطينيّي لبنان” من عضوية اللجنة اللبنانية الفلسطينية المشتركة، وأثار غياب السفير الفلسطيني في بيروت أشرف دبّور وأمين سرّ فصائل المنظّمة في لبنان فتحي أبو العردات، تساؤلات إضافية عن مدى التنسيق الفعليّ مع مكوّنات الساحة الفلسطينية المحلّية.
ظهر بوضوح أنّ مسألة تسليم السلاح صارت أمراً مؤجّلاً
لكنّ الأحمد، في محاولة لامتصاص الغضب، أكّد أنّ اللجنة المشتركة هي لجنة رسمية من الدولتين، وليست مخصّصة للفصائل. وأشار إلى أنّ الاجتماعات التي عُقدت مع قيادات “فتح” في لبنان هدفت إلى توحيد الصف وترتيب البيت الداخلي لمواجهة ما وصفه بـ”حملات الشائعات والاستهداف”. وراح الأحمد يسوّق لرؤية طويلة الأمد كاشفاً عن أنّه في لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيّين ناقش سبل تحسين الوضع المدني والاجتماعي للّاجئين، خصوصاً من خلال تشريعات يعتزم رئيس البرلمان نبيه برّي العمل عليها، تتعلّق بحقّ العمل والتملّك للفلسطينيّين في لبنان.
الشعب الفلسطيني
ما كان همهمةً وهمساً خرج إلى العلن. ظهرت أعراض انقسام داخل حركة “فتح” في لبنان كشفت عن تباين بين نظرة السلطة الفلسطينية إلى “فتحها” وواقع الحركة في لبنان، التي قامت هياكلها على تراكم تفاهمات وتوليفات تناسلت من واقع يوميّات الوجود الفلسطيني في لبنان. وهو أمر يختلف مزاجه تماماً عن مزاج السلطة في رام الله. والواضح أنّ قرار إعفاء السفير الفلسطيني أشرف دبّور من منصبه نائباً للمشرف على الساحة اللبنانية هو نتاج صدام المزاجين.
لا مكان على الطّاولة
حين عُقد أوّل اجتماع فلسطيني – لبناني تلا زيارة الرئيس عباس، لم يجد “فلسطينيّو لبنان”، بمن فيهم السفير دبّور، مكاناً لهم داخل الوفد الفلسطيني. بدا الأمر مستغرباً غير منطقي يُفرض من فوق ولا يُشرك “أهل الدار” بشؤون راهن ومستقبل الحالة الفلسطينية في لبنان. لم يصدر حينها عن قادة “الساحة” الفتحاويّين مواقف امتعاض رسمية، لكنّ ذلك ظهر طبيعيّاً أو مفتعلاً في ردود فعل أعادت عزّام الأحمد إلى بيروت يحمل لهجة ومنطقاً جديدين.
يوحي تراجع السلطة الفلسطينية وصمت الدولة اللبنانية أنّ ما كان مناسبة احتفالية كبرى واثقة القول والعمل في أيّار الماضي، صار تفصيلاً هامشيّاً التهمته تطوّرات ما جرى لاحقاً
آنذاك نفى الرجل وجود أيّ قرار رسمي بتسليم سلاح المخيّمات، معتبراً ما نُشر في الإعلام “تسريبات غير دقيقة” ناتجة عن اجتماع تمهيدي للّجنة المشتركة، لا يمكن أن يُحسم فيه قرار بهذه الحساسيّة من دون وجود عسكريّين وفنّيين. لكنّ المواربة أتت من إعلانه أنّ أيّ اتّفاق لن يكون على أساس تسليم السلاح بل “وضعه أمانة” لدى الجيش اللبناني، مع احتفاظ الفصائل الفلسطينية بحقّ استرجاعه إذا اقتضت الضرورة.
أوضح فوق ذلك أنّ هذا الطرح ينسجم مع الموقف اللبناني الرسمي، وفق ما عبّر عنه الرئيس جوزف عون ورئيس الحكومة نوّاف سلام، الذي ينصّ على ألّا يكون هناك سلاح خارج سلطة الدولة. غادر حينها الأحمد لبنان ولم يعدْ كما وعد، من دون ظهور أيّ ردّ أو توضيحات مضادّة من قبل الدولة اللبنانية التي وعدت في “خطاب القسم” و “البيان الوزاري” بحصرية السلاح في يد الدولة.
ظهر بوضوح أنّ مسألة تسليم السلاح صارت أمراً مؤجّلاً. أظهر الأحمد اهتماماً بموقف الثنائي الشيعي من الأمر بما يمكن اعتباره تدثّراً بجدل لبناني- لبناني يُفترض أن لا يكون المسؤول الفلسطيني جزءاً منه. أشار الأحمد نفسه إلى أهمّية معرفة موقف “الحزب” وحركة “أمل”، باعتبارهما شركاء في القرار اللبناني.
تسعى السلطة الفلسطينية إلى إعادة ترتيب علاقاتها مع “فلسطينيّي لبنان” بعد موجة من الاعتراضات
“الحزب” يمنع التّسليم
لئن تتقدّم اليوميّات الفتحاويّة في لبنان، لا سيما منذ إعفاء دبّور وإقالة مسؤولين وإعادة هيكلة الجسم القيادي ومواصلة إجراء تحقيقات داخل أطر الحركة تجريها “لجنة رام الله”، فإنّ الأمر يخفي توجّهاً لـ”الحزب”، من خلال تحالفه مع حركة “حماس” وما يملكه من نفوذ داخل الفصائل الفلسطينية الأخرى، لبناء سدّ أمام “مبدأ” تسليم السلاح خشية أن يصبح سابقة تضغط لتسليم سلاحه. حتّى إنّ منابر الإعلام القريبة من “الحزب” تسلّط الضوء على خلافات فلسطينية تبرّر تأجيل “الملفّ”.
إقرأ أيضاً:
يوحي تراجع السلطة الفلسطينية وصمت الدولة اللبنانية أنّ ما كان مناسبة احتفالية كبرى واثقة القول والعمل في أيّار الماضي، صار تفصيلاً هامشيّاً التهمته تطوّرات ما جرى لاحقاً. تغيّر المشهد الإقليمي بعد الحرب الإسرائيلية على إيران والضربة الأميركية غير المسبوقة على منشآت نووية استراتيجيّة هناك. لم يعد تسليم السلاح الفلسطيني في لبنان مقدّمة لمرحلة لاحقة لتسليم “الحزب” سلاحه. حتّى بيروت لم تعد تستعجل ذلك بانتظار توافقات أو حروب أخرى تفرض واقعاً دوليّاً إقليميّاً جديداً على كلّ السلاح غير الشرعي في لبنان.