ملخص
أنتج إريك ساتي من الأعمال الموسيقية ما ألهم أجيالاً من شبيبة القرن الـ20 الموسيقية وليس الفرنسية أو الأوروبية وحدها، بل المنتمية إلى كثير من الآفاق والمشارب.
قبل 100 عام من يومنا هذا بالتمام والكمال، وتحديداً في الأيام الأولى من يوليو (تموز) عام 1925، توفي في مستشفى خيري في باريس متشرد لم يتذكر أحد كيف جيء به إلى هناك قبل أيام مخموراً غائباً عن الوعي لا يكاد يريد أحد من الممرضين أن يلمسه لقذارة ثيابه وهي عبارة عن أثمال بالية، والروائح المنبثقة منه وتوهان نظراته. والحقيقة أن الكل اعتقدوه متشرداً حقيقياً من أولئك الذين تمتلئ بهم أزقة باريس ويسقطون ويموتون من دون أن يعبأ بهم أحد.
لا أهل ولا أصدقاء ولا أي شيء من هذا القبيل. ومن هنا في الأيام الأولى لوجوده في المستشفى لم يتنبه أحد إلى أن المحتضر ليس في حقيقة أمره سوى واحد من أعظم الموسيقيين الذين عرفتهم فرنسا خلال الربع الأول من القرن الـ20، إريك ساتي.
في البداية لم يكن أحد يتصور أن ذلك السكير الشريد الوحيد والبائس الذي كان يبدو أكبر كثيراً من عمره البالغ يومها 59 سنة، هو صاحب عروض موسيقية كانت أقامت باريس ولم تقعدها خلال العقود الأخيرة من حياته، ومن بينها “الاستعراض” الفضائحي الذي حمل إلى توقيعه توقيعات لا تقل هيبة وأهمية عن توقيعات بابلو بيكاسو وجان كوكتو، واستعراض “سقراط” الذي تجرأ على ما كان يمكن لأحد أن يتجرأ عليه، الفيلسوف العقلاني الأول في تاريخ البشرية، ساخراً منه. كان اسم إريك ساتي يلمع كالذهب. لكنه حين مات في المستشفى في مثل هذه الأيام من ذلك العام البعيد كان أقرب إلى الطين وإلى القمامة.
على طريقة ديوجين
من المؤكد على أية حال أن المسؤولين في باريس، أهل الحياة الفنية والثقافية في مدينة النور، وسكان العاصمة بصورة عامة، ما إن تبينت لهم هوية الميت الحقيقية حتى تنادوا وأمنوا له جنازة تليق به. فكان تعويضاً لا بأس به حتى وإن كان هو غائب عن ذلك كله. واليوم ها هي فرنسا، ولمناسبة المئوية الأولى لذلك اليوم الأسود الذي أنهى حياة ذلك الموسيقي الاستثنائي، تمعن في تكريمه من خلال احتفال يمكن أن نقول إنه متواضع مقارنة بأهمية الرجل في عالم الموسيقى، إذ يكاد يقتصر حتى الآن في الأقل، على عرض قناة “أرتي” الثقافية الفرنسية- الألمانية، فيلماً وثائقياً عن حياته بعنوان “بين النوطات” يستغرق أكثر قليلاً من ساعة من الزمن، لكنه في تكثيفه وقوته يكاد يعادل ملفات كاملة عن حياة وموسيقى من يسميه الفيلم ذات لحظة “الأكثر غموضاً بين موسيقيي القرن الـ20 الفرنسيين”.
غلاف أسطوانة أحد الأعمال الموسيقية لساتي (أمازون)
والفيلم الذي أخرجه جورج مونرو خصيصاً للمناسبة، يركز على أية حال على ذلك الغموض منذ لحظاته الأكثر أهمية، أي منذ مشهد موت ساتي في المستشفى قبل أن يتعرف عليه أحد، مما يعطي الفيلم نكهة مقابرية تليق بالفنان الراحل نفسه.
وفي هذا السياق يتفوق الفيلم على نفسه حين يتراجع زمنياً بعد مفتتحه، ليكتشف لنا من خلال كاميرا تعرف تماماً كيف تلتقط مشاهدها، مما يسميه الراوي “البازار الذي كان الفنان يعيش في داخله في زمن بات يبدو أنه لم يعد يثير اهتمام أحد رغم أنه كان لا يزال قادراً على العطاء”. ومن هنا كان من الطبيعي أن يؤتى على ذكر الفيلسوف الإغريقي ديوجين الذي كان قبل الفيلم بألفيتين وأكثر يعيش عيش الكلاب في بازار مشابه.
