ليست صدفة أن يبدو الأردن هذه الأيام وكأنه على تقاطع طرق إقليمي يمر فوقه التاريخ وتتقاطع تحته الجغرافيا، بينما يختبر الداخل قلقه المعتاد، ويتابع الخارج بكل ما يجري فيه وكأنه ترمومتر دقيق لحرارة الإقليم كلها.
خلال الأسبوعين الماضيين، بدا كل تفصيل في عمان وكأنه مرآة عاكسة لحالة مزدوجة: توتر مكتوم في الداخل، وتموضع دبلوماسي نشط في الإقليم، لا شيء يخرج عن المألوف… لكنه مألوف ثقيل على صدر دولة تدرك أنها مطالَبة بالهدوء بينما تعيش وسط الإعصار.
في الداخل، كل ما هو إداري وبيروقراطي لا يزال يراوح مكانه، رغم خطاب النوايا الإصلاحية الذي لم يتوقف منذ سنوات.
الحكومة، وقد حُصرت في مساحات محكومة بالواقع الاقتصادي، تبدو أحيانا عاجزة عن اختراق ملفات كالبطالة، واللامساواة، والانكماش الاستثماري، فتقرير أخير أشار إلى أن البطالة بين الشباب تجاوزت حاجز الـ46 في المئة، وهو رقم فادح في بلد يشكّل الشباب عموده الفقري، إن لم يكن آخر أضلاعه.
لكن ما لا يراه الجميع هو ذلك الحراك التحضيري في مطبخ مزدوج المهام في مبنى الدوار الرابع، حيث رئاسة الوزراء، ومكتب الرئيس جعفر حسان الذي يقود مشاريع بنى تحتية ضخمة مشتبكة بمشاريع إقليمية يتم التحضير لها خصوصا في قطاع النقل، بالإضافة إلى ما يسجل له من إنجاز في ملف تأمين مرضى السرطان والذي– حسب مقربين من الرئيس- يشكل خطوة أولى لوضع أسس استراتيجية تأمين صحي شامل لجميع الأردنيين تتم دراسته على مراحل مدروسة.
في ذات حرم رئاسة الوزراء، وفي المبنى المقابل لمكتب حسان، يلتئم فريق عمل متنوع ومحترف في وحدة تم إعادة تفعيلها ووضعها تحت إشراف رئيس الفريق الاقتصادي في الحكومة الوزير مهند شحادة، ومهمتها “الفريدة” وربما غير المسبوقة وضع خارطة طريق تنفيذية لرؤى التحديث الاقتصادي في مرحلته الثانية، والتي يتم وضع خطوطها العامة في اجتماعات مكانها في الديوان الملكي وبإدارته. والجديد هذه المرة أن الوزراء المعنيين جميعا مطالبون بإدارة المحاور والجلسات وتجويدها ضمن أسس الواقع على الأرض، ليتم تحويلها في مبنى رئاسة الوزراء وضمن فرق احترافية من المتخصصين وبمشاركة كل القطاعات الحكومية المعنية إلى برامج عمل تنتهي إلى خطة عمل تغطي أربع سنوات قادمة في الدولة الأردنية.
عادت “جماعة الإخوان” لتتصدر المشهد، لا كفاعل سياسي بل كملف أمني، وهناك من يسرّب عن نوايا لحملة شاملة على الجماعة، تستند إلى قناعة أمنية بأنها تجاوزت حدّ “السكوت التكتيكي” إلى “التنظيم البديل”
وحسب مصادر وظيفية في رئاسة الوزراء فإن حكومة حسان حسب وصفها حولت المباني في الرئاسة إلى خلايا عمل نشطة عنوان عملها الرئيس هو الإصلاح الاقتصادي وتطوير مؤسسات الدولة.
لكن، ومع كل هذا النشاط فإن شهية الصحافة الأردنية المحلية بمجملها مضافا إليها صالونات عمان اليومية والمنتجة للحكايات التي لا تنتهي، لا تزال مفتوحة على ما اعتاده كل هؤلاء من قضايا مختلفة أولها تسريبات وإشاعات التعديل الحكومي، حيث تتردد همسات التعديل الوزاري كأنها طبول خفيفة قبل العاصفة، والعاصفة هذه المرة تتعلق بتغييرات سابقة للتعديل في مختلف مستويات الدولة الأردنية ومؤسساتها يحملها الملك في جيبه، منها ما هو استحقاق يفرضه التقادم في بعض المواقع الحساسة، ومنها ما يتطلبه التغير الإقليمي والدولي من تغييرات في أدوات الدولة للتماهي مع التحولات الأكثر عمقا في المحيط الإقليمي.
