ملخص
قلت في نفسي هل حتى جاليتنا قاطعت المكتبات؟ هل ما عادت هذه الجالية الجزائرية التي تحل كل صيف بمئات الآلاف على أرض الوطن لتقضي عطلتها مع الأهل والأقارب والأصدقاء منشغلة بأمر الكتاب؟ هل فقدت الثقة بما ينشر من كتب في البلاد؟ أم هل أن الجيل الجديد من هذه الجالية يدخل في سلوك جديد يتمثل عدم اكتراثه بالشأن الثقافي الوطني وبالأساس الكتاب.
البارحة زرتُ مكتبة شهيرة لبيع الكتب الموجودة بحي الشراقة غرب مدينة الجزائر العاصمة، والذي يعد منطقة حيوية اقتصادياً وتجارياً وعمرانياً وفيه تقيم ساكنة معتبرة من الطبقة الوسطى العاصمية أو القادمة من المدن الأخرى، الأطباء والمهندسون ورجال الأعمال والجامعيون والمحامون والقضاة والنخب السياسية والبيروقراطية، وبهذا المعنى توجد المكتبة في موقع إستراتيجي، وهي مكيفة وبطابقين فسيحين، وأمضيت هناك ما يزيد على أربع ساعات، أي نصف نهار كامل، وللتذكير أيضاً فإن المكتبة عريقة ومعروفة وتضم كتباً متنوعة، أدبية وتاريخية وسياسية ودينية، منها ما هو جديد وهناك القديم أيضاً، بالعربية والفرنسية ومن كل التيارات السياسية والجمالية والفكرية، كتب لأسماء كبيرة جزائرية وعربية وعالمية، ولمدة أربع ساعات لم يدخل المكتبة قارئ واحد ولم يتخط عتبة المكتبة الفسيحة قارئ واحد، وعلى مدى أربع ساعات تعادل نصف مداومة يومية، لم تبع المكتبة كتاباً واحداً لا بالعربية ولا بالفرنسية، ولم يسأل أحد عن كتاب واحد لا بالعربية ولا بالفرنسة؟
غادرت المكتبة بخيبة كبيرة مصدوماً وحزيناً لهذا الواقع الذي آل إليه حال الكتاب والقراءة وحال المكتبات، وتساءلت هل هذه القطيعة الثقافية الأدبية الفجائعية هي قطيعة صيف فقط؟ هل سحابة صيف ستنجلي لتعود الحياة إلى مجراها الطبيعي بعد مجيء الخريف والشتاء؟ أم هي إعلان عن هاوية ثقافية سحيقة وتغير كارثي في علاقة الجزائري بالكتاب والمكتبات؟
مع ذلك، وفي كل الأحوال، علينا أن ندق ناقوس الخطر الذي بات يهدد حياة المكتبات، فهي الرئة التي تمد المجتمع بهواء فكري نقي، والبلد الذي تموت فيه المكتبات يموت فيه الحلم، والبلد الذي تغلق فيه أبواب المكتبات تفتح فيه أوتوماتيكياً أبواب السجون وتشرع فيه أبواب التسرب المدرسي ويسود فيه الضياع ويكثر فيه الانتحار بكل أشكاله.
إلى وقت قريب كان الصيف في الجزائر فرصة للمكتبات للقاء قارئ جديد، إنه القارئ الجزائري المقيم في المهاجر، وبخاصة في فرنسا وكندا حيث هناك جالية معتبرة وتعد بالملايين، وهي بالأساس مشكلة من القارئ الفرنكفوني، فكلما حلّ الصيف كان هذا القارئ يجيء لملء سلته من الكتب الجزائرية التي يأخذها معه إلى بلاد المهجر، بخاصة تلك التي ليس لها حظ التوزيع بالخارج، وأكثر من ذلك فالكتب المعروضة في المكتبات الجزائرية تكون أسعارها رخيصة إذا ما قورنت بأسعار الكتاب في فرنسا أو كندا أو الدول الأوروبية، وقلت في نفسي هل حتى جاليتنا قاطعت المكتبات؟ هل ما عادت هذه الجالية الجزائرية التي تحل كل صيف بمئات الآلاف على أرض الوطن لتقضي عطلتها مع الأهل والأقارب والأصدقاء منشغلة بأمر الكتاب؟ هل فقدت الثقة بما ينشر من كتب في البلاد؟ أم هل أن الجيل الجديد من هذه الجالية يدخل في سلوك جديد يتمثل عدم اكتراثه بالشأن الثقافي الوطني وبالأساس الكتاب.
إنها ظاهرة اجتماعية جديدة يعيشها الجيل الجديد من جاليتنا ويجب تفكيكها وقراءتها جيداً على المستوى اللغوي والسياسي والثقافي والحضاري، لأن هذه الجالية بما تمثله من رصيد بشري وثقافي وسياسي واقتصادي لا يمكنها أن تكون مرتبطة مع بلدها من خلال الخطاب السياسي والإعلامي كي تكون هذه الجالية مندمجة في هويتها وثقافتها ومتماهية مع خصوصية شخصيتها ومنفتحة على العالم انطلاقاً من البلد الذي تقيم فيه، وعليها أن تكون على تواصل عميق مع قيم بلدها على المستوى الروحي والرمزي، ولن يكون ذلك ممكناً إلا من خلال الاطلاع المتواصل على ما ينتج من كتب في مختلف الميادين الأدبية والتاريخية والاقتصادية واللسانية والهوياتية لكُتّاب من الأجيال المتعاقبة والتيارات المختلفة.
