سواء في استقباله في قصر الإليزيه في باريس أو في انتظار إطلالته من على منبر الأمم المتّحدة في نيويورك، أظهر الرئيس الشرع براغماتيّة مبهرة وقدرة على ولوج تحوّلات لم تكن متوقّعة. غير أنّ الأمر لا يرتبط حصراً بأداء النظام السياسي الجديد في دمشق لتفسير تلك النجاحات الخارجية، بل إنّ رعاية دولية، غربية خصوصاً، اندفعت منذ اللحظات الأولى لسقوط النظام السابق إلى الإيمان بالتحوّلات السوريّة ودعمها ومواكبتها وجعلها نهائيّة في عيون السوريّين ودول الإقليم والعالم أجمع.
تمثّل الاشتباكات الأخيرة في السويداء جانباً خطيراً من ملفّات أمن مفتوحة تبدو عصيّة على الترتيب والإغلاق. ولئن تنتهي تلك الواقعة، كما انتهى غيرها في مناسبات سابقة، بمجموعة من بيانات الشجب والإدانة وتدخّل الوجهاء لوقف إطلاق النار وتبويس اللحى وفرض حكمة “عفا الله عمّا مضى”، فإنّ ملفّ الأمن في الداخل السوري بقيَ مفتوحاً لم ترقَ معالجته إلى مستوى ما تصبو إليه “سوريا الجديدة” وما ينشده السوريون.
تتناقض تلك الواجهات الداخلية مع الإنجازات التي تحقّقها سوريا بقيادة الرئيس أحمد الشرع على المستوى الخارجي إلى حدّ الإعجاز. تمكّنت دمشق من إعادة الوصل مع العواصم الكبرى جميعها، وإعادة سوريا إلى حواضنها الطبيعية العربية والإسلامية. عادت أعلام بلدان العالم ترفرف فوق سفاراتها الدمشقيّة، فيما رفعت الولايات المتّحدة عقوباتها عن سوريا، وأبدى الرئيس دونالد ترامب إعجابه بالرئيس السوريّ.
سواء في استقباله في قصر الإليزيه في باريس أو في انتظار إطلالته من على منبر الأمم المتّحدة في نيويورك، أظهر الرئيس الشرع براغماتيّة مبهرة وقدرة على ولوج تحوّلات لم تكن متوقّعة
مهمة الإمساك بالبلد
يهتمّ المجتمع الدولي، بغربه وشرقه، بمصالحه في سوريا والمنطقة من حولها. ولئن يفرط موفد ترامب إلى سوريا، توم بارّاك، في تقديم جرعات المديح لسوريا ونظامها الجديد، وتفتح العواصم أبوابها أمام المسؤولين السوريّين، وتسكب الصحف الدولية حبراً كثيراً بشأن محادثات تجري على قدم وساق بين سوريا وإسرائيل، فإنّ كلّ ذلك مرهون بقدرة دمشق على الإمساك بالبلد وتخيّل “عقد اجتماعي” خلّاق باستطاعته توفير سلام أهليّ.
وجب الإقرار أنّ الانتهاكات ضدّ المدنيّين التي ارتُكبت في منطقة “الساحل” في آذار الماضي كارثيّة خطيرة، باعتراف دمشق، إلى درجة تشكيل لجنة تحقيق والوعد بمحاسبة الجناة، حتّى لو كانوا “أقرب المقرّبين”. ووجب الإقرار أيضاً أنّ العواصم الكبرى التي كان بإمكانها انتهاز تلك المناسبة لشنّ حملة على النظام الجديد، تعاملت مع الموقف بتفهّم نادر واضح المقاصد. لام الاتّحاد الأوروبي فلول النظام السابق على التسبّب بالمصيبة، وطالبت واشنطن دمشق بالاقتصاص من الفاعلين. لا أحد اتّهم الحكم الجديد للتوفير له هوامش التقدّم والتوسّع والاستقرار.
