لم تكن القضية الكردية في سوريا مجرد مطلب حقوقي معلّق أو نزاع إثني بسيط، بقدر ما كانت مرآة تعكس تشوهات بنيوية في طبيعة النظام السياسي السوري منذ نشأة الدولة الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى. يمكن فهم وضع الأكراد في سوريا بشرط العودة إلى تأسيس الدولة السورية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، بعد أن فرضت اتفاقية سايكس-بيكو وإرثها إعادة رسم الحدود، حيث ضُمت المناطق الكردية ضمن سوريا تحت الانتداب الفرنسي، الذي تناغم مع المصالح التركية الجديدة في ذلك الوقت. ومنذ ذلك الحين، لم تُمنح هذه الجماعة الحقوق السياسية والثقافية بشكل حقيقي، بل واجهت سياسة تهميش ممنهجة ارتكزت على رؤية قومية مركزية رأت التنوع تهديداً والأقليات أوراقاً يتم التلاعب بها بحس المصالح والتفاهمات الاقليمية.
أبرز مظاهر هذا التهميش كانت مصادرة الجنسية عن عشرات الآلاف في الحسكة عام 1962، إضافة إلى سياسات “الحزام العربي” التي هدفت لتغيير التركيبة السكانية، مع منع استخدام اللغة الكردية وتقييد فرص العمل في المؤسسات الحكومية. وبالنتيجة، تعكس هذه الخلفية أسباب المواقف المختلفة للأكراد من الثورة السورية، حيث شكلت سنوات الإقصاء الطويلة وعياً سياسياً خاصاً أتاح لهم التفاعل مع التحولات التي شهدتها البلاد منذ 2011؛ فقد فرضت مجموعة التفاعلات الأمنية والسياسية والعسكرية وترتيبات القوى الإقليمية أوضاعاً جديدة على الأكراد في سوريا و العراق و تركيا، الأمر الذي جعلهم في شتات دون الحصول على هوية قومية واضحة ومحددة.
سياسة الإلغاء والإنكار
عقب انقلاب 8 آذار/مارس 1963، تبنّى النظام السوري بقيادة حزب البعث سياسة منهجية للإلغاء الكامل للوجود الكردي، من خلال نزع الجنسية عن مئات الآلاف منهم (1962)، وتنفيذ مشاريع تهدف لتغيير التركيبة الديموغرافية مثل “الحزام العربي” وسياسات التعريب القسري، إضافة إلى إقصائهم من المناصب الحكومية والعسكرية. ولم تكن المعارضة السورية بمنأى عن هذا التهميش، إذ تجاهلت غالبية قواها السياسية القضية الكردية، مع وجود معارضين أكراد تصدروا المشهد، بل كثيراً ما اتُهمت الأحزاب الكردية التي طالبت بحقوقها بالخيانة، ما كشف عن خلل عميق في الوعي الديمقراطي والمجتمعي داخل المعارضة نفسها. اتبع النظام سياسة مزدوجة قوامها القمع المباشر وفتح قنوات غير معلنة للتفتيت الداخلي عبر زرع الانقسامات داخل المجتمع الكردي. شهدت بداية الألفية الثالثة بعض التحولات، خاصة في أجواء ربيع دمشق، حيث بدأ يظهر وعي جديد نسبياً بخصوصية المظلومية الكردية، لكن المواقف بقيت خجولة ومحدودة. ورغم قيام الكرد بانتفاضة شعبية في ربيع 2004، كشفت حجم الغضب المتراكم، فإن التضامن السياسي مع هذه الانتفاضة بقي باهتاً من قِبل المعارضة السورية، ما زاد من فقدان الثقة المتبادل، لا سيما بعد إعلان دمشق (2005) باعتباره وثيقة سياسية أطلقتها قوى المعارضة السورية، دعت إلى التغيير الوطني الديمقراطي السلمي وإنهاء الاستبداد. جمع الإعلان بين أطياف سياسية متنوعة، منها قوميون ويساريون وإسلاميون وكرد، في إطار وطني مشترك. وقد ركّز على بناء دولة ديمقراطية تعددية تحترم حقوق الإنسان والتنوع القومي والإثني واحترام الأقليات وعدم اقحامهم كأوراق ضغط في اللعبة الدولية.
