منذ عام 2022، تشغل فرانشيسكا ألبانيز منصب المقرّرة الخاصّة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ضمن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. محامية إيطالية متخصّصة في القانون الدولي، عملت سابقاً في المفوّضية الأممية لشؤون اللاجئين، وتوجّه اهتمامها نحو تحليل أنماط العنف والتمييز، تركيباتٍ بنيويةً لا أحداثاً منفصلةً. لم يكن ظهور اسمها أخيراً نتيجةً لحملة إعلامية أو مواقفَ مثيرة، وإنما بسبب تقاريرها التي زعزعت منطقاً راسخاً في النظام الدولي، ليس بما كشفته من مضمون فقط، بل بكيفية قولها ما لا يُقال. في تقريرها أخيراً “من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة”، رسمت ألبانيز خريطةً دقيقةً لاقتصاد قائم على القتل، يربط بين الهجمات العسكرية في غزّة والمصالح المالية لشركات غربية، تتقاطع أنشطتها مع دائرة العنف اليومي. استخدمت الوثيقة لغةً حقوقيةً صارمةً، ووضعت قائمةً صريحةً بمؤسّساتٍ متورّطةٍ في تمويل الإبادة أو الاستفادة منها. لم تترك الموضوع في مستوى الإدانة المجرّدة، بل نقلته إلى مستوى المساءلة القانونية المحتملة.
جاءت ردّة فعل إدارة ترامب على التقرير في هيئة عقوبات شخصية، محاولة لتحويل النقاش من مضمونه إلى صاحبه. لكن ما جرى لا يمكن قراءته تحرّكاً سياسياً عابراً، بقدر ما يعتبر (ويجب فهمه ضمن) منظومةً دفاعيةً أطلقها النظام الدولي عندما شعر بتهديد صادر من قلب النظام نفسه. لم تأتِ ألبانيز هنا من موقع احتجاجي خارجي، ولم تُقدّم نفسها صوتاً معارضاً، بل استخدمت شرعيّتها المؤسّسية لتقويض لعبة التوازن التي تُملي على الخبراء الدوليين ضبط نغمتهم بما لا يزعج المركز. لم تكتف ألبانيز بتقديم سردية مضادّة، بل زعزعت الانسجام الخطابي الذي يُتيح استمرار الجريمة تحت غطاء الحذر المؤسّسي الذي أدمنته البشرية في مواجهة توحّش الشركات الكُبرى. لم يكن موقفها انفعالاً أخلاقياً، بقدر ما كان ممارسةً دقيقةً للوظيفة الحقوقية بأقصى ما يمكن أن تحمله من دلالة. هي استخرجت من اللغة القانونية إمكاناتها القصوى، وربطت مفاهيم السيادة والربح والعنف ضمن شبكة من العلاقات القابلة للتفكيك والمحاسبة. تقاريرها لا تحتمل التجاهل، لأنّها تُصاغ في بنية تُغلق ممرّات الهروب، وتدفع السلطة إلى المواجهة المباشرة.
حين تردّ السلطة بالعقوبات، فهي لا تستهدف إسكات صوت، بل ضبط حدود القول داخل المنظومة. ما يُعاقَب ليس فقط التقرير، وإنما النموذج الذي يجسّده: خطاب قانوني لا يُهادن، صادر من امرأة مستقلّة، لا تمرّ عبر شبكات المصالح، ولا تخضع لاعتبارات الجغرافيا السياسية. تلجأ السلطة في مثل هذه الحالات إلى الردع، لا لأنها تمتلك تفنيداً مضادّاً، بل لأنها تريد إعادة ترسيم ما يُعدُّ “معقولاً” داخل المجال الدولي. العقوبة هنا هي من أشكال تنظيم اللغة، محاولة أخيرة لإبقاء القانون تحت السيطرة. تقف فرانشيسكا ألبانيز اليوم باعتبارها نموذجاً نادراً للوضوح في زمن اختلطت فيه الحقائق بالخطابات المنمّقة. لا تدّعي البطولة، ولا تدّعي حتى انحيازاً للضحية، فتؤدّي مهمّتها فقط، بشرف وبجدّية لا تسمح للنظام بأن يُدير وجهه. حضورها الحقوقي ليس احتفالاً بالثبات، بقدر ما يشكّل ممارسةً ذكيةً للوظيفة الحقوقية في أقصى درجات صدقها الممكن. وسط بحر من التقارير الرمادية والمواقف المائعة، تخرج وثائقها أدلّةً يمكن البناء عليها، لا بوصفها رأياً، بل بنية معرفة قادرة على إنتاج أثر قانوني وواقعي.
لهذا تستحق ألبانيز أكثر من ترشيح لجائزة نوبل للسلام. تستحق أن تُروى سرديةً قائمةً بذاتها، لا لأنها تخوض (شبه وحيدة) في موقعها معركةً ضدّ أنظمة كُبرى ونظام دولي متوحّش، بل لأنها أثبتت أن اللغة، حين تُستخدم بانضباط ومسؤولية، قادرة على فضح أكثر الشبكات تعقيداً. لهذا، يكفي أن تكون فرانشيسكا ألبانيز موجودةً بيننا كي نتذكّر أن البشرية، رغم كلّ ما أنتجته من خراب، ما زالت قادرةً على إنجاب امرأة تُعيد تعريف العدالة من داخل صلبها الصلب، لا قيمةً مثاليةً، بل حرفةً واعيةً، دقيقةً، لا تتراجع أمام فظاعة الواقع. وجودها نفسه حجّة لصالح الإنسان، شاهد نادر على أن اللغة حين تنجو من الاستعمال البليد، يمكنها أن تكون أداةَ مقاومة، وأن تكون امرأةً واحدةً، في هيئة دولية مثقلة بالتوازنات، وقادرةً على إعادة ترتيب الكفّة (ولو قليلاً) نحو العدالة، أو نحو محاولة العدالة.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News