من ينظر إلى المشهد في سوريا قد يظن لوهلة أن هذا الاحتقان الطائفي هو وليد الأحداث الأخيرة، ولكنه في الواقع من صلب المشهد السوري، الفارق أن ما كان يُحكى في المجالس المغلقة سرا بات اليوم يُحكى علنا بل ويتم التفاخر به، ومن لا ينضم إلى معسكر الطائفيين لأي جهة انتموا تنهال عليه شتى أنواع الاتهامات والأوصاف الشنيعة.
في السابق كنت أتساءل كيف لإنسان أن يتعصب لشيء لم يكن له أساسا رأي به، فأنت لم تختر لون بشرتك أو عرقك أو جنسك أو مذهبك، ومع ذلك نرى الكثيرين ينساقون وراء هذا النوع من التعصب الأعمى بحيث يصبح أي “آخر” لا ينتمي لنفس المجموعة خصما أو عدوا.
ما حصل في محافظة السويداء جريمة بكل ما لكلمة جريمة من معنى، وما حصل في الساحل السوري قبلها بأشهر، وكل الانتهاكات شبه اليومية التي نسمع عنها في سوريا كلها جرائم مستنكرة ومدانة، ومحاسبة الفاعلين واجب، ليس فقط لأن العدالة حق للضحايا، بل أيضا واجب من أجل سوريا الوطن والدولة.
قبل أسابيع- وكنت حينها في طرطوس في الساحل السوري- اتصل بي صديق يعيش في أوروبا وهو ابن الساحل ومعارض سابق لحكم الأسدين، الرجل لم يزر سوريا بعد التحرير، أخبرني أن الوضع في الساحل لا يطاق، على عكس ما قاله لي الكثير من أبناء الطائفة العلوية الذين لم يغادروا سوريا يوما، والذين قالوا حرفيا: “الوضع اليوم أفضل بالنسبة لنا بكثير من قبل شهرين”، ومع ذلك قلت لنفسي الرجل تصله معلومات مضخمة أو غير صحيحة من خلال ما ينشر على صفحات التواصل الاجتماعي، ولكن دهشتي- أو لأقل صدمتي- كانت حين قال لي حرفيا: “صرنا نترحم على أيام حافظ وبشار”. هالتني هذه العبارة، هالتني لأنها خرجت من شخص لطالما كان معارضا للأسدين وأمضى بعض سنين عمره في معتقلات الأب، أخافني أن يصدر هذا القول، وكأن المرء لا يستطيع أن يرفض ما يحصل اليوم دون أن يتمنى عودة من قتل أكثر من مليون سوري.
الفارق أن ما كان يُحكى في المجالس المغلقة سرا بات اليوم يُحكى علنا بل ويتم التفاخر به، ومن لا ينضم إلى معسكر الطائفيين لأي جهة انتموا تنهال عليه شتى أنواع الاتهامات والأوصاف الشنيعة
في السويداء جرائم شنيعة راح ضحيتها المئات من أبناء طائفة الموحدين الدروز ومن البدو من أهالي السويداء، إضافة إلى المئات من عناصر الأمن، ولا أفهم كيف لإنسان يدعي الثقافة ويقول إنه يؤمن ويطالب بدولة مواطنة أن يختار أحد الضحايا ليتعاطف معه ويبرر سقوط ضحايا آخرين، لا أفهم كيف أن من يدعي أنه “علماني” يعود بنا إلى عقود مضت ليقول إن تهجير البدو من أرضهم مسموح فهؤلاء معتادون على “الجلوة” (شخصيا لم أكن أعرف ما هي “الجلوة” قبل التصريح).
لا أفهم خطاب البعض بالقول: “تعاطفنا معكم طيلة 14 عاما عندما كان الأسد يقتلكم”، وكأن التعاطف مع ضحايا الأسد هو موقف بحد ذاته مبني على أسس طائفية.
سوريا الأسد انتهت للأبد ولا نريد أيا من “إرث” الأسدين في الحكم.. سوريا التي نريدها لجميع السوريين
في اليومين الماضيين قُتل شاب في سوريا– يوسف اللباد- تحت التعذيب على يد القوى الأمنية، بعدها بساعات قُتل شاب سوري أيضا- سليمان أحمد قرقماس- تحت التعذيب، ولكن على يد قوى الأمن اللبنانية بعد ساعات على توقيفه، الأول ضجت باسمه صفحات التواصل الاجتماعي، وهو أمر ضروري، فالموت تحت التعذيب كان في عهد بشار الأسد من أكثر أساليب القتل وحشية، والمفترض أن سوريا طوت صفحة “قُتل تحت التعذيب” إلى الأبد، لكن اللافت أن الشاب الذي قُتل بنفس الأسلوب ولكن في لبنان لم يحظ بأي تعاطف يُذكر، في مشهد كان أقرب للقول إن البعض لا يرفض القتل تحت التعذيب إلا إن كان الحادث يخدم سرديته السياسية.
معارضة الحكومة اليوم في سوريا حق بل وقد تكون واجبا، فسوريا اليوم بحاجة لجميع السوريين للتصويب والبناء، ولكن تجاهل ملايين الضحايا السوريين الذين سقطوا بين قتلى وجرحى ومهجرين على يد نظام الأسد وكأن شيئا لم يكن طيلة الـ54 عاما الماضية، وكأن جريمة لم ترتكب على مدى الـ14 سنة الأخيرة، ليس إلا إشارة إلى أن ما نعيشه اليوم في سوريا بحاجة إلى مصارحة قبل المصالحة.
سوريا الأسد انتهت للأبد ولا نريد أيا من “إرث” الأسدين في الحكم، سوريا التي نريدها لجميع السوريين، وعلى جميع السوريين المساهمة في إعادة بنائها على أسس صحيحة، دولة المواطنة حيث كل جريمة مدانة بغض النظر عن الجاني والضحية، لا دولة يتعاطف بعض مواطنيها مع بعضهم الآخر بناء على مذاهبهم أو ما سيحققه هذا التعاطف من “إعجابات” على صفحات التواصل الاجتماعي.