الثورة السورية والكرد
مع بداية الثورة السورية 2011، سعى نظام الأسد إلى تسليم بعض المناطق الكردية لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي يعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، كخطوة استراتيجية للحد من توسع المعارضة والمظاهرات ضده، مع استمرار التنسيق الأمني بين الطرفين، واستبعاد العشرات من الأحزاب والناشطين الأكراد المستقلين، حتى بالعنف والاغتيال. وفي الوقت ذاته، كان هناك من بادر مبكراً إلى دعم الثورة، خصوصاً الحراك الشبابي الكردي الذي خرج في مظاهرات عامودا والدرباسية والقامشلي، وشارك بفعالية في التظاهرات والعمل السياسي من خلال المجلس الوطني السوري وغيره من هيئات المعارضة. هؤلاء رأوا في الثورة فرصة لبناء وطن يتسع للجميع، بعيداً عن هيمنة نظام أمني مركزي طالما همّشهم.
على المستوى الاجتماعي، واجه المجتمع الكردي تهميشاً مركباً: اقتصادياً من خلال الإفقار والحرمان من المشاريع التنموية، سياسياً عبر إقصاء ممثليه الحقيقيين، وتعليمياً من خلال فرض اللغة العربية ومنع التعليم باللغة الكردية، مما تسبب في موجات هجرة داخلية وخارجية تركت المناطق الكردية فارغة من كفاءاتها وشبابها، حيث بلغت نسبة المهاجرين من الفئة العمرية 18-30 عاماً نحو 90%.. حتى داخل المعارضة، ظلت مواقف رموزها متحفظة تجاه مطالب الكرد، كأنهم لا يملكون الحق في خصوصيتهم القومية، وظهر هذا جلياً في تأخر انخراط الأحزاب الكردية في الائتلاف الوطني لقوى الثورة.
تمايزات داخلية لا انقسام
من المهم التأكيد أن المجتمع الكردي لم يكن كتلة متجانسة، بل شهد انقسامات وتمايزات متعددة بين مؤيد ومعارض ومتحفظ، ومشارك سياسياً أو عسكرياً أو مراقباً، وهذه التعددية تعبّر عن واقع مركب كان من الممكن أن يشكل قوة لو توفرت شراكة وطنية حقيقية تحت مظلة مشروع سوري جامع. مع انهيار السلطة المركزية للنظام في مناطق الشمال الشرقي منذ 2011، سيطر حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) على هذه المناطق، مستنداً إلى دعم أيديولوجي وتنظيمي من حزب العمال الكردستاني، حيث أسس الحزب وحدات حماية الشعب والمرأة (YPG/YPJ)، وشكل مؤسسات إدارية وتعليمية تخدم الهوية الكردية، وفرض نموذج حكم ذاتي مستلهم من فكر عبد الله أوجلان، مما شكّل نقطة تحوّل في تطور القضية الكردية من مطلب حقوق داخل الدولة إلى مشروع حكم موازٍ قائم بذاته. وفي عام 2015، تم الإعلان عن تشكيل قوات سوريا الديمقراطية (SDF) كتحالف عسكري متعدد الإثنيات بقيادة كردية، وبرعاية أميركية، وله دور مركزي في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وفتح أمام المشروع الكردي أفقاً جديداً يمتد إلى مناطق عربية وسريانية.
