عملية لم تكن مدعومة بخطط احتياطية لمواجهة التدخلات المحتملة
عملية السويداء العسكرية التي نفذتها الحكومة السورية أثارت جدلا واسعا بعد أن انتهت بفشل ميداني وخسائر بشرية فادحة، ما سلط الضوء على خلل في التخطيط وغياب التنسيق الإقليمي والدولي. وتطرح هذه العملية تساؤلات حادة حول قدرة القيادة السورية على إدارة الأزمات في مرحلة حساسة من تاريخ البلاد.
السويداء (سوريا) – في خضمّ مشهد سوري متقلب ومحمّل بالتوترات السياسية والعسكرية، جاءت عملية السويداء العسكرية التي نفذتها القوات الحكومية بقيادة الرئيس أحمد الشرع، لتضيف فصلا جديدا إلى سلسلة التحركات المثيرة للجدل التي طبعت المرحلة الانتقالية في البلاد.
وسرعان ما تحولت العملية، التي رُوج لها على أنها استعراض للقوة وفرض للسيطرة في واحدة من أكثر المناطق تعقيدا وحساسية، إلى كارثة عسكرية وإنسانية، بعدما خلفت ما يقدّر بـ700 قتيل من المقاتلين الموالين للحكومة، دون تحقيق أي مكاسب ميدانية تذكر.
وفتح هذا الأمر الباب أمام سيل من التساؤلات حول توقيت ذلك وأهدافه، ومدى نجاعة القيادة في اتخاذ قرارات إستراتيجية: لماذا أذن الرئيس السوري بعملية السويداء دون الحصول على موافقة صلبة من الولايات المتحدة وإسرائيل؟ لماذا تم إرسال مجندين جدد في الأمن العام إلى مواجهة مع ميليشيات درزية لم يكن من المرجح أبدًا أن تستسلم؟ لماذا كانت العملية العسكرية مخططة ومنفذة بشكل سيء للغاية؟
وانطلقت العملية بدافع السيطرة على مناطق في محافظة السويداء، المعروفة بثقلها الديموغرافي الدرزي، وسجلها المعقّد في العلاقة مع السلطة المركزية.
وعلى الرغم من أن المحافظة ظلت نسبيًا بمنأى عن المعارك الطاحنة التي شهدتها البلاد خلال سنوات الحرب، فإن تصاعد التوترات بين القوات الحكومية والميليشيات المحلية الدرزية دفع القيادة السورية الجديدة إلى اتخاذ قرار الدخول في مواجهة مفتوحة، دون تأمين توافقات داخلية أو تفاهمات دولية تضمن الحد الأدنى من الاستقرار الميداني. واعتبر العديد من المراقبين خطوة الحكومة السورية متهورة ولا تستند إلى رؤية إستراتيجية واضحة.
◙ قصر نظر في تقدير الخصم، إذ لم تكن هناك أي موازنة في الخبرات أو التجهيز ما جعل المواجهة محسومة منذ بدايتها
وأشار محللون إلى أن الغرض من العملية كان إرسال رسالة مفادها أن الحكومة السورية قادرة على فرض الأمن وفرض سيادتها على الأراضي الخارجة عن السيطرة. لكن غياب التنسيق مع القوى الدولية النافذة في الجنوب السوري، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، أثار علامات استفهام كبرى حول نضج القرار.
ويرى المحلل السياسي الدكتور وسام الحسن أن التحرك كان متسرعا، ويفتقر إلى حسابات دقيقة لموازين القوى، خصوصا في ظل مؤشرات واضحة على عدم وجود ضوء أخضر من واشنطن أو تل أبيب، الأمر الذي جعل العملية عرضة لتدخلات مباشرة كما حصل لاحقًا عندما شنت إسرائيل غارات جوية استهدفت مواقع عسكرية في دمشق وعطلت خطوط الإمداد والاتصال.
وعلى المستوى التكتيكي كشفت العملية عن ضعف كبير في التخطيط والتنفيذ، إذ تم الدفع بمجندين من عناصر الأمن العام -غالبيتهم من حديثي التدريب- إلى ساحة قتال مع ميليشيات درزية معروفة بتنظيمها العالي وخبرتها الطويلة في القتال الجبلي. ووصف أحد الخبراء العسكريين هذا القرار بأنه خطأ فادح يعكس قصر نظر في تقدير طبيعة الخصم، إذ لم تكن هناك أي موازنة فعلية في الخبرات أو التجهيز أو حتى في الجغرافيا، ما جعل المواجهة محسومة منذ بدايتها.