أسطورة لم تختف
والحقيقة أن ذلك التشبيه مع الفيلسوف الكلبي الإغريقي الذي حمل مصباحه وأمضى حياته يقول إنه يبحث عن الحقيقة، لم ترد في الفيلم اعتباطاً، بل هي أتت مستعارة مما بات يحكى عن إريك ساتي في آخر سنوات حياته، ويبدو أنه سره إلى درجة أن داعبه ذات لحظة حلم أن يمسرح ويموسق حياة سلفه الكبير. لكنه وكما يبدو، أدرك أنه أكثر ميلاً إلى السخرية والتهكم من أن يستطيع نقل غضب ديوجين إلى الخشبة أو في الأقل كانت تلك حجته التي بررت كسلاً منعه من الدنو من ذلك الموضوع.
لكن الفنان في المقابل أنتج من الأعمال الموسيقية ما ألهم أجيالاً من شبيبة القرن الـ20 الموسيقية وليس الفرنسية أو الأوروبية وحدها، بل المنتمية إلى كثير من الآفاق والمشارب. وعلى رغم ذلك، يخبرنا الفيلم أن ثمة من إنتاجه، استلهامات موسيقية تفشت شعبيتها وشعبويتها طوال القرن الـ20، من دون أن يربطها مستخدموها باسم إريك ساتي. وهو على أية حال، ودائماً بحسب فيلم جورج مونرو، لم يسع أبداً إلى استعادة حقوقه فالشرب والجنون جعلاه في منأى عن المطالبة بتلك الحقوق. إلا أن الفيلم يقوم اليوم عن ساتي بالمهمة التي لم يقم هو بها. يحاول أن يستعيد له حقوقه، ولو متأخراً قرناً ونيف. ولكن ليس بصورة مباشرة، بل من خلال حوارات يجريها مع أهل الموسيقى أنفسهم لا سيما مع “علماء في الموسيقى بدا واضحاً أنهم أحبوا هذا الموضوع إلى درجة أن معظمهم قد تناوله بقدر كبير من الشغف والوله”.
تنويعات على موسيقى الشرق الأوسط القديم
أموال الموسيقى في بريطانيا “أعلى طبقة”
موسيقى الدمار… أو الرقص على قارعة الحرب
من السحر إلى السحالي: أغرب نظريات المؤامرة في عالم الموسيقى
ولن نعرف أبداً ما كان يمكن أن يكون عليه رد فعل إريك ساتي لو أنه حي بيننا واستمع إلى ما قالوه. هل تراه كان من شأنه أن ينحي سخريته المعتادة، التي قد تصل إلى قلة الأدب وقلة الذوق حتى تجاه نفسه؟
سؤال من دون جواب
سؤال لا يجيب عنه الفيلم، لكنه يترك لضيوفه ومعظمهم إما متخصص في موسيقى إريك ساتي وإما يحاول أمام الكاميرا أن يكتشفه اكتشافاً جديداً، معظمهم يتوقف طويلاً عند حكايات غريبة مأثورة عن ذلك الفنان الاستثنائي.
وهكذا يقارب البعض بين موسيقى ساتي والأدب المعروف باسم سار – بيلادان ويعد مثالاً على أكثر صفوف الآداب انحطاطاً. ويذكر بعضهم متفكهاً حكاية الإعادات البالغ عددها 850 إعادة خلال التدريب على بعض اللحظات الموسيقية في العمل المعروف بعنوان “إغاظات” تحت إشراف ساتي نفسه. وهو عمل يذكر الفيلم، بكل بساطة، أن تقديمه كاملاً يحتاج إلى 48 ساعة متواصلة!
وفي مجال حديثه عن هذا كله من طريق المحاورين أو مباشرة من طريق راوي الفيلم، لا يتوانى هذا الأخير عن تذكيرنا بأن إريك ساتي، الذي كان من عادته أن يعلن انتماءه مباشرة إلى أبينا آدم (!)، كان مضاداً لفاغنر على طول الخط. وكان هو من كبار مخترعي حداثة القرن الـ20 في الإبداع الموسيقي، على رغم توصيف بعض الضيوف له بأنه الفنان المثالي: الفنان من دون حقيبة تحوي مؤلفاته، وربما “لكي لا تغرق تلك المؤلفات في الخمر الذي لا يتوقف عن تناوله وفي إثمال حياته كمتشرد”.
ولكي يخترع الفيلم في النهاية هوية محددة لهذا الفنان في الذكرى المئوية الأولى لرحيله لم يتوان عن استعارة تعبير ابتكره الكاتب أنطونين أرتو يوماً للحديث عن فنسان فان غوخ، “منتحر المجتمع”… ولعل هذا التوصيف أفضل ما قدم من هدايا من طريق “بين النوطات” لإريك ساتي، في هذه المناسبة التي تحاول أن تعيد إليه الاعتبار.