كيف يؤثر نزع سلاح حزب العمال الكردستاني على تركيا وسوريا والعراق…. المصدر: العرب

السليمانية (كردستان العراق) – في 11 يوليو 2025، شهدت مدينة السليمانية في إقليم كردستان العراق حدثًا مفصليًا في تاريخ الصراع الكردي المسلح تمثّل في حفل نزع سلاح حزب العمال الكردستاني، حيث قام 26 مقاتلًا من الحزب، إلى جانب أربعة من قادته، بتسليم أسلحتهم وحرقها في مشهد رمزي بحضور رسمي وشعبي. وحضر الحفل ممثلون عن حكومة إقليم كردستان، وصحفيون، ومراقبون دوليون، في لحظة وُصفت بأنها تاريخية.

وترى الباحثة في شؤون الشرق الأوسط بينار دينك في تقرير نشره موقع ذي كونفرسيشن أن هذا الحدث لا يعكس فقط نهاية محتملة لواحد من أطول النزاعات المسلحة في تركيا، بل يفتح أبوابًا واسعة لتغيرات جيوسياسية في تركيا وسوريا والعراق، ويعيد رسم موازين القوى في المنطقة في ظل تحولات إستراتيجية متسارعة.

وخاض حزب العمال الكردستاني، الذي تأسس في أواخر سبعينيات القرن الماضي، تمردًا مسلحًا ضد الدولة التركية على مدار أكثر من أربعة عقود، في محاولة لنيل حقوق سياسية وثقافية للأكراد داخل تركيا.

وقد تسبب هذا الصراع في مقتل أكثر من 40 ألف شخص، وأدى إلى تهجير الآلاف وتدمير مئات القرى، وساهم في تكريس حالة من العداء والتوجس المتبادل بين الدولة التركية والمجتمع الكردي. ومع أن هناك محاولات سابقة لوقف إطلاق النار، أبرزها عام 2013، إلا أنها لم تصمد طويلًا.

وتجددت المواجهات مجددًا في 2015 حين انتهت تلك الهدنة، لتعود العمليات العسكرية المكثفة التي شاركت فيها القوات التركية عبر الحدود مع العراق وسوريا مستهدفة قواعد الحزب ومواقعه. ويأتي نزع السلاح في هذه المرحلة كمحصّلة طبيعية لتحولات عميقة يشهدها الإقليم. وفي سوريا، تراجعت سيطرة الأكراد نسبيًا على الأرض بعد سنوات من الإدارة الذاتية الفعلية التي دعمتها الولايات المتحدة خلال الحرب على تنظيم داعش.

ومع بروز حكومة سورية جديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، بدأت المفاوضات مع قوات سوريا الديمقراطية ( قسد)، والتي يشكل الأكراد عمودها الفقري، بهدف دمجها ضمن مؤسسات الدولة. إلا أن دمشق ترفض منح أي صيغة من الحكم الذاتي وتصرّ على مركزية القرار، في وقت باتت فيه الإدارة الذاتية الكردية أكثر ضعفًا سياسيًا نتيجة تغير التحالفات الدولية، وتراجع الدعم الأميركي تدريجيًا.

وعلى الصعيد التركي، فإن إعلان حزب العمال الكردستاني تخليه عن الكفاح المسلح يأتي متزامنًا مع اعتراف نادر من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأخطاء الدولة في تعاملها مع القضية الكردية.

وأشار أردوغان إلى عمليات تهجير قسرية، وحرائق القرى، وانتهاكات طالت المدنيين، وصرّح بأن الجميع دفع ثمن هذه الأخطاء، مؤكدًا أن تركيا بدأت صفحة جديدة. وتعد هذه التصريحات تحوّلًا ملحوظًا في خطاب السلطة الحاكمة التي كانت ترفض سابقًا الاعتراف بأي مسؤولية تاريخية، وتتعامل مع المطلب الكردي من منظور أمني بحت.

ويحمل إعلان أردوغان عن تشكيل لجنة برلمانية للإشراف على عملية السلام دلالات جدية، وربما يؤشر إلى بداية عدالة انتقالية تسعى لمداواة جراح الماضي، شريطة أن تتبعها خطوات مؤسساتية حقيقية في التشريع والإدارة والمساءلة.

ولكن يبقى التحدي الأساسي متمثلًا في جدية الدولة التركية في إنجاح هذا المسار. فعلى الرغم من رمزية نزع السلاح، ما تزال بعض المؤسسات الرسمية تعتمد خطاب “مكافحة الإرهاب”، وتُبقي على آلية تعيين أوصياء حكوميين بدلًا من المنتخبين في البلديات ذات الغالبية الكردية، كما تستمر محاكمات السياسيين والنشطاء الأكراد.

وإذا استمرت هذه الممارسات، فإنها ستقوض الثقة في العملية السياسية، وتحرم المجتمع الكردي من حقه الطبيعي في التمثيل والمشاركة. ويرى محللون أنه دون إصلاح دستوري يضمن الاعتراف بالهوية الكردية وحقوقها الثقافية والسياسية، فإن المسار قد يتحول إلى لحظة رمزية لا أكثر.