ولم يتوقف الإخفاق عند هذا الحد، إذ كشف تقرير داخلي مسرّب أن العملية لم تكن مدعومة بخطط بديلة أو سيناريوهات احتياطية لمواجهة التدخلات المحتملة، ما أدى إلى انهيار الهجوم فور تعرض دمشق لغارات إسرائيلية مفاجئة أربكت القيادة الميدانية، وعزلت القوات عن خطوط الدعم، لتُترك في الميدان دون غطاء فعال.
ولم يقتصر الإخفاق على الجانب العسكري فقط، بل سرعان ما امتد إلى الواقع الإنساني، حين انسحبت القوات الحكومية فجأة، دون وضع خطة لحماية العائلات البدوية المقيمة في محيط السويداء. وقد أدى هذا الإهمال إلى تعرض عدد من المدنيين لأعمال انتقامية، وسُجّل سقوط ضحايا في صفوف السكان ونزوح جماعي من بعض القرى المحيطة.
ووصفت الناشطة الاجتماعية ليلى الخالد، العاملة مع النازحين من المنطقة، ما حدث بأنه كارثة إنسانية كان يمكن تجنبها، مؤكدة أن الحكومة السورية تجاهلت تماما الحاجة إلى توفير ممرات آمنة أو خطط إجلاء للسكان، وفضّلت التركيز على ما بدا كأنه عرض عسكري ميداني لا أكثر.
وعقب هذه الانتكاسة انهالت الانتقادات على الحكومة من الداخل والخارج. وفي الداخل طالب نواب في البرلمان بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة لمحاسبة المسؤولين عما وصفوه بـ”الفشل الذريع”.
02
أما خارجيا فقد أعربت الولايات المتحدة عن قلقها من تطورات الجنوب، بينما اعتبرت إسرائيل أن ضرباتها الجوية كانت وقائية ودفاعية، تهدف إلى كبح أي تصعيد قد يمسّ أمنها المباشر. ولا تنظر إسرائيل إلى أي تحرك عسكري من قبل الحكومة السورية أو القوات النظامية في الجنوب، خصوصا في محافظة السويداء، بمعزل عن التوازنات الأمنية التي ترعاها في تلك المنطقة.
ويقول مراقبون إن قرار العملية الأخيرة لم يراعِ هذه المعادلة، حيث لم يصدر أي تنسيق مسبق مع إسرائيل، ما دفعها إلى التدخل عبر سلسلة غارات على مواقع في دمشق تزامنًا مع تقدم القوات الحكومية نحو مواقع ميليشيات درزية محلية.
ويرى مراقبون أن الغارات الإسرائيلية لم تكن مجرّد رد فعل عسكري تقني، بل تحمل رسالة سياسية مزدوجة: أولًا، أن التحرك في الجنوب يجب أن يتم وفق تفاهمات تضمن بقاء النفوذ الإسرائيلي غير مهدد. ثانيًا، أن إسرائيل لا تفرّق بين الحكومة المؤقتة والنظام الرسمي في دمشق إذا شعرت بأن تحركًا ما قد يزعزع التوازن الهش في الجنوب.
وتدرك إسرائيل أن زعزعة الاستقرار في السويداء -التي تتسم بتنوع طائفي وتركيبة عشائرية دقيقة- قد تؤدي إلى فتح جبهات غير مرغوب فيها. ولهذا تراقب الجنوب السوري بدقة، وتحتفظ بحق الرد الاستباقي في حال شعرت بأن الأمور تخرج عن السيطرة.
واللافت أن هذا الدور الإسرائيلي بات يعامل من قبل بعض الأطراف السورية كمعطى دائم، يُحسب له حساب في أي قرار عسكري، بل وربما يُطلب ضمنا تحييده عبر قنوات دبلوماسية غير مباشرة. ويشير هذا إلى تحول في طبيعة العلاقة مع إسرائيل، من عدو عسكري معلن إلى “عنصر توازن” تفرضه الضرورة الجيوسياسية، وهو تحوّل يعكس تغيّرا عميقا في أولويات الصراع السوري الداخلي، وفي أشكال التداخل بين المحلي والإقليمي.
من هنا يمكن فهم فشل عملية السويداء ليس فقط على أنه نتيجة أخطاء تكتيكية، بل أيضًا كمؤشر على تجاهل قواعد اللعبة الإقليمية في الجنوب، حيث باتت إسرائيل لاعبًا حاسما -حتى وإن كان ذلك من وراء الستار- في تحديد سقف المسموح به والممنوع عسكريا.
ولم تحقق عملية السويداء، وفق مراقبين، شيئًا سوى تعميق الجراح وفتح جبهة جديدة من الشكوك حول مستقبل الحكومة السورية وقدرتها على إدارة المرحلة الانتقالية، سواء عسكريا أو سياسيا أو إنسانيا.