ماذا يعني تصريح المبعوث الأميركي عن عودة لبنان إلى بلاد الشام؟ ما هي حيثيّاته التاريخيّة ووقائعه السياسيّة ودلالاته العميقة؟ وهل هو اجتهاد أو زلّة لسان أم أكثر من ذلك بكثير؟
مبعوث الرئيس الأميركي توم بارّاك المتنقّل بين تركيا وسورية ولبنان هو نمطٌ جديدٌ من الدبلوماسيّين ما عرفه اللبنانيون والسوريون من قبل. والذي يثير الاستغراب والإعجاب بشخصه وتصريحاته ومسالكه أنّه يتصرّف وكأنّه صاحب رأي وموقف، فهو ليس دبلوماسيّاً محترفاً في الأصل، بل رجل أعمال وصاحب شركات، وليست لديه عقليّة الموظّف ولا التابع، بل يعتبر نفسه صاحب مهمّة هو شديد الاقتناع بها ربّما لأنّه من أصل لبنانيّ.
إنّ كلّ هذه المدائح لبارّاك، إذا صحّ أنّها كذلك، مناسبتها ثلاثة تصريحات له خلال أسبوع، أهمّها الثالث منها. التصريح الأوّل: المشكلة اللبنانية هي من شأن اللبنانيين وعليهم إنجاز الحلول لها بسرعة، وإن أقبلوا على ذلك فالأميركيون وغيرهم على استعدادٍ للمساعدة. والتصريح الثاني، وقد بدأ يتعب من التردّد والمراوغة: اللبنانيون يريدون ملاعبتي بالطاولة، وأنا أريد ملاعبتهم بالشطرنج! أمّا التصريح الثالث والأخير، وقد تعب الرجل تماماً، فقد جاء فيه: إن لم يسارع اللبنانيون إلى معالجة مشاكلهم ومصائرهم، ومنها استمرار تراكم أسلحة “الحزب” من دون رقابة، فإنّ ذلك يعرّض لبنان لخطر التفتّت أو الانزلاق مجدّداً إلى مسارات إقليمية خطرة… إن لم يتحرّك لبنان فقد يعود إلى ما كان يُعرف ببلاد الشام! فموقع لبنان بين إسرائيل وسورية وإيران يجعل استقراره هشّاً.. والسوريون يعتبرون لبنان: منتجعهم الساحليّ!
مبعوث الرئيس الأميركي توم بارّاك المتنقّل بين تركيا وسورية ولبنان هو نمطٌ جديدٌ من الدبلوماسيّين ما عرفه اللبنانيون والسوريون من قبل
وعي عتيق
هذا الرجل ذو وعيٍ عتيق، فهو لم يذكّرنا بحقبة الأسد أو الأسدين، بل بالشام القديمة التي تشمل سورية ولبنان والأردن وفلسطين، أو هكذا كان يُطلق عليها حتّى أيّام العثمانيين. إنّ بارّاك ذا الوعي العتيق والعميق يريد التذكير بحقبةٍ ما كان فيها لبنان الدولة أو الكيان موجوداً، وهذه لحظة الرعب بالنسبة للمسيحيين اللبنانيين الذين يعتقدون أنّهم جاهدوا من القرن السادس عشر أو قبل ذلك لفصل جبل لبنان عن محيطه الإسلامي ثمّ العربي. لكنّ بارّاك ذا الوعي العميق والعتيق لا يعرف أنّ السياسيين المسيحيين الجدد وآخرين كثيرين ما عادوا يتذكّرون عهود ما قبل لبنان، بل أزمنة استتباع لبنان أو نظامه السياسي من جانب الأسدين ثمّ من جانب نصرالله!