وأما في العراق، فقد ظلّت جبال قنديل ملاذًا آمنًا لحزب العمال الكردستاني لعقود، مما جعلها محورًا دائمًا للتوتر بين تركيا والعراق. وتنفذ تركيا باستمرار عمليات عسكرية عبر الحدود بزعم ملاحقة مقاتلي الحزب، وهو ما تعتبره بغداد خرقًا لسيادتها.

ويمكن لنزع سلاح الحزب أن يساهم في تخفيف هذه التوترات، ويتيح لحكومة بغداد المطالبة بإخراج القوات التركية من أراضيها. كما يمكن أن يعزز من سلطة حكومة إقليم كردستان التي طالما شعرت بأن وجود الحزب يقوّض استقرار الإقليم، ويضعه في مرمى التصعيد التركي. وتلعب التغييرات الاقتصادية في شمال العراق هي الأخرى دورًا مهمًا في هذا السياق.

ويشير توقيع اتفاقيات إستراتيجية بين أربيل وشركات روسية لبناء محطات طاقة واستثمارات في التعدين إلى رغبة الإقليم في التحول إلى لاعب اقتصادي إقليمي متقدم. وقد تكون نهاية النشاط العسكري لحزب العمال الكردستاني شرطًا ضمنيًّا لتأمين هذه الاستثمارات، وإبعاد خطر العمليات العسكرية التركية عن المشاريع الاقتصادية الكبرى.

وأما تركيا، فإنها تنظر إلى استقرار حدودها الجنوبية باعتباره أمرًا ضروريًا في ظل تقلبات الوضع الإقليمي وتزايد الضغوط الاقتصادية المحلية، خصوصًا مع استمرار النزاع في سوريا، والحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة، والتوترات الأميركية الإيرانية. وفي السياق السوري، فإن غياب حزب العمال الكردستاني عن المشهد المسلح يضعف موقف الإدارة الذاتية في شرق الفرات، التي تستمد جزءًا من قوتها الرمزية من ارتباطها بالحزب.

وهذا قد يدفع دمشق إلى تسريع محاولات استعادة السيطرة الكاملة على تلك المناطق، مدفوعة بسكوت أميركي متزايد. وتعكس التصريحات الأخيرة للمبعوث الأميركي إلى سوريا، توماس باراك، التي دعا فيها إلى الاعتراف بوحدة الدولة السورية وتخلي الأكراد عن مطلب الحكم الذاتي، انحسار الدعم الدولي للتجربة السياسية الكردية في سوريا.

ومن جهة أخرى، فإن تركيا التي تنظر إلى الإدارة الذاتية على أنها امتداد لحزب العمال الكردستاني، قد تجد في هذا التحول فرصة لتقليل التهديدات على حدودها، وتعزيز التنسيق الأمني مع النظام السوري رغم التباين السياسي. ويشير مراقبون إلى أن نزع سلاح حزب العمال الكردستاني قد يكون الخطوة الأولى نحو تسوية شاملة للقضية الكردية، لكنه لا يكفي بمفرده.

ويتطلب الأمر إصلاحات دستورية وقانونية شاملة، وضمان حقوق التمثيل السياسي والثقافي، وفتح الباب أمام العدالة الانتقالية لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الماضية. كما يجب أن يشمل إعادة دمج المقاتلين في المجتمع من خلال برامج اقتصادية وتعليمية تضمن لهم حياة كريمة، وتمنع عودتهم إلى العمل المسلح بسبب الإقصاء أو التهميش.

وفي الوقت ذاته، فإن استمرار استخدام خطاب “مكافحة الإرهاب”، والإصرار على تجريم النشاط السياسي الكردي، قد يؤدي إلى إفراغ خطوة نزع السلاح من مضمونها، ويحوّلها إلى مجرد هدنة مؤقتة سرعان ما تنتهي في ظل غياب الثقة والمؤسسات الضامنة.

ومن جانب آخر، فإن تراجع قوة حزب العمال الكردستاني لا يعني نهاية الطموحات الكردية في الإقليم. وعلى العكس، ربما تشهد المرحلة المقبلة تحولات في شكل الحراك الكردي، من العمل المسلح إلى النشاط المدني والسياسي والثقافي، سواء في تركيا أو سوريا أو العراق، وهو ما يتطلب من حكومات هذه الدول تبني مقاربات جديدة أكثر شمولًا وإنصافًا.

وستلعب التحالفات الإقليمية والدولية دورًا حاسمًا أيضًا في مستقبل العملية السياسية. إذ تُبدي بعض القوى الدولية، كإسرائيل مثلًا، مصلحة في بقاء الأكراد كقوة ضغط في وجه الأنظمة التقليدية، بينما تفضل واشنطن توافقًا مع دمشق يضمن أمن الحدود ومحاربة الإرهاب دون تقوية النفوذ الإيراني.

وبين هذه المعادلات المتشابكة، تقف تركيا أمام لحظة تاريخية نادرة قد تسمح لها بتجاوز إرث عقود من العنف، وبناء دولة أكثر شمولًا تستوعب كافة مكوناتها. غير أن نجاح هذا المسار يظل رهينًا بقدرة القيادة التركية على مغادرة مربع الأمن والخوف، والانتقال الحقيقي نحو الشراكة السياسية مع الأكراد وغيرهم من الأقليات.