لا أحد يعلم من السوريين تفاصيل المفاوضات التي تجري بين سلطات بلدهم وإسرائيل. وإلى وقت قريب، لم يكن مؤكّداً أن هناك لقاءات مباشرة بين الطرفَين، وظلّت موضع شكٍّ التسريباتُ عن لقاءات جرت على أعلى المستويات بين وفدَين في كلّ من الإمارات وأذربيجان. أمّا اليوم فقد صار مؤكّداً أن جولتَين عُقدتا في باريس يومي 25 و26 من الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، بين وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، ووزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، برعاية المبعوث الخاص للرئيس الأميركي، توماس برّاك. ولم تتوافر معلومات سوى ما أفادت به وسائل إعلام إسرائيلية من أن اللقاء الأول استمرّ أربع ساعات، وبحث سبل تخفيف التوتر بين سورية ودولة الاحتلال. وبخصوص الجولة الثانية، جاء في تقرير لصحيفة هآرتس أن “الهدف من المحادثات إبرام اتفاقية أمنية، ما قد يؤدّي إلى محادثات تطبيع لاحقاً”.
عُقدت الجولات السابقة جميعها قبل حصول المواجهات في السويداء، التي تدخّلت فيها إسرائيل، استجابةً لطلب حكمت الهجري، ووجّهت ضربات للقوات السورية، وقصفت مبنى قيادة الأركان في قلب دمشق، واضطرّت السلطات السورية إلى سحب قواتها من المحافظة، بعد تهديدات من إسرائيل، وبناء على اتفاق رعته الولايات المتحدة والسعودية والأردن. وبالتالي، فإن لقاءي باريس يختلفان عن اللقاءات التي حصلت في أبوظبي وباكو، من منطلق أن أوراق التفاوض الإسرائيلية باتت أقوى، وموقف المفاوض السوري أضعف، بغضّ النظر عن الموضوعات المطروحة على طاولة المفاوضات.
إذا كان هدف المفاوضات الفعلي التوصّل إلى اتفاق أمني، فإن سورية ليست مجبرةً على الجلوس مع إسرائيل على طاولة واحدة، ولا هي مضطرة لإرسال وزير خارجية ليتفاوض مع وزير مقرّب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. كان بوسع دمشق ألا تتنازل، وتدخل مفاوضات مباشرة على مستوى رفيع، وتترك المسألة للخبراء، تحت رعاية الأمم المتحدة، بتسهيل من الولايات المتحدة، وذلك للتوصّل الى اتفاق بين دولتَين، وليس مع وزير مفوّض عن نتنياهو، بإشراف المبعوث الأميركي برّاك.
ليس من حقّ السلطة السورية الحالية الدخول في مفاوضات ذات طبيعة استراتيجية مع إسرائيل، فهي سلطة انتقالية. وباعتبار أن المفاوضات تجري حول شأن سيادي، فمن حقّ الرأي العام السوري أن يكون على اطلاع تام حول موضوعات التفاوض، وسواء وقّعت السلطة اتفاقاً مع إسرائيل أم لا، عليها أن تغادر منطقة الغموض والتكتّم، التي تثير الشكوك والبلبلة، وأن تتعامل مع المسألة بشفافية وصراحة.
قد تكون السلطة خاضعةً لضغط أميركي إسرائيلي من أجل الدخول في هذه المفاوضات، لكن ذلك لا يبرّر لها هذا، بعيداً من القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة التي تخصّ الصراع العربي الإسرائيلي، وليس الشأن السوري وحده. والصيغة الأمثل للتفاوض أن تتولّى العملية الأمم المتحدة، وتلعب واشنطن دور المسهّل بين الطرفَين، وليس قوة إسناد للطرف الإسرائيلي، الذي يريد من سورية أن توقّع صكّ إذعان في هذا الظرف، وهي ضعيفة لم تستكمل وحدتها الترابية بعد.
في الأحوال كافة، كان في وسع السلطة أن تتريّث بدخول المفاوضات، رغم الضغط الإسرائيلي المتواصل، وتتفرغ أولاً لحلّ مشكلاتها الداخلية الكثيرة بفتح حوارات موسّعة مع السويداء و”قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) لإنهاء الانقسامات في جنوب وشرقي سورية، وعزل المجموعات التي تستقوي بالخارج، ومن بعد أن يتعزّز الوضع الداخلي، يصبح التفاوض مع إسرائيل من موقع قوة، وليس من موقع ضعف، تحت الضغط الخارجي والابتزاز الداخلي من طرف المراهنين على إسرائيل.