في تقرير لـ “اندبندنت عربية” تكشف وثائق بريطانية عن أن الإخفاق بتطبيق وسائل الردع غير العسكرية والاحتواء انتهى باستبدال سياسة الدبلوماسية الوقائية بالتدخلات المباشرة
ملخص
لقد أثبتت الوقائع على امتداد ما يسمى بـ “القرن الأميركي” أن التفوق العسكري الأميركي لا يصنع سلاماً بل يخلق مزيداً من الكوارث، وبانكفاء أميركا على نفسها بسياسات مثل الرسوم الجمركية والانسحاب من المنظمات الدولية وابتزاز ضيوف البيت الأبيض، نكون أمام تشكل عالم جديد عنوانه المواجهة لا التعاون، وأن العالم فعلاً يعيش نهاية القرن الأميركي.
من فيتنام إلى بغداد ومن كابول إلى كييف، تتكرر الأخطاء ذاتها في كل حرب تخوضها واشنطن، تفوق عسكري خاطف يتبعه فشل سياسي مدو، وكل تجربة تؤكد حقيقة أن الولايات المتحدة متفوقة في الهجوم لكنها فاشلة في إدارة “اليوم التالي”، حتى اعتدنا أن تنتهي حروبها بخرائط سياسية كارثية ودمار لا يوصف، فبعد أن هيمنت الولايات المتحدة عقوداً على مفاصل النظام الدولي بأدواتها العسكرية والناعمة، نشهد اليوم تآكلًا واضحاً في تلك الأدوات وتراجعاً في مشروعها القيادي، ليس فقط في ميادين القتال بل في قدرة واشنطن على إدارة العالم الذي أسهمت في رسم ملامحه بعد الحرب العالمية الثانية.
وعلى رغم تعاقب الإدارات الأميركية، من الجمهوريين إلى الديمقراطيين، فإن نمط السلوك لا يتغير كثيراً، إدارة الأزمات بدلاً من حلها، والنتيجة أن الفراغ السياسي يتكرر ويتحول إلى كارثة عميقة، فما أن تنسحب القوة أو يتراجع الضغط حتى تتسلل الميليشيات وتتمدد الجماعات العابرة للحدود وتنتشر الديكتاتوريات ويعاد توزيع النفوذ بين لاعبين غير شرعيين، فيتحول النزاع إلى كارثة طويلة الأمد.
وكما دخلت الجيوش الأميركية فيتنام بكل قوتها وغطرستها من دون خطة للخروج ولا تصور لإعادة البناء، ولا حتى فهم لطبيعة الأرض والبشر، حتى انسحبت مهزومة تاركة خلفها جرحاً عسكرياً وسياسياً لم يندمل حتى اليوم، وكررت السيناريو نفسه عندما احتلت بغداد في أيام وأسقطت النظام بسرعة قياسية، لكنها لم تكن مستعدة لليوم التالي، فجرى حل الجيش العراقي وتفكيك المؤسسات لتعم الفوضى وتتسلل الميليشيات وتتحول البلاد إلى ساحة دامية لصراع النفوذ والحروب بالنيابة، حتى غدا عبئاً سياسياً لا يحتمل فتركته لخصومها وخصومه.
والسيناريو ذاته تكرر في أفغانستان، حيث كانت مسرحاً لواحدة من أطول الحروب الأميركية وأكثرها عبثية، فانتهت 20 عاماً من الحرب ضد “طالبان” بمشهد الذعر عند سور مطار كابول، ثم عادت “طالبان” للحكم وكأن كل ما حدث لم يكن سوى حلقة مفرغة من الفشل وسوء الإدارة، وحتى في أوكرانيا، وإن اختلفت طبيعة التدخل، إلا أنها لا تخرج عن السياق ذاته، حيث دعمت واشنطن كييف سياسياً وعسكرياً وفتحت لها خزائن السلاح بلا خريطة طريق ولا تصور قريب لنهاية الحرب ولا استعداد حقيقي لدفع ثمن السلام، مجرد دعم عبثي سيتوقف مع أقرب استحقاق داخلي أميركي، ليتكرر السيناريو ذاته.