غير أنّ تقرير وكالة “رويترز” في الأوّل من تمّوز الجاري بشأن الواقعة، وما تضمّنه من اتّهام بتورّط أجهزة الدولة السورية الجديدة بها، يبعث بإشارة أولى بشأن ما يمكن لهذا الخارج أن يفتحه ويستخدمه عُدّة لمواقف قد تنقلب إلى عداء. بمعنى آخر، يريد هذا الخارج، الذي ما يزال راعياً تحوّلات سوريا، معالجة حقيقيّة لملفّات الداخل بمشاركة وازنة لمكوّناته بسبل ومخارج سوريّة لا يجيد غير السوريين حياكتها. صحيح أنّ لكلّ واقعة أسبابها وحيثيّاتها ودوافعها، لكنّ شؤون “العباد” هي مسؤوليّة أولي الأمر ومن مهمّاتهم الأولى.
أيّاً كانت توصيفات الاشتباكات بين ميليشيات وعشائر وعناصر متفلّتة وجماعات مشبوهة، فإنّ ذلك لا يغفل أنّ الأمر لا يتمّ بمعالجة أمنيّة مخصّبة بردع قد يكون مكلفاً
حكمة وتبصّر
يدرك أيّ مراقب من دون سذاجة أنّ لنظام سوريا الجديد أعداء كثراً من داخل سوريا ومن داخل الإقليم ومن داخل الدائرة الدولية الأوسع. ولئن أظهرت إسرائيل أكثر الواجهات خطورة حين وعدت بحماية الأكراد والدروز، على لسان وزير الخارجية جدعون ساعر، قبل أسابيع من سقوط نظام دمشق السابق، وذهبت بعد السقوط إلى شنّ هجمات عسكرية واحتلال شريط واسع من الأراضي السوريّة، فإنّ إيران و”حزبها” في لبنان لا يخفيان كراهيتهما لِما حلّ بنفوذهما، ولا يبرحان داخل دائرة الاتّهام في دعم أيّ قلاقل ضدّ النظام الجديد.
إقرأ أيضاً: دمشق – القامشلي: اتّفاق على استمرار الحوار
أيّاً كانت توصيفات الاشتباكات بين ميليشيات وعشائر وعناصر متفلّتة وجماعات مشبوهة، فإنّ ذلك لا يغفل أنّ الأمر لا يتمّ بمعالجة أمنيّة مخصّبة بردع قد يكون مكلفاً. ولئن خرج بيان عن وزارة الداخلية السورية يعتبر أنّ ما يجري في السويداء نتج عن غياب مؤسّسات الدولة الرسمية في المنطقة، فأدّى إلى تفاقم حالة الفوضى وانفلات الوضع الأمنيّ، فيما عجز المجتمع المحلّي عن احتواء الأزمة، بحسب بيان لها، تطرح تلك الحجّة على زعامات المنطقة ووجهائها ومراجعها الدينية أسئلة بشأن هذه الحقيقة، وتضع بالمقابل الدولة الوليدة أمام مسؤوليّاتها عن العجز عن التمتّع ببراغماتيّة ورشاقة أظهرتهما الدولة الجديدة في التعامل مع الخارج ومقاربة ملفّات حرجة بمرونة تحتاج إليها اللحظة التاريخية.
تدخّلت دمشق وربّما تأخرت في ذلك. نشرت وزارة الدفاع السوريّة قوّاتها في السويداء لوقف قتال قيل إنّه بين مقاتلين من الدروز والعشائر. انفجرت اشتباكات السويداء بعد أيّام على فشل اجتماع بين الرئيس السوري وقائد قوّات “قسد” الكرديّة، مظلوم عبدي، كان من شأنه دعم اتّفاقهما في آذار الماضي. اندلع قتال السويداء عشيّة إفراج لجنة تقصذي الحقائق السورية عن تقريرها بشأن أحداث “الساحل”. بات أمر الداخل داهماً يحتاج إلى حكمة وتبصّر حتّى لو كانت في الأمر تنازلات تكتيكيّة للدولة من أجل وحدة سوريا وأمان السوريّين، ومن أجل حماية تحوّل يدعمه الخارج ويسهر على استقراره.