حين نتأمل تجربة الكاتب البيروفي الكبير ماريو فارغاس يوسا، ندرك سريعًا أننا أمام روائي لم يكن أسيرًا لحدود السرد الواقعي فحسب، بل امتلك قدرة فريدة على بثّ السخرية المريرة في ثنايا شخصياته ونبرته بين الناس، والسخرية ليست مجرّد خفة ظلّ أو تعليق عابر، هي أداة نقد حادة تكشف هشاشة السلطة، وتعري تناقضات المجتمع، وتعيد تشكيل الوعي لدى القارئ…
وفي متابعة لشخصية يوسا العلنية ومقابلاته التلفزيونية والصحافية، نجده يظهر بمزيج آسر من الوقار والدعابة الخفية، يطلق النكات بنبرة هادئة، وكأنه يختبر ذكاء المحاور، فلا يسخر من المستمع ولا من الآخرين بقدر ما يسخر من ذاته ومن عالمه، فيقول: “لسنا سوى نتاج عبثي لتاريخ طويل من الأخطاء”، قال ذلك وهو يتحدث عن بداياته كصحافي شاب في ليما عاصمة بيرو، ضاحكاً من نفسه حين وصف مقالاته الأولى: إنها مليئة بالأخطاء النحوية كغابات الأمازون.
أما في الروايات فجعل السخرية ترتدي ثوباً فنياً، وبدهاء، وخاصة في رواية “حفلة التيس”، حيث تتسلل السخرية إلى أوصال السرد، فتمنح القارئ مسافة تأمل بين القسوة السياسية والضحك الذي يتحول إلى كوميديا سوداء، أمام الديكتاتور وحاشيته، راسماً ملامح ساخرة ونحن بدورنا نبتسم بمرارة أمام مراقبتنا لمشهد انهيار القيم… وقدرته على الجمع بين الفضح والتهكم جعلت من يوسا أحد أبرز كُتّاب الواقعية النقدية في عالمنا المعاصر، وأيضاً رواية “المدينة والكلاب”، نلاحظ تعدد الشخصيات التي تتشابك حياة كل منهم لتشكل خلفية الرواية، مثل سرقة أسئلة الامتحانات في الكلية العسكرية، إلى جوهر الأحداث، والسرقات الكبرى، إلى مستوى بقية كتبه الملهمة، مثل محادثة في الكاتدرائية، وحلم السلتي والفردوس على الناصية الأخرى، وشيطانات الطفلة الخبيثة، ودفاتر دون ريغوبرتو…
رحل يوسا قبل ثلاثة أشهر، وبوفاته فقد العالم أحد رواد الأدب، وأكثر الأدباء بهجة وموهبة، وأحد من جعل الرواية بهذه الإمكانيات اللامتناهية القادرة على ابتلاع العالم أجمع
تظل السخرية لدى يوسا قيمة في كونها موقفاً فكرياً، وليست مجرد أسلوب بلاغي، فقد عَلّمَ يوسا الكُتّاب والمؤلفين مواجهة المآسي دون أن ينهار أمامها، وأن يضحك ليقاوم، في زمن تميل فيه الكتابة إلى انفعال مباشر، ليُذكرنا يوسا بأن السخرية العميقة قادرة على تفكيك أكثر المنظومات السيئة صلابة، وأنها تحرر، وليست هروباً كما نعتقد، ومن ناحية أخرى، هي ليست جداراً يعزلنا عن الواقع، بل نافذة تطل منها لترى ما هو أبعد من القناع الاجتماعي، وكيف نصوغ ضحكتنا بحذر وذكاء، وكيف نكتب عن الجراح بلغة تمزج الرهافة بالفطنة، وهنا تكمن فرادة ماريو فارغاس يوسا، بأنه كاتب ليضحك، ليكشف، ويبني من جديد..
رحل يوسا قبل ثلاثة أشهر، وبوفاته فقد العالم أحد رواد الأدب، وأكثر الأدباء بهجة وموهبة، وأحد من جعل الرواية بهذه الإمكانيات اللامتناهية القادرة على ابتلاع العالم أجمع، فأفكار كتاباته الروائية كلها حول السياسة من موطنه بيرو، إلى مدن العالم، وأفكار أصيلة تصل إلى جميع قراء العالم، وضعها من خلال ابتكاره الأبطال والشخصيات الأخرى، ومن أجل هذا الغرض، سردها كلها بروح الفكاهة.