في تقرير نشرته “اندبندنت عربية أخيراً بعنوان “كيف أخفقت دبلوماسية الغرب الوقائية في اختبار الشرق الأوسط؟” للأستاذ حامد الكناني، تكشف وثائق بريطانية عن أن الإخفاق في تطبيق أدوات الردع غير العسكرية والاحتواء انتهى باستبدال سياسة “الدبلوماسية الوقائية” بالتدخلات المباشرة، كما حدث في العراق وليبيا وغيرها، كما يشير التقرير إلى أن هذا الفشل أفرز فراغاً سياسياً وأمنياً خطراً وفتح المجال لصعود جماعات مثل “داعش” و”الحوثي” و”حزب الله” والميليشيات العراقية، وإذا تأملنا ما يحدث اليوم نرى أمثلة لسيناريوهات مستقبلية ستحدث حتماً وفق تجارب الماضي ومعطيات الحاضر، في ملفات مثل إيران وغزة وسوريا، فواشنطن تلوح بالقوة وتشجع على العمل العسكري، لكنها لا تريد أن تصنع سلاماً أميركياً تفرضه بنفوذها المتفرد على كل الأطراف، بل إنها لا تملك رؤية خاصة للسلام تفرضها على الجميع، وكأنها تريد لهذا العالم أن يستمر في صراعات يمكن التحكم بمستواها، من دون أن تلتزم بمشروع حقيقي لإعادة الإعمار أو خطة للمستقبل، ففي غزة لا تقدم الإدارة الأميركية أي طرح محايد لوقف الحرب والمجاعات أو فتح أفق سياسي وتكتفي بـ “إدارة الأزمة” تحت عنوان حق إسرائيل في الدفاع عن النفس.
“داعش” لم يفارق سوريا ويجد بيئة مناسبة لينشط مجددا
وفي هذا السياق جاء القرار الأميركي الأخير بالانسحاب من منظمة “يونيسكو” للمرة الثالثة، مُبرراً بما وصفته واشنطن بـ “التحيز ضد إسرائيل والتوجهات الثقافية المعادية لأميركا”، وهو قرار يعبر بوضوح عن انكماش إضافي في الدور الأميركي واستمرار انسحاباته من أهم أدواته الناعمة، فانسحاب القوة العظمى من منظمات دولية تُعنى بالتعليم والثقافة والعلوم والمناخ يرمز إلى تآكل أدواتها الناعمة، وهذا بحد ذاته فصل جديد من فصول الفشل الأميركي في إدارة العالم، وهو تراجع جديد يمتد إلى جوهر الفكرة الأميركية عن القيادة العالمية، فكما أشار تقرير آخر نشر في “اندبندنت عربية” إلى نهاية القرن الأميركي، فإن تآكل أدوات القوة الناعمة مثل التحالفات الدولية والمؤسسات والقيم الديمقراطية، يضعف النفوذ الأميركي على المدى الطويل ويحوله إلى مشروع هش قائم على التهديد والعقوبات بدلاً من المشاركة والتأثير، وأميركا بانسحاباتها المتتالية من المنظمات الدولية تتراجع عن الالتزام بمبادئ النظام الدولي الذي أسسته بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تخسر موقعها فقط بل تفتح الباب لفراغ لا يمكن التنبؤ بمن سيشغله.
لقد أثبتت الوقائع على امتداد ما يسمى بـ “القرن الأميركي” أن التفوق العسكري الأميركي لا يصنع سلاماً بل يخلق مزيداً من الكوارث، وبانكفاء أميركا على نفسها بسياسات مثل الرسوم الجمركية والانسحاب من المنظمات الدولية وابتزاز ضيوف البيت الأبيض، نكون أمام تشكل عالم جديد عنوانه المواجهة لا التعاون، وأن العالم فعلاً يعيش نهاية القرن الأميركي.