ثم تساءلت وأنا في حال من الصدمة مما شاهدته من غياب للقارئ في المكتبة، فهل للصيف بما له من طقس حار يد في ظاهرة العزوف عن القراءة وزيارة المكتبات من قبل المواطن المقيم والمهاجر على حد سواء؟
لقد أشار طه حسين في كتاب سماه “من لغو الصيف” نشر عام 1966 إلى هذا الوضع، إذ يتحول الصيف إلى فصل للاسترخاء والتسلية ويقل فيه الجد ويكثر فيه الهو واللغو عكس فصل الشتاء الذي يتميز بالعمل والمثابرة، وإننا اليوم نقف على وضع كارثي يعيشه الكتاب والمكتبات مقارنة بما كان يجري أيام طه حسين، فقد زادت أيام الصيف التي أصبحت تمتد من مايو (أيار) إلى نهاية سبتمبر (أيلول) ومطلع شهر أكتوبر (تشرين الأول)، ومعه زاد الكسل وتضاعف العزوف عن القراءة وهرب الناس إلى قيلولة تمتد من منتصف النهار حتى سقوط الليل.
الطقس بحرارته العالية كما السياسة كما الوضع الطبقي، يخلق حالاً سيكولوجية خاصة ومحددة قد تلقي بظلالها على القارئ والمبدع على السواء، وبالتالي يكون لها بصورة أوتوماتيكية إسقاطات سلبية على الكتابة الإبداعية والقراءة أيضاً.
الكتابة الأدبية كما القراءة في مناخ بارد، كما هي الحال في أوروبا، تكون بصورة عامة ثرية ومتنوعة وتخلق حالاً من التراكم الرمزي للتواصل بين الأجيال، فالإنسان المبدع كما القارئ حين يعيش في بلد بطقس بارد تكون أفكاره هادئة، وفي مثل هذا الوضع البارد يبحث المواطن عن دفء فيعثر عليه في القراءة والكتابة أو في فنون الإبداع الأخرى، وفي ظل الطقس البارد يتعاطى المبدع الكاتب والقارئ الأدبي على حد سواء مع العالم الذي يعيشان فيه بنوع من التأمل والهدوء، أما في عالم الجنوب حيث يسود معظم شهور العام مناخ حار، مما يجعل الكتابة على مرجل والقراءة على قلق، وفي مثل هذا الوضع المناخي تتميز الكتابة والقراءة بمزاج حاد ومتذبذب، ففي صيف بلدان الجنوب يسود الكسل ويتراجع الإنتاج الثقافي والإبداعي المرتبط بالتفكير.
في العالم الحار القائظ، كما عندنا في صيفنا الطويل، يفتقد الكاتب قوة التركيز وتغيب متعة القراءة عند القارئ مقارنة مع وضعهما في بلد أو منطقة تتمتع بمناخ بارد، فالحرارة الزائدة في بلدان لا تتوافر فيها شروط مواجهة هذا الوضع القاسي تشتت الذهن وتفرغ القراءة من بهجتها وانسيابها، إذ يستحيل الجلوس للقراءة أو الكتابة لساعات متواصلة، ولذلك أعتقد أن سلطة المناخ فاعلة في الكتابة والقراءة وتكريس المواطنة أيضاً.
ويذكرنا تاريخ الكتّاب في بلدان الجنوب بأن كثيراً من الموهوبين منهم حين انتقلوا إلى بعض بلدان الشمال تضاعف إبداعهم وتنوع وتعمق، وأتحدث هنا عن أولئك الكُتّاب الذين لم يبيعوا ضمائرهم وظلوا يكتبون نصوصاً من الداخل وبحسّ نقدي وجمالي مستقل، ومن باب التذكير فهناك نصوص روائية مدهشة في تاريخ أدب الجنوب من شمال أفريقيا والشرق الأوسط كتبها أصحابها في إقاماتهم بالشمال، ومنها رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للسوداني الطيب صالح، ورواية “الحي اللاتيني” لسهيل إدريس، و”عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم، وثلاثية الشمال لمحمد ديب “سطوح أرصول” و”إغفاءة حواء” و”ثلوج المرمر”، أو نصوص الكاتب النيجيري وولي سوينكا الحاصل على “جائزة نوبل”، أو الصومالي نور الدين فرح أو الجيبوتي عبدالرحمن وابيري وغيرهم، فإذا كانت الطبيعة قد منحتنا طقساً حاراً وصيفاً طويلاً قاسياً فهذا لا يعني الاستسلام للأمر الواقع، بل على العكس من ذلك تجب مقاومة هذا الكسل والعزوف عن القراءة، وفي المقام الأول على أصحاب القرار التفكير في توفير ظروف صالحة للقراءة والكتابة في ظل هذا المناخ القائم، لأن الوطن لا يمكن أن يُبدل والمناخ الوطني ليس قطعة غيار نأتي بها من الخارج لتبدل بأخرى.