بشار الأسد لم يُهزم، ولم ينتصر. هو ببساطة فهم اللعبة اخيرا، وقرّر الانسحاب قبل أن تلتهمه المتاهة السورية. اختفى فجأة، وترك الجميع يتخبطون في الداخل والخارج، يتساءلون: ماذا حدث؟
سوريا اليوم ليست دولة تنهار، بل متاهة بلا جدران، تتوالد داخلها الفوضى والتعقيدات ذاتيًا يتجول في دهاليزها مئة لاعب اقليمي ودولي ومحلي باحثين عن مكاسب تتضارب حينا وتتقاطع حينا آخر . سياسيًا، عسكريًا، طائفيًا، دوليًا، إقليميًا… تتوالد الأزمات والحروب دون توقف.
الغريب أن معظم الأطراف المنخرطة لا تملك تصورًا حقيقيًا أو فهمًا متكاملًا لطبيعة الأزمة، باستثناء إسرائيل. وحدها تتقن اللعبة: تراقب من فوق، تتدخل عند الحاجة، وتعيد توزيع الأوراق بصمت ودقّة، وكأنها صاحبة المخطّط الأصلي للمتاهة. في مكاتب استخباراتها تتجمّع تقارير الحلفاء والجواسيس، ومعظم القوى على الأرض وفي السماء تعمل – من حيث تدري أو لا تدري – لصالح أمنها. تضرب استباقيًا قبل أن تتحوّل المحاولة إلى خطر.
أما بشار، فقد صمد، نعم، لكنه في النهاية أدرك الحقيقة المُرّة: لا أحد يخرج من هذه المتاهة واقفًا. المؤامرات تتكاثر، التحالفات تنهار، والمجهول أقرب من أي أفق. لا نصر يُنتظر ولا نهاية تُرجى، لا حلول سياسية أو عسكرية وستمتد لثلاثة عقود أخرى، فعمر الأزمة أطول ما تبقى له على قيد الحياة.
كان لا بد من قرار حاسم، فاختار المغادرة. ربما بصفقة، وربما تحت ضغط، وربما فقط لأنه تعب وملّ بعد أربعة عشر عامًا ضائعة في المتاهة.
السلطة التي ورثت المتاهة تبدو كأنها خرجت من مختبر تجارب فاشل: ضعيفة، مفككة، مفلسة، بلا أذرع حقيقية. تدير ما تبقّى من الدولة بنظام أموي جاهلي طالباني. لا تملك أوراق تفاوض ولا مال ولا عتاد، ولا تستطيع عقد تحالفات، لأن الدول ببساطة لا تتحالف مع من يتسوّل.
الأسوأ أن هذه السلطة تطلب من الآخرين أن يعترفوا بها، وهي بالكاد تعترف بنفسها. تسير في المتاهة على عظام مكسّرة، تصرخ للجميع: “نحن هنا!”، فيأتي الصدى: “ولماذا؟”
المشهد يزداد عبثا غموضا : الداخل غارق، الخارج منهك، الساسة الإقليميون عاجزون لأنهم خفيفي الوزن، والغرب فقد شهيّته، وإسرائيل تضحك، تجني الفوائد، وتستثمر في الغد.
وبينما الجميع يتوه في دوّامة المتاهة، يجلس بشار الأسد في موسكو، يضع ساقًا على ساق، يحتسي شيئًا دافئًا، يراقب المتاهة التي كان أول من دخلها وآخر من غادرها حيًّا. لا يبدو نادمًا، ربما سعيدا لأنه نجا بما تبقى له من العمر.
وأخيرًا، فإن مصير “سلطة كافور الشام” لن يكون أفضل من مصير بشار وشبّيحته؛ بل ستنهار سلطته في وقتٍ قياسي، وسيكون مصير مسؤوليها أشدّ سوادًا ممّن سبقهم.
والسبب؟ استحالة فهم ما يجري، أو إيجاد حلول وتوافقات تُرضي الجميع. فقد تبيّن أن لا حل سياسيًا، ولا عسكريًا. الحلول ببساطة غير موجودة. وإن كانت سلطة كافور الشام تظن نفسها قوية ومدغومة تركيا ، فبشار كان كذلك، خاصة بدعم حلفائه. أما هذه السلطة، فلا تملك شيئًا، وتتصدى لمعضلة بلا مداخل ولا مخارج.
سيضيع كافور في المتاهة السورية، هو ومن معه، وسيتعثّر الناس لاحقًا بجثثهم في زواياها المظلمة.
ملاحظة أخرى اخيرة اضيفها بأن السيد رجب ودولته المارقة كانا من أكثر المنخرطين في اللف والدوران في المتاهة والتذاكي والتلاعب على تفاصيلها ومن المنطقي جدا أن يكونا الضحية التالية بداية هو ثم دولته مما سيتيح لقسد مكاسب غير مسبوقة تمتد من دمشق ولا تنتهي في قامشلو وعفرين.