الأحوال الحاضرة، أي وقوع لبنان بين إيران وسورية وإسرائيل كما ذكر أخيراً، هي الداخلة في الوعي الآن. ولذلك التهديد بسورية (باعتبار النظام الجديد تقليديّ مثاله الحقبة الكلاسيكية والأُمويّون) ليس موفّقاً. بل الأحرى والواقعي التهديد باستمرار الحرب الإسرائيلية على لبنان، واستمرار الاضطراب بالداخل اللبناني الناجم عن الصدمة الشيعية والثوران الارتداديّ. وقد تكون للإسرائيليين والأميركيين مطالب أُخرى بعد السلاح، وهي الموضوعات التي يثيرها اللبنانيون أكثر، لكنّ البارز الآن السلاح.
أعرف لبنانيّين مهاجرين كثيرين من القُدامى والمحدثين، لأنّني درّست بالجامعات الأميركية اثني عشر عاماً (1990-2002). والمهاجرون القدامى شديدو الاحترام للمتعلّمين ويفتخرون بأنّ من أولادهم وأحفادهم أساتذةً بالجامعة، وليسوا رجال أعمالٍ فقط. أمّا رجالات الفئة العاملة في الشأن العامّ، ومعظمهم من المسيحيّين ذوي الأصول الشاميّة (أي هاجر أجدادهم في الحرب الأولى أو قبلها)، فمشبعون بالشكاوى اللبنانية من عدم اهتمام أميركا بهم، أو عدم استغلال السياسيين منهم لنفوذهم من أجل خدمة لبنان ومسيحيّيه. وقد قال لي اثنان معروفان منهم إنّ المسيحيّين اللبنانيّين يعلّلون لجوءهم إلى إسرائيل ثمّ إلى الأسد بإعراض الولايات المتّحدة عنهم بعد تخلّي فرنسا الأمّ الحنون بسبب مصالحها مع العرب.
بهذه الخلفيّة جاء بارّاك إلى لبنان الذي استعاد جواز سفره اللبناني قبل سنوات، فهو يريد مساعدة لبنان بعدما استعجلت أورتاغوس، لكنّه يخضع للشروط نفسها، وربّما كان هو الذي طلب ذلك من صديقه ترامب. بيد أنّ ترامب يريد النجاح وهو قليل الصبر حتّى مع روسيا، فكيف يصبر على تخاذُل اللبنانيين في انتهاز الفرصة النادرة من وجهة نظره. وهذا التعقيد بين خيبة الأمل من المسيحيين في العقود الماضية وإرادة المساعدة ربّما لم يكن واضحاً منذ البداية في خطابه السرّي والعلنيّ، لكنّه لم يعد خافياً. إنّ أقصى ما استطاع المسؤولون اللبنانيون قوله له إنّهم لا يستطيعون نزع سلاح “الحزب” بالقوّة، وسيسهّل عليهم التفاوض على السلاح توقّف الإسرائيليين عن هجماتهم اليومية. وما ذكر الرجل مثَل الطاولة والشطرنج فقط، بل ذكر البيضة والدجاجة وأيّهما قبل، فهو عجوزٌ يحبّ الأمثال الدالّة على الخبرة.