وفيما يخص التعديل الوزاري، فإن الحكومة الحالية، التي بقيت لعشرة أشهر دون تعديل، توشك أن تعيد ترتيب بيتها الداخلي في محاولة لإعادة التقاط النبض التنفيذي، وما يتسرّب من مطبخ القرار لا يشير إلى مجرد “تحريك كراسي”، بل إلى نية جادة لإعادة هيكلة الأداء العام، بدءًا من وزارات خدمية ترهّلت بفعل البيروقراطية، ووصولًا إلى حقائب سيادية أصبحت بحاجة إلى شخوص تواكب سرعة التغيير لا أن تعرقله.
المصادر تتحدث عن تعديل قد يطال ما لا يتجاوز ست وزارات مع توجه لدمج بعض الحقائب التي تداخلت مهامها. لكن اللافت أن رئيس الحكومة، المعروف بتمهّله في هذا القرار تحديدا، لا يتعامل مع التعديل كخطوة إعلامية، بل كإعادة ضبط للسرعة الإدارية. هو تعديل يُراد له أن يكون أكثر من تعديل، أي أن يكون نقطة انعطاف ضرورية في طريق واضح للحكومة.
فالرسالة، داخليًا وخارجيًا، أن الدولة لا تجامل أحدًا في الملفات التنفيذية. وأن القادم لا يحتمل الأداء الباهت، ولا العذر الكلاسيكي: “الظروف لا تساعد”.
وكنا قد نشرنا في مقال سابق في “المجلة”، أن التعديل حسب الوارد من الدوار الرابع من تسريبات موثوقة لن يكون قبل السابع عشر من أغسطس/آب الجاري، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المعطيات قابلة للتغير حسب تسارع التغيرات في الإقليم.
وفي موازاة ذلك، عادت “جماعة الإخوان” لتتصدر المشهد، لا كفاعل سياسي بل كملف أمني، وهناك من يسرّب عن نوايا لحملة شاملة على الجماعة، تستند إلى قناعة أمنية بأنها تجاوزت حدّ “السكوت التكتيكي” إلى “التنظيم البديل”، مستفيدة من رخاوة اللحظة البرلمانية، حيث البرلمان معلّق، والصمت السياسي سائد، والتحديات تتراكم في صمت.
أما في المسألة المعيشية، فقد عاد ملف المياه إلى الواجهة، مع موجات حرّ استثنائية، ومخزون مائي في حالة إنذار مزمن، يتزامن ذلك مع جولات نشطة تضمنت حوارات مع سوريا بشأن مياه اليرموك، وخطط التحلية من العقبة إلى عمّان، ومذكرات التفاهم مع جهات أوروبية، كلها إشارات أن الدولة تحاول أن تُبقي رأسها فوق خط العطش، في معركة بقاء مائي تتصاعد عاما بعد عام.
بين الدولة العميقة والدولة الممكنة، بين الرغبة في الإصلاح وقوة الجاذبية للواقع، يقف الأردن، بلد يعرف أنه لا يملك ترف الانهيار، لكنه أيضًا تعب من سياسة “إدارة الأزمة” إلى ما لا نهاية
خارجياً، بدا الأردن وكأنه يتنفس خارج جلده. من مشهد الإنزال الجوي الأردني-الإماراتي فوق غزة، إلى الحضور المتنامي في محافل دعم فلسطين دوليا، يكشف الخطاب الأردني عن لغة جديدة: لا تصعيد، لكن لا مساومة.
في تفاصيل الحراك الملكي الرسمي التي أعقبت سفر الملك في زيارة خاصة لم تخل من كثير من اجتماعات عمل مع جهات مؤثرة دوليا، فقد كانت لقاءات الملك عبد الله الثاني مع قادة أوروبيين بمثابة إصرار على إعادة تعريف الموقف الأردني بوصفه ركيزة الاعتدال، ولكن دون أن يكون محايدا، فالأردن، كما بدا واضحا، لا يريد أن يُحسب على صمت يساوي الرضا، ولا على تواطؤ الصفقات السياسية الإقليمية.
في الخلفية، هناك شيء أكبر يُعاد ترتيبه: شرق أوسط جديد، يُعاد ترسيمه، وإعادة تعريف أدواره، وتوزيع مراكزه. الأردن هنا، يبدو أحيانا وكأنه ينتظر، وأحيانا كأنه يُؤجّل الإجابة.
لكن أسئلة الداخل لا تنتظر. هناك جيل جديد ينظر حوله فلا يرى برلمانا فعالا، ولا أحزابًا تُقنع، ولا إعلاما مستقلا. يرى فقط دولة تمشي على الحافة: تحاول أن لا تقع، لكنها بالكاد توازن نفسها.
بين الدولة العميقة والدولة الممكنة، بين الرغبة في الإصلاح وقوة الجاذبية للواقع، يقف الأردن، بلد يعرف أنه لا يملك ترف الانهيار، لكنه أيضًا تعب من سياسة “إدارة الأزمة” إلى ما لا نهاية.
الشارع صامت؟ ربما، لكن الصمت الأردني لا يعني الرضا. ولعل أخطر ما في الأمر، أن الكثير من الأردنيين باتوا يشبهون دولتهم: مرهقون، متماسكون… ومؤجلون.