لم يكن ما جرى في باريس مجرد لقاء عابر. فقد نجح المبعوث الأميركي توماس باراك، في ترتيب اجتماع ثلاثي جمع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ونظيره الاسرائيلي رون ديرمر، برعاية فرنسية – أميركية مباشرة، في أعلى لقاء معلن بين الطرفين منذ أكثر من 25 عاماً. هذا الاختراق السياسي والديبلوماسي ما كان ليحصل لولا الانخراط الحثيث من واشنطن والرياض، اللتين تبذلان المستحيل لتثبيت مرحلة الانتقال السياسي في دمشق، وضمان حماية عهد الرئيس أحمد الشرع، باعتباره ركيزة الاستقرار المقبلة في سوريا. وفيما تُفتح القنوات بين الأعداء التاريخيين، وتُنحت خرائط التفاهمات من باريس إلى باكو، يتلقى باراك في بيروت الصفعة المقابلة: لا رؤية، لا قرار، ولا شريك فعلياً في الدولة اللبنانية القاصرة عن اللحاق بركب التحولات، كأنها تفضل العزلة الدولية والانهيار والتخلف عن تحولات المنطقة.
فالرجل نفسه الذي فاوض في دمشق، ونسّق مع الفرنسيين، ومهّد لمسار تفاوضي غير مسبوق بين سوريا وإسرائيل، اصطدم في لبنان بحائط من الجمود والتعطيل والإنكار. ليست المشكلة في الوسيط، بل في مَن يتوسّط لهم: دولة تبحث عن شراكة في الاقليم، مقابل دولة تحتمي بالخطاب وتتهرّب من الاستحقاقات. سوريا، التي شهدت سقوط نظام الأسد في كانون الأول الماضي، تنخرط اليوم في مسار انتقالٍ قوامه التهدئة مع الجيران، ودمج “قسد”، وحوار حتى مع الخصوم. أما لبنان، فما زال يلوّح بشعارات السلاح والممانعة، ويرفض الاعتراف بأن الشرق الأوسط يتغيّر من حوله.
لقاء باريس لم يكن عادياً. هو أول اجتماع من نوعه منذ أكثر من ربع قرن، بمشاركة أميركية فعلية، وبيان مشترك يرسّخ مبدأ سيادة سوريا واستقرارها، ويدعو الى حماية المرحلة الانتقالية والتفاوض مع “قسد”، ومحاسبة مرتكبي العنف الطائفي. وللمفارقة، فإن دمشق التي شهدت مجازر الساحل والجنوب، تنفتح على معادلة “لا عداء مع الجيران”، بينما بيروت، تحبس نفسها في دائرة التهديد والتهويل، وتُحكم طوق العجز حول عنقها السياسي.
الادارة الأميركية، مدعومة من فرنسا والسعودية، تخوض معركة شاقة لبناء نموذج مستقر في سوريا، لا رغبة منها في الهيمنة، بل في تجنّب الانفجار الاقليمي. وتجد في دمشق من يتفاوض ويقدّم مقترحات ويراجع أخطاء الماضي. أما في بيروت، فكل ما تملكه الدولة هو خطاب يتيم باسم القرار 1701، وخط تماس داخلي بين طرفٍ يتكلم باسم “السيادة” وآخر باسم “المقاومة”، فيما الحقيقة أن لا مقاومة ولا سيادة في غياب الدولة.
الرد اللبناني على الورقة الأميركية الأخيرة جاء على الطريقة المعهودة: إنكار، تهرّب، ومزايدات. “حزب الله” عبر النائب إيهاب حمادة يعيد المعزوفة ذاتها: “لسنا معنيين”، “السلاح خط أحمر”، و”القرار عندنا”. محمود قماطي يطرح حواراً مشروطاً حول الاستراتيجية الدفاعية، ولكن بشروط تكرّس الوقائع لا تغيّرها. والمفارقة أن أحداً في الدولة لا يجرؤ على القول: ما هو البديل؟ ما هو الطريق إلى الدولة إذا كان السلاح خارجها والتفاهم مرفوض والقرار موزّع؟
وفيما تعيش بيروت على وقع طائرات مسيّرة واغتيالات، وأصوات انفجارات من الجنوب إلى ميس الجبل، يُكتفى بالصمت الرسمي أو الخطابات المتفرّقة، بينما تُرسم في باريس ملامح تفاهمات إقليمية تطال سوريا وإسرائيل و”قسد”… وليس للبنان فيها سوى مقعد المشاهد الصامت.
لقد دخلت سوريا معركة إعادة التشكيل، وها هي تلتقي الاسرائيلي برعاية أميركية، وتبدي استعداداً لتفاوضات داخلية مع قوى الأمر الواقع. أما لبنان، فيبدو عالقاً في ثنائية المقاومة أو لا شيء، كأن ما يجري حوله مجرد تمرين مسرحي لا يستدعي قراراً ولا رؤية.
لقد سبقت دمشق بيروت إلى التفاهم مع واشنطن، والى الشراكة مع باريس، والى الحضور الفعلي في مسرح التحولات. أما لبنان، فيبدو أقرب إلى ساحة قد تُترك لمصيرها، إذا لم تتدارك الدولة حقيقة الانهيار الآتي.
الوقت يضيق، والمشهد الاقليمي لا ينتظر أحداً. فإما أن يلتحق لبنان بركب التسويات، أو أن يتحمّل عواقب المزيد من العزلة والانهيار المتسارع.