أرسى التحالف نموذجاً جديداً للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا على أساس الكونفدرالية الديمقراطية، مع مبادئ المساواة بين الجنسين والتعليم بلغات متعددة، رغم الهيمنة الأمنية والعسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي المرتبط بحزب العمال الكردستاني. تتسم علاقة حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية بحزب العمال الكردستاني بالتكامل الأيديولوجي والتنظيمي و التنسيق الاستخباري لصد العمليات الهجومية و تريب الشؤون الإدارية، حيث تستند المؤسسات التعليمية والإعلامية والإدارية إلى فكر أوجلان، ويشغل مقاتلو وحدات حماية الشعب والمرأة وقوات سوريا الديمقراطية من تدربوا ضمن صفوف حزب العمال الكردستاني مراكز قيادية، ما يمنح المشروع الكردي في سوريا طابعاً فريداً لشبكة حكم ما بعد الدولة، تعتمد على شرعية محلية دون اعتراف دولي رسمي.
صراعات وتوازنات جيوسياسية
يُشكّل صعود الأكراد ومشروع قوات سوريا الديمقراطية مصدر توتر رئيسي في الإقليم، فتركيا تعتبر المشروع تهديداً وجودياً، فتشن عمليات عسكرية متكررة لتفكيك الوحدات الكردية ومنع إقامة كيان كردي على حدودها، بينما كان النظام السوري يرفض الحكم الذاتي الكردي بشكل قاطع لكنه يلجأ إلى تنسيق جزئي حفاظاً على مصالحه في مواجهة التهديد التركي. هذا التنسيق دفع تركيا إلى شن عدة عمليات عسكرية في الشمال السوري تحت ذرائع عديدة. في الفترة بين 2016 و2019، نفّذت تركيا ثلاث عمليات عسكرية كبرى في شمال سوريا، كان لها تأثير عميق على الخريطة الميدانية والديموغرافية للمنطقة. بدأت بـعملية “درع الفرات” (2016–2017) التي استهدفت طرد تنظيم “داعش” من مناطق مثل الباب وجرابلس، لكنها في العمق هدفت إلى منع تشكّل تواصل جغرافي بين مناطق الإدارة الذاتية الكردية شرق وغرب الفرات. ثم جاءت عملية “غصن الزيتون” (2018)، حيث اجتاحت القوات التركية و”الجيش الوطني السوري” منطقة عفرين الكردية، ما أدى إلى سيطرتهم الكاملة على المدينة، ونتج عن ذلك تهجير عشرات الآلاف من سكانها الأكراد، وسط تغييرات ديموغرافية واسعة. وفي عملية “نبع السلام” (2019)، تقدّمت القوات التركية في منطقتي تل أبيض ورأس العين، ما تسبب في نزوح واسع للسكان المحليين، وظهرت اتهامات واسعة بانتهاكات ارتكبتها الفصائل المدعومة من أنقرة بحق المدنيين. أما بالنسبة للولايات المتحدة تعتمد على قوات سورا الديمقراطية كشريك عسكري في الحرب على داعش، لكنها تتهرب من الاعتراف السياسي بها، حفاظًا على علاقتها بتركيا، مما يولد توترات مستمرة وشعورًا بالخيانة لدى الأكراد.
يمثل المشروع الكردي في شمال سوريا نموذجاً سياسياً معقداً بين التمرد التقليدي وبناء شكل جديد من الحكم ذي طبيعة ما بعد الدولة وما دون الدولة على اعتبار أن الإرث الكردي متوزع على ثلاث دول، يجمع بين المقاومة والتكتيك العسكري والشرعية المحلية. رغم التطور اللافت، يواجه هذا المشروع تحديات مصيرية تتمثل في التصعيد التركي، التردد الأميركي، ومعارضة دمشق، مما يجعل مستقبله مرهوناً بقدرته على التكيف والمفاوضة ضمن واقع إقليمي لا يزال معادياً للطموحات الكردية. يقودنا هذا الجزء من النقاش إلى القول إن إهمال أو تهميش أي مكوّن من مكونات الشعب السوري، كالذي حصل مع الأكراد، يقوض فرص بناء دولة سورية جديدة تقوم على المواطنة والمساواة، حيث يكون الجميع شركاء حقيقيين في القرار والمصير.