الأميركيون يعلمون أنّ الشرع يستند إلى العرب والأتراك، في بناء النظام الجديد، وإلى الأميركيين في المشكلات مع إسرائيل ومع أكراد سورية الذين يحميهم العسكر الأميركي
النّظام الجديد غير مؤهّل
بارّاك معجبٌ بالخطوات السوريّة السريعة بالاتّجاه الذي يريده الأميركيون والعرب. والأميركيون يعلمون أنّ الشرع يستند إلى العرب والأتراك، في بناء النظام الجديد، وإلى الأميركيين في المشكلات مع إسرائيل ومع أكراد سورية الذين يحميهم العسكر الأميركي. وقّع الزعيم الكردي مظلوم عبدي اتّفاقاً مع أحمد الشرع لكنّه لم ينفّذه لثلاثة أسباب: ذوبان سلطة “قسد” في المناطق التي تسيطر فيها، وماذا تفعل “قسد” مع آلاف المسلّحين من حزب العمّال الكردستاني الذين قاتلوا معها، وعدم الأمان مع عناصر النظام الجديد الذين قاتلوها من قبل انطلاقاً من إدلب. بارّاك اتّصل بهم وأخبرهم أنّ الأميركيين سيغادرون وسيبقون هم محاصرين بين قوّات أحمد الشرع والقوّات التركية، وأنّ الفدرالية التي يطالبون بها ليست ممكنةً الآن ولا غداً ولا بدّ أن يكتفوا باللامركزية التي تحدّث عنها الدستور اللبناني الجديد، ووردت في الاتّفاق الأوّل مع الشرع. أمّا مخيّمات داعش ومكافحة الإرهاب فستظلّ من اهتمامات الشرع والأتراك والأميركيين. وها هو حزب العمّال يسلّم سلاحه في العراق وتركيا، فلماذا لا يسلّمه بسورية؟
… ليس صحيحاً أنّ النظام السوري الجديد يريد العودة إلى عهود بلاد الشام. فلا جذوره مؤهّلة لذلك، ولا الظروف الإقليمية والدولية تسمح بذلك. وهذا مثل طموحات أو أُمنيات إردوغان العودة للعهد العثماني، بينما هو يمارس بالداخل والخارج سياسات توازنيّة ما عُرفت قبل القرن الحادي والعشرين. خطاب أحمد الشرع خطاب ظروفٍ معاصرة، سواء بالداخل أم مع الخارج. هو يريد إعادة الوحدة الداخلية ويريد علاقات مسالمة مع من حوله، وعودة سورية للحياة الطبيعية من خلال العرب، ومن خلال الانضواء بقدر الإمكان تحت المظلّة الأميركية للوقاية من إسرائيل وفي الاصطفافات الدولية. لقد قلنا مراراً إنّ سورية القويّة تتيح لها التأثير في تركيا والعراق والأردن ولبنان، وأمّا سورية الضعيفة فتتدخّل فيها الأطراف الأربعة. وهذا الذي حدث في عهد بشّار الأسد. فقد دخلها “الحزب” من لبنان والميليشيات العراقية وحزب العمّال الكردستاني وميليشيات فاطميون وزينبيون مع الحرس الثوري الإيراني. فحتّى قوات أحمد جبريل قاتلت في سورية إلى جانب الأسد، وكذلك الحزب القومي السوري/اللبناني. والقوى الدولية التي تدخّلت هي روسيا والولايات المتّحدة والجيش التركي. ويظلّ داعش يتحرّك فيها حتّى الآن، وهو الذي قام بمذبحة الكنيسة بدمشق.
إقرأ أيضاً: السلام السوريّ – الإسرائيليّ: بين المعجَّل والمؤجَّل؟
ينذرنا توم بارّاك بأنّ بلاد الشام عائدة إن تخاذل اللبنانيون، وهم حتّى الآن متخاذلون (!). لكنّ شروط بلاد الشام أو سورية القويّة ليست متوافرة، ولن تتوافر خلال عقدٍ أو عقدين، وهذا إذا استقرّ النظام. وأحمد الشرع يصرّح في كلّ آنٍ أنّه لا يتدخّل في الشأنين العراقي واللبناني. لكنّ العراقيين واللبنانيين ما يزالون حذرين. فالسلطة العراقية سلطة شيعية، وقد أُخرج شيعة إيران والعراق و”الحزب” من سورية. وهو الواقع الذي أعجب الأميركيين.. والعرب، لكنّه لم يعجب بالطبع الإيرانيين وأنصارهم في سائر البلدان. قلت مراراً وتكراراً إنّ تصوّرات توماس بارّاك جديدة نسبيّاً. إذ إنّه قبل تأمّليّة بلاد الشام كان قد هاجم اتّفاقات سايكس بيكو (1917) التي قسّمت المنطقة حسب التصوّرات الاستعمارية، وبذلك صار السلام المنشود مستحيلاً بحسب كتاب ديفيد فرومكين: سلامٌ ما بعده سلام. ولا شكّ أنّ بارّاك قرأه ويستعدّ للقيام بمهمّته.